المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
الشيكل الإسرائيلي: "ركائز" دولية تمتص أضرار الحرب. (صورة تعبيرية)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 54
  • وليد حباس

منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، ومع اندلاع أطول الحروب الإسرائيلية وأكثرها عنفًا على الفلسطينيين وإرهاقًا على الإسرائيليين، حافظ الشيكل الإسرائيلي على استقرار نسبي في أسواق المال، في سلوك يُخالف ما تفترضه الأدبيات الاقتصادية الكلاسيكية بشأن مصير العملات في أزمنة الحرب. فعادةً ما تكون العملة الوطنية للدولة أولى ضحايا الحرب: تهرب رؤوس الأموال، تتراجع الاستثمارات، تنخفض الثقة، وتتسارع وتيرة التضخم. وفي حال كانت الحرب مصنّفة كحرب إبادة، فإن التوقع الأكثر منطقيا هو فرض عقوبات اقتصادية بحق الدولة. لكن في إسرائيل لم ينهَر الشيكل، بل واصل أداءه المستقر، ما يستدعي وقفة تحليلية لفهم ما إذا كان هذا استثناءً أم أمرًا طبيعيًا بسبب خصوصية إسرائيل.

تستعرض هذه المقالة بعض أهم أسباب "قوة" الشيكل الذي صُمم كعملة مدعومة باقتصاد صناعي متطور، ومرتبط عضويًا بالمركز العالمي، ويحظى بثقة الأسواق الدولية. وفي ظل الحرب الإسرائيلية متعددة الجبهات في الشرق الأوسط، يبقى الشيكل محصنًا، ما يطرح سؤالًا: لماذا؟

الشيكل الإسرائيلي في أوقات الحروب

في العام 1980، تم استبدال الليرة الإسرائيلية (1948-1980) بالشيكل (1980-1986) في محاولة لاحتواء التدهور النقدي. إلا أن الأزمة الاقتصادية استمرت، ما دفع الحكومة إلى إطلاق "برنامج الاستقرار الاقتصادي" العام 1985، بدعم من الولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي. تضمّن البرنامج تجميد الأجور، وتحرير أسعار مختارة، وإطلاق العملة الجديدة – "الشيكل الجديد" (NIS) الذي طُرح العام 1986 – والذي ولد مربوطًا بسلة من العملات الأجنبية، ما أسهم في استعادة الاستقرار النقدي وتعزيز الثقة تدريجيًا.

عند إطلاقه، بلغ متوسط سعر صرف الشيكل الجديد نحو 1.36 شيكل مقابل الدولار. غير أن تقلبات الاقتصاد والسياسات النقدية لاحقًا دفعت السعر إلى 2.59 شيكل العام 1991، ثم إلى ذروته عند 4.47 شيكل في 2006، قبل أن يتراجع تدريجيًا إلى 3.77 شيكل في 2016، ويبقى عند هذا المستوى (يصل اليوم سعر صرف الدولار الأميركي إلى أقل من 3.50).

الشيكل الإسرائيلي الجديد (NIS) يُظهر استقرارًا ملحوظًا، حتى في أوقات الحروب والاضطرابات السياسية، ليس بفضل عوامل داخلية فقط، بل نتيجة دعم عميق ومستمر من القوى الرأسمالية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة. هذا الدعم ليس شعارًا سياسيًا، بل يُترجم إلى أدوات مالية ومؤسساتية حقيقية تدعم العملة الإسرائيلية:

  1. الولايات المتحدة توفر لإسرائيل مساعدات مالية مباشرة تتجاوز 3.8 مليار دولار سنويًا، معظمها عسكرية، لكنها تُصرف بالدولار وتدخل النظام المالي الإسرائيلي، مما يدعم ميزان المدفوعات ويزيد من احتياطيات بنك إسرائيل الأجنبية. هذا يتيح للبنك التدخل الفوري لدعم الشيكل في أوقات الأزمات. فعلى سبيل المثال، خلال حرب 2023–2024 على غزة، رغم شدة القتال، لم ينخفض الشيكل بشكل كبير، لأن بنك إسرائيل ضخ أكثر من 30 مليار دولار من احتياطاته في السوق لدعم العملة.
  1. تصدر إسرائيل سندات حكومية تُعرف بـ"Israel Bonds"، تُشترى من آلاف المستثمرين حول العالم، خصوصًا في الولايات المتحدة. منذ العام 1951، جمعت إسرائيل أكثر من 48 مليار دولار من هذه السندات، وتشارك في شرائها مؤسسات ضخمة مثل Morgan Stanley، BlackRock، وشركات تأمين أميركية. هذا يعني أن أسواق رأس المال الغربية متداخلة هيكليًا مع الاقتصاد الإسرائيلي، وتساهم مباشرة في دعم استقرار الشيكل.
  1. تتمتع إسرائيل بتصنيف ائتماني مرتفع من مؤسسات مثل Moody’s وFitch، مما يسمح لها بالوصول السهل إلى الأسواق المالية الدولية، ويُظهر أن مؤسسات التقييم العالمية ترى في إسرائيل "شريكًا آمنًا" رغم النزاعات المستمرة.
  1. أخيرًا، الشركات التكنولوجية الكبرى مثل Intel، Microsoft وGoogle لديها استثمارات ضخمة في إسرائيل، وتضخ مليارات الدولارات سنويًا في السوق المحلية، ما يُشكل مصدرًا دائمًا للعملة الأجنبية ودعامة لاستقرار الشيكل. كل هذا يجعل من الشيكل أكثر من مجرد عملة وطنية، بل رمزًا لعلاقة عضوية بين إسرائيل والنظام الرأسمالي العالمي.

الشيكل الإسرائيلي خلال الحرب (2023-2025)

أظهر الشيكل الإسرائيلي قدرة لافتة على الصمود، بل وتعزز، خلال فترة الحرب الممتدة بين عامي 2023 و2025، في مفارقة حادة مع التوقعات التقليدية التي تفترض أن الحروب الطويلة تقود إلى تدهور في قيمة العملات الوطنية. فعلى عكس هذا المنطق، سجّل الشيكل ارتفاعًا ملحوظًا، ليصل في أواخر حزيران 2025 إلى ما دون 3.40 في مقابل الدولار الأميركي. ويعكس هذا الأداء المعقّد تفاعل عوامل داخلية وخارجية. 

على الصعيد الداخلي، حافظت الحكومة الإسرائيلية على استقرار الشيكل والاقتصاد عبر تدخلات مدروسة وسريعة، مثل ضخ السيولة، وحماية البنوك، وضمان استمرارية عمل الأسواق المالية خلال الحرب. ورغم تضاعف ميزانية الدفاع من 60 إلى 118 مليار شيكل بين 2023 و2025، لم يتراجع الأداء الاقتصادي بفضل استمرار الصادرات التكنولوجية، وارتفاع أرباح الشركات الكبرى، وخاصة البنوك وشركات الصناعات الأمنية. كما لعب بنك إسرائيل دورًا حاسمًا في السيطرة على التضخم، وضبط أسعار الفائدة، وتثبيت ثقة المستثمرين، ما مكّن الاقتصاد من الصمود في وجه الأزمات وسمح للشيكل بالحفاظ على قوته رغم ظروف الحرب.

وقد أدت المواجهة مع إيران (حزيران 2025)، إلى تصاعد مؤقت في "علاوة المخاطر" على الاقتصاد الإسرائيلي، لكن "نجاح" العمليات العسكرية والدبلوماسية هدّأ من هذه المخاوف، مما زاد من ثقة المستثمرين الأجانب والمحليين. كما تمتاز إسرائيل بهيكل اقتصادي قوي يتضمن فائضًا في الحساب الجاري، واقتصادًا موجهًا نحو التصدير، واستثمارات أجنبية مباشرة خاصة في قطاع التكنولوجيا. إلى جانب ذلك، تلعب المؤسسات الاستثمارية الكبرى (المؤسسات المجمعة للمدخرات) دورًا محوريًا في تحويل استثماراتها من الخارج إلى الداخل، ما يزيد الطلب على الشيكل. كما أن ارتفاع الفائدة في إسرائيل مقارنة بالدول الغربية يعزز جاذبية الشيكل للمستثمرين. هذه العوامل مجتمعة أدت إلى تراجع سعر الدولار إلى مستويات غير مسبوقة، وقد يواصل الهبوط إذا استمرت المؤشرات على استقرار سياسي واقتصادي نسبي في إسرائيل. وفي هذا السياق، لا بد من استعراض أهم العوامل التي تساهم في قوة الشيكل والمرتبطة بالنظام الرأسمالي العالمي وثقة المستثمرين الدوليين:

أولا: الاندماج في الأسواق المالية العالمية

لقد تجلّى مدى اندماج إسرائيل العميق في الأسواق المالية العالمية بشكل واضح في العام 2025، حيث ضخّ المستثمرون الأجانب نحو 8.5 مليار دولار في أسواق رأس المال الإسرائيلية، وهو أعلى تدفّق ريعي منذ مطلع العام 2021. جزء كبير من هذا الاستثمار— نحو 5 مليار دولار— جاء جراء شراء مستثمرين أجانب للسندات الحكومية الإسرائيلية التي تم إصدارها بهدف تغطية عجز الميزانية وتمويل تكاليف الحرب. شمل الإصدار سلسلتين جديدتين من السندات الحكومية لأجل خمس سنوات وعشر سنوات، وقد تجاوزت طلبات الشراء 23 مليار دولار، أي ما يعادل 4.6 أضعاف المبلغ المعروض، مما يعكس هرولة المستثمرين الأجانب (بنوك، ودول وشركات استثمارية) في دعم الاقتصاد الإسرائيلي بغض النظر عن الإبادة. واعتبر المحاسب العام في وزارة المالية، يالي روتنبرغ، أن هذا الإصدار يعكس الاستقرار المالي لإسرائيل وثقة المستثمرين الدوليين، رغم التحديات الأمنية والسياسية. شارك في الشراء 300 مستثمر من أكثر من 30 دولة، من بينهم صناديق تقاعد وشركات تأمين وصناديق تحوط ومؤسسات مالية كبرى. وقد سبقت عملية الطرح جولات ترويجية أجراها مسؤولون إسرائيليون في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بعد التوصل إلى اتفاق أولي لوقف إطلاق النار مع حركة حماس في غزة. تولّى إدارة الإصدار خمسة من أكبر البنوك الاستثمارية العالمية، وهي: Bank of America، Citi Bank، Deutsche Bank، Goldman Sachs، وJ.P. Morgan، حيث قامت هذه البنوك بترويج السندات الإسرائيلية، وتنسيق عملية البيع وضمان نجاحها، مما يعكس عمق الثقة المؤسساتية العالمية في أدوات الدين الإسرائيلية بعد حوالي عامين من الحرب. بنك غولدمان ساكس لوحده تولى إصدار أكثر من 7 مليارات دولار من السندات الإسرائيلية منذ تشرين الأول 2023.

ثانيًا: البورصة الإسرائيلية والإنتاج الصناعي للعسكري

شهدت بورصة تل أبيب (TASE) خلال فترة الحرب الممتدة من 2023 إلى 2025 تحولات دراماتيكية في سلوك المستثمرين الأجانب، حيث بدأت بانسحابات ملحوظة في عامي 2023 و2024، قبل أن تنقلب المعادلة في العام 2025 بعودة قوية وتدفقات رأسمالية غير مسبوقة. ففي العام 2023، باع المستثمرون الأجانب أسهمًا بقيمة صافية بلغت 1.7 مليار شيكل، واستمرت هذه الموجة في العام 2024 مع صافي مبيعات بقيمة 1.3 مليار شيكل. لكن بحلول منتصف العام 2025، تغير الاتجاه جذريًا، إذ بلغ صافي مشتريات الأجانب نحو 9.1 مليار شيكل (حوالي 2.55 مليار دولار)، من بينها 2.5 مليار شيكل خلال شهر أيار وحده. وتركزت الاستثمارات في أسهم البنوك، التي استحوذت على 67-70% من إجمالي المشتريات، وخاصة بنك هبوعليم الذي أعلن عن أرباح قياسية بلغت 2.7 مليار شيكل. كما جذبت قطاعات الدفاع والتكنولوجيا، مثل Elbit Systems وNICE Systems، إلى جانب العقارات والتأمين، اهتمامًا متزايدًا في ظل توقعات بإعادة إعمار بعد التصعيد مع إيران. ورغم الحرب والاضطرابات السياسية، ارتفعت مؤشرات تل أبيب بشكل لافت: 29% لمؤشر TA-125 و28% لمؤشر TA-35 في العام 2024، فيما حقق مؤشر TA-125 عائدًا بلغ 19% في النصف الأول من 2025. ويعود ذلك إلى صلابة النظام المصرفي، وارتفاع أسعار الفائدة، وثقة المستثمرين العالميين المتجددة في أساسيات الاقتصاد الإسرائيلي، ما جعل السوق الإسرائيلية واحدة من الأفضل أداءً عالميًا رغم الأوضاع الجيوسياسية المتوترة.

ثالثا: هل فعلاً إسرائيل محصنة ضد العقوبات الاقتصادية؟

من بين الأسباب الجوهرية التي تفسّر بقاء الشيكل الإسرائيلي قويًا خلال فترة الحرب بين 2023 و2025، هي الثقة الضمنية في الأسواق العالمية بأن إسرائيل محصّنة، إلى حدّ كبير، ضد فرض عقوبات اقتصادية فعّالة. هذه القناعة لم تبقَ نظرية فحسب، بل تعززت عبر تطورات ملموسة في سلوك الأسواق وغياب أي إجراءات عقابية منسقة على المستوى الدولي. فلم تُفرض على إسرائيل، رغم تنامي الدعوات إلى عزل إسرائيل في الخطاب العام والشعبي، أي عقوبات اقتصادية واسعة النطاق من قبل القوى الكبرى أو المؤسسات الدولية. ظلّت حركة التجارة والتدفقات المالية الدولية مع إسرائيل مستقرة، بدون قيود على النظام المصرفي أو الصادرات أو الاستثمارات الأجنبية. كما حافظت وكالات التصنيف الائتماني، مثل "موديز"، على تصنيف إسرائيل عند مستوى استثماري (BAA1 حتى العام 2025)، بالرغم من الإشارة إلى المخاطر الجيوسياسية العالية، بدون أن تُدرج العقوبات كتهديد جدي.

وعلى هذا الأساس، عاد المستثمرون الأجانب بقوة في العام 2025، حيث سجلت مشترياتهم من الأسهم الإسرائيلية أرقامًا قياسية، ما يعكس قناعة المؤسسات المالية بعدم وجود خطر حقيقي من العقوبات أو انسحاب قسري من السوق الإسرائيلية. كما استمرت صادرات إسرائيل التكنولوجية، التي تمثل نحو 64% من إجمالي الصادرات و20% من الناتج المحلي الإجمالي، من دون أي انقطاع.

تعزز هذه الدينامية السوقية الاعتقاد بأن إسرائيل تتمتع بحصانة بنيوية من العزلة الاقتصادية، بفعل تحالفاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة ودول أوروبية وآسيوية رئيسية. فالمستثمرون يقرأون الواقع الجيوسياسي وموازين العلاقات والتحالفات ولا يقرأون مؤشرات العدالة والأخلاق، ويستنتجون أن غياب إجماع دولي غير مسبوق يجعل من العقوبات الواسعة احتمالًا ضعيفًا. وقد انعكس ذلك في استقرار الشيكل، وتراجع هامش المخاطرة على السندات الإسرائيلية، وتدفّق الاستثمارات الأجنبية—وهي مؤشرات قوية على أن الأسواق لا تأخذ سيناريو العقوبات الاقتصادية في الحسبان. بالتالي، فإن صمود الشيكل هو ليس نتاج عوامل اقتصادية بحتة، بل إنه أيضًا نتيجة مباشرة لإيمان الأسواق العالمية بأن إسرائيل، بالرغم من الحرب، ستظل جزءًا فاعلًا ومحميًا من المنظومة الرأسمالية العالمية.

المصطلحات المستخدمة:

الشيكل

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات