المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
سيارات صينية قيد الفحص في ميناء اسدود. (عن موقع كلكليست)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 120
  • عبد القادر بدوي

شكّلت العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل والصين مكسباً استراتيجياً مهماً للأولى، على الرغم من القلق المتزايد في ضوء التحديات والتعقيدات المختلفة التي تعتري العلاقة بينهما، ووفقاً لهذا التصور، فقد طوّرت إسرائيل علاقات تجارية مع الصين بشكلٍ لافت منذ مطلع الألفية الثالثة وبلغت ذروتها في العقد الثاني، حيث أصبحت الصين شريكاً تجارياً مركزياً لإسرائيل، وأسواقها باتت مصدراً مهماً لتنويع الصادرات الإسرائيلية وتوسيع نطاقها، خاصة في قطاعات التكنولوجيا، الزراعة، والمياه، بالإضافة إلى ما توفّره الواردات من الصين من حلول عملية لكبح غلاء المعيشة وتوفير بدائل أرخص للمستهلك الإسرائيلي.

وعلى الرغم من أهمية الفرص التي تنطوي عليها هذه العلاقة، فإن العديد من الاعتبارات شكّلت على مدار السنوات الماضية مصدر قلق وضغط إسرائيليين لتطويرها على المدى الاستراتيجي، أولها، الضغوط المتزايدة من واشنطن لتقييد التعاون مع بكين، خاصة في المجالات الحساسة كالبنية التحتية والتكنولوجيا الفائقة، وثانيها، إدراك إسرائيل لحساسية الموازنة بين تحالفها الاستراتيجي والمصيري مع الولايات المتحدة وبين مصالحها الاقتصادية المتنامية مع الصين. وفي ضوء الرغبة الإسرائيلية لتحقيق هذا التوازن، جاء هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 وحرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة ليضيفا تعقيداً إضافية لهذا التوجه، حيث برز الموقف الصيني الداعم لوقف إطلاق النار والمندّد بالحرب، وانعكاسات ذلك المحتملة على العلاقة الاقتصادية بينهما.

في مساهمات سابقة في ملحق "المشهد الإسرائيلي"، سلّطنا الضوء على التقديرات الإسرائيلية في ما يتعلّق بالعلاقة مع الصين في ضوء مواقفها "المتزنة" و"الحذرة" سياسياً، خصوصاً في ظل مساعي الصين للتأثير على الرأي العام الإسرائيلي، وسط تقديرات إسرائيلية بضرورة الحفاظ على علاقات مستقرّة مع الصين. هذه المساهمة، تستعرض أبرز ما تضمّنته دراسة إسرائيلية مطولة تتناول اتجاهات العلاقات التجارية بين إسرائيل والصين للعام 2024، وهي من إعداد تومر فدلون لمعهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي في جامعة تل أبيب، علماً أن الأفكار والمصطلحات الواردة أدناه لا تُعبّر عن وجهة نظر كاتب المساهمة أو مركز مدار.

العلاقات التجارية بين إسرائيل والصين في 2024: اتساع الفجوة بين الصادرات والواردات

تؤكّد الدراسة أن معطيات التجارة الخارجية بين إسرائيل والصين للعام 2024 تُشير إلى اتساع غير مسبوق في الفجوة بين الواردات والصادرات، في ظل تزايد الاعتماد الإسرائيلي على البضائع الصينية وتراجع ملحوظ في حجم الصادرات الإسرائيلية إلى الصين. فقد بلغ حجم التبادل التجاري أكثر من 16 مليار دولار العام 2024، بارتفاع بلغ نحو مليار دولار مقارنةً بالعام 2023 الذي سجّل 15.1 مليار دولار، غير أن هذا الارتفاع الكلي يخفي في طياته اختلالاً هيكلياً، إذ تسجّل إسرائيل واردات من الصين تتجاوز صادراتها بخمسة أضعاف، ما يجعل الصين الدولة التي تسجّل إسرائيل أمامها أكبر عجز تجاري.

ارتفاع التبادل التجاري، لكن لصالح الصين!

تُقدم الدراسة معطيات تفصيلية حول حجم التبادل التجاري، والتي تُشير بدورها إلى ارتفاع التبادل التجاري من 15.1 مليار دولار العام 2023 إلى 16.3 مليار دولار العام 2024. وبلغت الواردات الإسرائيلية من الصين 13.517 مليار دولار، في ما لم تتجاوز الصادرات الإسرائيلية إلى الصين 2.759 مليار دولار، ويمثل ذلك زيادة حادة في الاعتماد الإسرائيلي على البضائع الصينية، في مقابل تراجع واضح في الطلب الصيني على المنتجات الإسرائيلية، وخاصة في القطاعات التكنولوجية. من ناحية أخرى، تبلغ نسبة الواردات من إجمالي التبادل التجاري مع الصين نحو 83%، وهي أعلى نسبة تسجلها إسرائيل مقارنة مع أي شريك تجاري آخر تحتفظ معه بعلاقات اقتصادية واسعة النطاق، وهذه الفجوة تُعد مؤشراً مُقلقاً على ضعف الحضور الإسرائيلي في الأسواق الصينية، وتزايد الاعتماد الاقتصادي الإسرائيلي على منتجات بكين، ما يثير تساؤلات حول التوازن التجاري والاستراتيجي المستقبلي في ضوء التوجهات الإسرائيلية لتوسيع هذه العلاقات.

تراجع مستمر في الصادرات الإسرائيلية

يشير الاتجاه العام خلال السنوات الثلاث الماضية إلى تراجع تدريجي في حجم الصادرات الإسرائيلية إلى الصين، ففي العام 2022 بلغت الصادرات 4.7 مليار دولار، ثم تراجعت إلى 3.2 مليار دولار في العام 2023، لتنخفض بشكل إضافي إلى 2.8 مليار دولار في العام 2024. وكما تؤكّد الدراسة، فإن هذا الانخفاض الحاد يُمثّل تحدياً للصناعات التصديرية الإسرائيلية، خصوصاً تلك التي كانت تعتمد على السوق الصينية كوجهة أساسية. بحسب الدراسة، فإن جزءاً من هذا الانخفاض يعود إلى القيود الأميركية التي تُمارس على إسرائيل بخصوص تصدير تكنولوجيا متقدمة وفائقة إلى الصين، وقد أدت هذه الضغوط إلى تقليص صادرات إسرائيل من الشرائح الإلكترونية (chips) والتقنيات المرتبطة بها، وتحويل جزء كبير منها إلى دول أخرى مثل الولايات المتحدة وهولندا بدلاً من الصين، حيث يبدو أن الشركات الإسرائيلية العاملة في مجال التقنية الفائقة أصبحت تخضع لمتطلبات أكثر تشدداً بخصوص الشراكات أو التصدير إلى الصين، مما أثّر بشكل مباشر على أرقام التبادل التجاري. وفي إشارة مهمة، تؤكّد الدراسة أن جزءاً من الصادرات الإسرائيلية إلى الصين يُنقل عن طريق دول وسيطة مثل هونغ كونغ، وبالتالي، قد لا يظهر بالكامل في الإحصاءات الرسمية الثنائية، مما يزيد من صعوبة تقييم الأثر الكامل لهذا التراجع.

قفزة في الواردات من الصين والسيارات الكهربائية في المقدمة!

على النقيض من الصادرات، تشهد الواردات الإسرائيلية من الصين نمواً متسارعاً، لا سيما في قطاع السيارات الكهربائية، فقد ارتفعت واردات إسرائيل من السيارات الصينية إلى 2.037 مليار دولار في العام 2024، مقارنةً بـ 1.22 مليار دولار فقط في العام 2023، يمثل هذا المعطى زيادة بنسبة تقارب 67% خلال عام واحد، كما وتشكل واردات السيارات 15% من إجمالي الواردات الإسرائيلية من الصين، مما يجعل هذا القطاع أحد المحركات الرئيسة للفجوة التجارية بينهما. تُشير الدراسة إلى الشركات الصينية البارزة في هذا المجال، وتخلُص إلى أن الشركة الصينية الرائدة BYD  كانت أبرز المستفيدين من هذا التوسّع، حيث باعت أكثر من 40,000 مركبة كهربائية في السوق الإسرائيلية خلال العام 2024، وبهذا تُعد BYD الشركة الأكبر من حيث مبيعات السيارات في إسرائيل خلال العام، متجاوزة شركات عالمية تقليدية وحتى شركة تسلا التي تراجعت مبيعاتها نتيجة لانخفاض وارداتها من مصانعها في الصين. وبحسب الدراسة، فإن هذه المعطيات تعكس التحول في نمط الاستهلاك الإسرائيلي، حيث تزداد وتيرة اعتماد السوق على السيارات الكهربائية منخفضة الكلفة والمستوردة من الصين، على حساب السيارات المنتجة في أماكن أخرى أو تلك التي تباع بأسعار أعلى.

طبيعة الواردات من الصين

تُشير الدراسة إلى أن الواردات الصينية إلى إسرائيل لا تقتصر على قطاع السيارات فقط، بل تشمل طيفاً واسعاً من المنتجات الاستهلاكية اليومية، وتشمل الملابس، الأدوات الكهربائية المنزلية، الكاميرات، الشاشات، البطاريات والأثاث المنزلي، وهي سلع باتت تشكل جزءاً لا يتجزّأ من الحياة اليومية للإسرائيلي، ويعكس هذا التنوع مكانة الصين كـ "مصنع العالم" حيث تتدفق منها كميات ضخمة من البضائع إلى جميع أنحاء العالم، بما في ذلك إسرائيل. من ناحية أخرى، تؤكد الدراسة على أن هذه المعطيات تُشير إلى أن السوق الإسرائيلية أصبحت متداخلة بقوة مع شبكات التوريد الصينية، الأمر الذي قد يجعل أي اضطراب في العلاقات الثنائية أو في سلاسل التوريد العالمية، بما في ذلك توترات جيوسياسية في بحر الصين الجنوبي أو قرارات سياسية دولية، أمراً ذا أثر مباشر على المستهلك الإسرائيلي.

انعكاسات بنيوية للفجوة التجارية

تُشير الدراسة إلى أن الفجوة بين الواردات والصادرات، التي تُقدّر في العام 2024 بحوالي 10.8 مليار دولار، تُعد أكبر فجوة تسجلها إسرائيل مع أي شريك تجاري رئيس، وهذا الاختلال لا يحمل أبعاداً اقتصادية فقط، بل يُلقي بظلاله أيضاً على العلاقات الجيوسياسية، خصوصاً في ظل العلاقات المعقّدة التي تربط الصين بالولايات المتحدة، الحليف الاستراتيجي الأول والأهم لإسرائيل. ورغم ذلك، لم تؤثر التحذيرات السياسية أو التوصيات الأمنية التي أُطلقت داخل إسرائيل في الأعوام الأخيرة في الحد من التوسع التجاري مع الصين، بل العكس، فقد استمرت الشركات الإسرائيلية في استيراد كميات كبيرة من البضائع، مدفوعة بعوامل تتعلق بالسعر والكفاءة التكنولوجية، وهو ما يعكس القوة التنافسية للبضائع الصينية في السوق المحلية.

وبالإشارة إلى خلاصة المعطيات المركزية للتبادل التجاري بين إسرائيل والصين للعام 2024 فيُمكن تلخيصها على النحو التالي: حجم التبادل التجاري الكلي- 16.3 مليار دولار؛ الواردات الإسرائيلية من الصين- 13.517 مليار دولار؛ الصادرات الإسرائيلية إلى الصين- 2.759 مليار دولار؛ فجوة تجارية (عجز لصالح الصين)- 10.758 مليار دولار؛ نسبة الواردات من إجمالي التبادل- 83%؛ واردات السيارات من الصين- 2.037 مليار دولار؛ (15% من إجمالي الواردات)؛ انخفاض الصادرات منذ 2022- من 4.7 مليار دولار إلى 2.8 مليار فقط.

إجمالاً، تُشير الدراسة إلى أن العلاقات التجارية بين إسرائيل والصين شهدت تحولات جذرية في العقد الثالث من القرن الحالي، بعد أن اتسم العقد السابق بنمو مضطرد في الواردات والصادرات بين الجانبين، فقد استفادت إسرائيل من دخولها إلى الأسواق الصينية الكبرى، مما ساهم في تنويع وجهات التصدير وتقليص تكاليف المعيشة عبر الاستيراد، لكن العقد الحالي اتسم بالتقلبات، المتأثرة بأحداث عديدة مثل حرب الإبادة على غزة، والأزمة السياسية الداخلية، وعوامل دولية كجائحة كورونا والصراع الأميركي- الصيني. فقد شهدت هذه الفترة تراجعاً حاداً في التصدير التكنولوجي للصين وخضوعاً متزايداً للقيود الأميركية، وهو ما يوضح أن القرارات بشأن التجارة مع الصين لا تُتخذ فقط في إسرائيل، بل تتأثر أيضاً بالقرار في الولايات المتحدة، ورغم ذلك، فإن الانفصال الكامل عن الصين ليس وارداً، لا لإسرائيل ولا للدول الغربية، في ظل تشابك المصالح الاقتصادية.

وفي خاتمتها، تُقدّم الدراسة توصيات لإسرائيل في ضوء استمرار القيود خاصة في المجالات الحساسة مثل التكنولوجيا، إذ يجب أن يدفع ذلك إسرائيل لتعميق الحوار مع واشنطن لفهم الخطوط الحمراء وخلق مساحة للمناورة، وبالرغم من تزايد صادرات الصين، تظل دولة تعتمد على الاستيراد، مما يمنح إسرائيل فرصة للتوسع في تصدير سلع غير حساسة. أما على صعيد الاستيراد، فعلى إسرائيل أن تتابع عن كثب المخاطر المرتبطة بفيض المنتجات الصينية الرخيصة، والتي تهدد الصناعات المحلية وتزيد التبعية للصين، خصوصاً في ظل حروب التجارة والتهديدات كالحظر التركي، وفي ظل هذه المعادلة المعقّدة، تحتاج إسرائيل إلى موازنة دقيقة بين الأمن والمصلحة الاقتصادية، والحفاظ على تعددية علاقاتها التجارية عالمياً.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات