المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
فوز اليمين في إسرائيل.. ضربة عميقة للتوجهات "الليبرالية".   (أ.ف.ب)

أصبح في حكم المؤكد أن حكومة بنيامين نتنياهو السادسة، التي انطلق قطار تشكيلها بعد حصول نتنياهو على التكليف الرسمي من رئيس الدولة، سوف تضع في رأس سلم أولوياتها المهمة التي تحظى بإجماع أعضاء الائتلاف الحكومي الجديد، وهي: الحدّ من صلاحيات المحكمة الإسرائيلية العليا وإلغاء، أو تقليص حتى الحد الأدنى، قدرتها على ممارسة الرقابة القضائية على السلطتين التنفيذية (الحكومة) والتشريعية (الكنيست)، من خلال ما صار يُعرف على نطاق واسع بـ "فقرة التغلّب" التي يُصر جميع أعضاء الكنيست من الائتلاف الحكومي الجديد، وكذلك آخرون من خارجه، على "ضرورة تشريعها" قانوناً جديداً في إسرائيل وهو ما يثير، في الجهة المقابلة، نقداً شديداً وواسعاً وتخوفاً عميقاً من أن إجراء هذا التعديل القانوني قد يكون بمثابة "المسمار الأخير في نعش الديمقراطية الإسرائيلية"، لا سيما حيال تفشي مظاهر التغول العنصري والفاشي في إسرائيل، جماهيرياً ورسمياً، بما يثير قلقاً متزايداً من المس بحقوق الأقليات، القومية ـ العرقية والجندرية وغيرها، والتخلي الصريح عن حقوق الإنسان الأساسية والقيم الإنسانية التي تزعم إسرائيل بأنها تشكل "جوهرها" كـ"دولة يهودية وديمقراطية"!

وبحسب ما نقله موقع صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإلكتروني (واينِت) فإن شركاء نتنياهو في الائتلاف الحكومي الجديد، ناهيك عن كثيرين من أعضاء الكنيست من حزب نتنياهو نفسه (الليكود)، يصرون على تضمين نص الاتفاق الائتلافي الرسمي تاريخاً يحدّد موعداً أقصى لسن هذا التعديل القانوني الذي يرمي إلى الالتفاف على المحكمة العليا. ونقل الموقع عن مصادر مطلعة على المفاوضات الائتلافية إنه "ثمة إجماع واسع وواضح على ضرورة إحداث تغيير في النظام القضائي في إسرائيل وبدون ذلك، ليس من حق حكومة يمينية كهذه أن تتشكل أصلاً".  

مسعى قديم يتجدد بقوة في إثر الإنجاز الانتخابي   

في الوضع القانوني القائم اليوم، تمتلك المحكمة العليا صلاحية إلغاء قانون سنّه الكنيست إذا كان غير دستوري ـ أي، إذا رأت المحكمة أنه يتعارض مع قوانين الأساس الخاصة بحقوق الإنسان (وتحديداً، "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته"). لكنّ هذه الصلاحية ليست مثبتة في نص قانوني صريح وإنما هي نتاج التفسيرات القضائية التي أعطتها المحكمة ذاتها لـ"فقرة تغلب" أخرى أضيفت في العام 1994 على "قانون أساس: حرية العمل" (البند 8 منه) والذي كان الكنيست قد سنّه قبل ذلك بسنتين، في العام 1992، سوية مع "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته"، وهما القانونان اللذان اعتُبرا آنذاك "الثورة الدستورية" في إسرائيل، لتضمينهما للمرة الأولى وفي نص قانون أساس جملة من حقوق الإنسان الأساسية التي تحظى بمكانة دستورية وتتمتع بحماية دستورية. 

إذا ما قررت المحكمة العليا أن قانوناً ما، أو بنداً محدداً منه، غير دستوري، بالمعنى المذكور آنفاً، يصبح هذا القانون، أو البند المحدد منه، لاغياً وغير ساري المفعول. أما "فقرة التغلب" المراد سنها الآن فهي التعديل الذي يعني أنه سيكون بإمكان الكنيست الالتفاف على صلاحية المحكمة بشأن إلغاء القوانين وتجاوزها، أو إلغاء هذه الصلاحية تماماً. كيف؟ سيصبح بإمكان الكنيست أن يقرر مسبقاً أن شأناً معيناً لن يكون خاضعاً للرقابة القضائية (أي، أن يقرر أن المحكمة العليا لا تستطيع إلغاء قانون في مجال معين بسبب كونه غير دستوري)؛ أو أنّه بإمكان الكنيست إعادة سن قانون بأثر رجعي إذا ما قررت المحكمة العليا إلغاءه لأنه غير دستوري، بالرغم من كونه غير دستوري ويمس بحقوق الإنسان. 

هذا المسعى لتضييق رقعة صلاحيات المحكمة العليا الإسرائيلية، كجزء من "برنامج إصلاحي" أوسع يرمي في المدى الأبعد إلى إعادة هيكلة الجهاز القضائي في إسرائيل، بنيوياً وجوهرياً، ليس جديداً ولم يولد الآن في هذه الظروف المستجدة، بل هو مسعى قديم نسبياً بدأ، بصورة رسمية، في مطلع أيار من العام 2018 حين صادقت "اللجنة الوزارية لشؤون التشريع" في حكومة نتنياهو الرابعة، بإجماع أعضائها ورغم معارضة نتنياهو نفسه آنذاك، على سنّ "فقرة التغلب"، ثم أقرّتها الكنيست في اليوم التالي بالقراءة التمهيدية لكن المسعى توقف عند ذاك الحد آنذاك. ومن المهمّ الإشارة هنا إلى أن صاحب هذه المبادرة وقتها كان عضو الكنيست بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب "الصهيونية الدينية" اليوم (شريك "عوتمسا يهوديت"/ "قوة يهودية" بزعامة إيتمار بن غفير) الذي كان عضواً في حزب "البيت اليهودي" بزعامة الوزيرين في تلك الحكومة، نفتالي بينيت وأييلت شاكيد اللذين ساندا الخطوة، دفعا لتحقيقها ثم باركاها بالقول إن "الحكومة أطلقت اليوم عملية بناء جدار الفصل بين السلطات الثلاث، لأن تدخل المحكمة العليا في التشريعات القانونية وفي قرارات الحكومة قد تجاوز، منذ زمن، كل القواعد والأصول المرعية". 

فكرة "التغلب" هذه تتلخص في إضافة بند إلى "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" يمنح الكنيست صلاحية إعادة سن أي قانون، أو بند من قانون، في حال ألغته المحكمة العليا لاقتناعها بأنه غير دستوري، وهو ما يعني "التغلب على المحكمة العليا وقراراتها القضائية". ولتحقيق هذا الغرض، يتضمن التعديل القانوني المراد إدخاله ثلاثة عناصر مركزية، هي: أولاً ـ يستطيع الكنيست إعادة سنّ أي قانون تقرر المحكمة العليا إلغاءه على خلفية تعارضه مع "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته"؛ ثانياً ـ من أجل سنّ قانون ألغته المحكمة العليا، يحتاج الكنيست إلى أغلبية 61 عضو كنيست (فقط!)؛ ثالثاً ـ القانون الذي يجري سنّه من جديد يكون ساري المفعول لمدة أربع سنوات ويشار في نصه، صراحة، إلى أنه يسري بالرغم من "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته"!

وقد يُطرح هنا السؤال عن سبب تخصيص "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته" دون قوانين الأساس، بل القوانين الأخرى عموماً. والجواب على هذا السؤال هو أن هذا القانون، بصورة عينية، يشكل، في الواقع القانوني والقضائي الإسرائيلي، ما يمكن اعتباره "ميثاق حقوق الإنسان" غير المكتمل في دولة إسرائيل، إذ يضمن ـ سواء في نصه الصريح أو في التفسيرات القضائية التي أضافتها المحكمة العليا على نصوصه ـ الحقوق الأساسية الأكثر أهمية في النظام الديمقراطي، ومن بينها: الحق في الحياة، الحق في المساواة، الحق في الحرية، الحق في حرية التعبير، الحق في التظاهر، الحق في الكرامة الشخصية، الحق في حرية الحركة والتنقل، الحق في الخصوصية وغيره.  

على هذا، يبدو واضحاً تماماً أن "فقرة التغلب" كتعديل قانوني جديد تأتي لإفراغ قانون الأساس المذكور من مضمونه ولتجريده من مكانته الدستورية المحفوظة له حتى الآن، بما يفتح الأبواب على مصاريعها أمام الأغلبية الائتلافية (المتاحة تماما ـ 61 عضو كنيست!) لسنّ أي قانون ترغب فيه لضرب أية حقوق تراها "زائدة عن الحاجة" أو أن قطاعات معينة من المواطنين في البلاد لا تستحقها، بدون أن تبقى أية كوابح أو عوائق، قانونية وقضائية، يمكن أن تقف في طريق هذه الأغلبية البرلمانية وأن تحول دون فرض أيديولوجيتها في نصوص قانونية ملزمة، ثم في تطبيقها على أرض الواقع وفي شتى مجالات الحياة. 

من "التغلّب" على أزمة حكومية إلى "التغلب" على المحكمة والحقوق

"فقرة التغلب" تلك نصت على أن الكنيست مخول صلاحية سنّ قانون جديد حتى لو كان مناقضاً لنصوص قانون الأساس إياه (حرية العمل)، بمعنى انتهاكه للحق في حرية العمل، شريطة أن يكون (القانون الجديد) "بأغلبية أعضاء الكنيست وينص بشكل صريح على أنه ساري المفعول بالرغم مما يرد في قانون الأساس هذا (حرية العمل) وأن يسري مفعوله لفترة زمنية محدودة أقصاها أربع سنوات". 

هذه "الفقرة" التي أضيفت إلى نص "قانون أساس: حرية العمل" في العام 1994، جاءت لتتيح نقضه وانتهاكه "في حالات معينة وبشروط معينة"، وذلك لتجنب نشوء أزمة سياسية ـ ائتلافية آنذاك في أعقاب قرار حكم قضائي صدر عن المحكمة العليا (في العام 1993) وأجاز لشركة تجارية استيراد "لحوم غير حلال/ كاشير"، لأن منعها من ذلك يشكل خرقاً لقانون أساس: حرية العمل؛ الأمر الذي دفع حزب شاس الحريدي إلى التهديد بالانسحاب من حكومة إسحق رابين (الثانية) وائتلافها الحكومي وإيجاد أزمة حكومية ـ ائتلافية، إذا لم يجر تدارك الوضع وتعديل "قانون أساس: حرية العمل" بحيث يصبح بالإمكان منع استيراد اللحوم غير الحلال إلى إسرائيل. وهو ما حصل، فعلاً، حين سنّ الكنيست في آذار 1994 "فقرة التغلب" المذكورة كتعديل على القانون إياه. 

منذ ذلك الوقت، تعالت أصوات مختلفة في إسرائيل، كانت تشتد أحياناً وتخبو أحياناً أخرى تبعاً لتركيبة الحلبة السياسية وميزان القوى فيها، داعيةً إلى إضافة "فقرة تغلب" مماثلة على قانون الأساس التوأم ـ "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته". وكان الادعاء المركزي الذي طرحه الداعون إلى هذه الإضافة/ التعديل ومؤيدوه، في البدايات، أن المحكمة وقضاتها ليسوا هيئة أو أشخاصاً تم انتخابهم، بل هم يشغلون مناصبهم بالتعيين، ولذلك فليس من حقهم ولا من صلاحيتهم "إقحام تفسيراتهم القضائية على النصوص القانونية بما يؤدي إلى نقضها وإلغائها"، خاصة وأن هذه النصوص هي تشريعات قانونية وضعتها "الهيئة السيادية" (أي الكنيست) وأعضاؤها الذين هم "مُنتخَبو الشعب وممثلو إرادته، بالأغلبية الديمقراطية". 

غير أن هذا الادعاء لم يكن سوى حجة تقنية فقط سرعان ما شرع أصحابها في الكشف عن جوهر هدفهم (من إضافة "فقرة التغلب" على "قانون أساس: كرامة الإنسان وحريته") فبدأوا يتحدثون عن ضرورة "موازنة/ معادلة" القوة الهائلة التي أصبحت تمتلكها المحكمة العليا منذ الثورة الدستورية و"خلق حوار دستوري" بين السلطات المختلفة التي ينبغي أن يسود فصل تام بينها، لكن المحكمة العليا ـ بمسلكها في "فرض آرائها وإرادتها"، كهرم السلطة القضائية، على السلطتين الأخريين، التشريعية (الكنيست) والتنفيذية (الحكومة) ـ ألغت هذا الفصل ووضعت نفسها في مرتبة فوق السلطتين الأخريين؛ وهو ما اعتبره هؤلاء "تشويهاً للواقع القضائي" و"تهديم أسس الحكومة" في إسرائيل بدأ في العام 1992 بما وصفوه بـ "الانقلاب الدستوري" الذي نفذه قضاة المحكمة العليا، وفي مقدمتهم ـ كمتهم رئيس ـ نائب رئيس هذه المحكمة ثم رئيسها لاحقاً، القاضي أهارون باراك، مؤكدين أنه لا يجوز مواصلة الصمت على هذا "التشويه" بل ينبغي إصلاحه، في أسرع وقت ممكن. ثم واصل هؤلاء حملتهم المنظمة والمتشعبة هذه، والتي تجندت في إطارها تشكيلة واسعة من الأطر والمؤسسات اليمينية، الحزبية والبحثية ـ الأكاديمية والشعبية، فأصبحت المحكمة العليا وقضاتها بمثابة "عدوٍّ لشعب إسرائيل"، "عدوٍّ للاستقرار السياسي"، "عدوٍ للحكومة والحكم السليم" وما إلى ذلك، وليس من دون أن يطال الاتهام والتحريض المباشران قضاة المحكمة بشكل شخصي، في كثير من الأحيان. 

ولئن كان هؤلاء ادعوا ويدّعون بأن جذر مشكلتهم مع المحكمة العليا يكمن في أنها "تلغي تشريعات أقرها الكنيست كتجسيد لسيادة الشعب وإرادته"، إلا أن الحقيقة هي أن المحكمة العليا ومنذ العام 1992 لم تمارس صلاحياتها في إلغاء قوانين سنها الكنيست سوى 18 مرة فقط بل إن المحكمة كثيراً جداً، وغالباً، ما تعتمد الحذر الشديد في هذا المجال ولا تُقدم على إلغاء قوانين أو بنود منها إلا في حالات نادرة جداً، هي حالات اللامفرّ إجمالاً (للمقارنة، خلال الفترة نفسها، ألغت المحاكم العليا في بعض الدول عدداً أكبر بكثير جداً من القوانين: في ألمانيا ـ 206 قوانين، في كندا ـ 46 قانوناً، في أيرلندا ـ 36 قانوناً وفي الولايات المتحدة ـ 50 قانوناً فيدرالياً).   

إلا أن الهدف الحقيقي الأبرز الذي لم يعد معسكر مؤيدي "فقرة التغلب" هذه يجد أي حرج في الإفصاح عنه والجهر به، تدريجياً وبالتوازي مع ازدياد واتساع قوته السياسية والجماهيرية، هو إزاحة المحكمة العليا كعائق في طريق تشريع القوانين التي تكرس عدة طبقات من الفوقية والأولوية مقابل الدونية وما بينهما من تمييز ودوس حقوق أساسية ـ فوقية وأولوية اليهود على العرب، فوقية وأولوية اليهود على الغرباء، فوقية وأولوية الذكور اليهود على الإناث اليهود، فوقية وأولوية اليهود المنتمين إلى المعسكر "القومي" و"الديني القومي" على اليهود من المعسكر الآخر، "اليساري" و"العلماني"، فوقية وأولوية المغايرين جنسياً على المثليين جنسياً وغيرها من التقسيمات التي تؤول في المحصلة إلى عنوان رئيس: فوقية وأولوية الأغلبية، أياً كان نوعها، على الأقلية، من أي نوع كانت. 

هذا ما ينبه إليه أيضاً معارضو سن "فقرة التغلب" هذه، سواء في الأكاديميا الإسرائيلية أو معاهد الأبحاث أو في الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني الذين يحذرون من أن هذه الخطوة ستكون بمثابة وضع قدمي دولة إسرائيل على منحدر زَلق قد يقود إلى إفراغ "النظام الديمقراطي" فيها من أي مضمون وتدميره بالكامل، مشددين أيضاً على ما سيحلّ بـ"الأقليات" وحقوقها وحقوق أفرادها من جراء هذا التعديل القانوني، متجاهلين حقيقة أن المحكمة العليا الإسرائيلية، ورغم صونها لبعض حقوق الإنسان لأفراد من بين تلك الأقليات المختلفة، إلا أنها لم تشكل يوماً ما يمكن اعتباره سداً منيعاً، ولا حتى حامياً حقيقياً، أمام دوس حقوقهم وإلحاق شتى أشكال الظلم بهم، كأفراد وجماعات على حد سواء.   

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات