المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بدأ الكثيرٌ من خبايا اتفاقيات الائتلاف الحكومي القائم، يُترجم على الأرض، وربما أن أكثرها شائكة إسرائيليا، هي الاتفاقية المبرمة بين حزب الليكود بزعامة بنيامين نتنياهو، وبين كتلة أحزاب المستوطنين "البيت اليهودي"، بزعامة وزير التعليم نفتالي بينيت، الذي تمثل كتلته أساسا التيار "الصهيوني الديني" المتشدد المسيطر على المستوطنين والمستوطنات. وهذا التيار يحدد مهماته بعناية تامة، وفق استراتيجية وضعها لنفسه منذ سنوات، حقق منها الكثير في العقد الأخير، بزيادة تغلغله في أروقة سدة الحكم والسيطرة على مفاتيح هامة في النظام ودوائر القرار وبلورة الاستراتيجيات، ما لفت نظر وقلق الكثير من الأوساط العلمانية، والسياسية الليبرالية، ليتضح في هذه المرحلة أن هذا التيار بدأ أيضا يمد يده إلى شبكة العلاقات بين المؤسسة الإسرائيلية الحاكمة وأبناء الديانة اليهودية في العالم.

ومن هذه الخبايا ما هو هدف وزير التعليم بينيت من تسلمه أيضا حقيبة ما يسمى "يهود الشتات"، ومن مهماتها توثيق علاقة المؤسسة الإسرائيلية مع أبناء الديانة اليهودية في العالم، ومن خلالها قرر بينيت لنفسه أن يتولى مهمة "تنمية الشعور بالانتماء لليهودية" بين يهود العالم. وهو ما فجر خلافا قويا كان هامدا على مدى سنين، بين العلمانيين والمتدينين من التيار الصهيوني الديني. فكيف يمكن لتيار ديني متشدد دينيا وسياسيا أن يكون مكلفا بملف كهذا أمام تنامي الانفتاح والليبرالية بين أبناء الديانة اليهودية في العالم، بينما تشير الأبحاث إلى أن غالبية الأجيال اليهودية الشابة في أوطانها، تبتعد أكثر من غيرها عن الأطر الدينية اليهودية والصهيونية، وهي ظاهرة آخذة بالتنامي.

كذلك يأتي هذا التكليف في وقت يحتد فيه الخلاف بين المؤسسة الدينية اليهودية الإسرائيلية الرسمية، وبين مؤسسات وتيارات دينية يهودية في العالم، على خلفية التعامل مع الشرائع اليهودية، ففي حين تسعى تيارات دينية يهودية إلى اتباع توجهات أكثر ليبرالية دينيا، تمكّنها من ملاءمة نفسها مع توجهات الانفتاح، وتخفيف القيود، فإن المؤسسة الدينية الإسرائيلية تزداد تشددا، وترفض الاعتراف بالكثير مما يصدر عن مؤسسات الخارج الليبرالية، مثل التهويد، أو شهادات الحلال التي تصدرها وغيرها. ولذا فإن تسليم ملف العلاقة بين المؤسسة الإسرائيلية والمجتمعات اليهودية في أوطانها، من شأنه أن يؤزم العلاقة الدينية القائمة أكثر.

وأبرز معالم هذا الخلاف الذي تفجر في الأيام الأخيرة نشب، كما ذكر، في أعقاب تكليف الوزير بينيت بإدارة مشروع يهدف إلى تعزيز انتماء أبناء الديانة اليهودية في أوطانهم، لديانتهم وللحركة الصهيونية، بعد أن أظهرت سلسلة من الأبحاث تراجعا حادا في هذا الانتماء، ما زاد من قلق الصهيونية العالمية، كون الانتماء هو مصدر أساس للهجرة إلى إسرائيل.

وقد رصدت الحكومة الإسرائيلية 150 مليون دولار لهذا المشروع، عدا ما تصرفه الحركة الصهيونية بمئات الملايين. واعترضت على هذا التكليف الوكالة اليهودية- الصهيونية، إذ اعربت عن تخوفها من أن يتحول هذا المشروع إلى مشروع حزبي يسيطر عليه التيار الصهيوني الديني المتشدد، ما يجعل نجاحات المشروع محدودة، نظرا لطبيعة مجتمعات يهود العالم التي تطغى عليها الليبرالية.

أزمة الانتماء

وتُكثِر معاهد الأبحاث الصهيونية في السنوات الأخيرة من الحديث عن تراجع الانتماء لدى أبناء الديانة اليهودية في العالم لديانتهم، ما يزيد من ابتعادهم عن المؤسسات الدينية والتربوية والتعليمية اليهودية، وبالتالي الابتعاد عن المؤسسات الصهيونية، وعن الشعور تجاه الكيان الإسرائيلي. وما يزيد قلق إسرائيل والصهيونية أن تراجع الانتماء بات يطال أيضا أبناء اليهود الذين هاجروا من إسرائيل منذ سنوات ويقيمون في الخارج.

وقال أحد أهم الأبحاث المعمقة، التي أجريت في هذا المجال ونشر في السنوات الأخيرة وتركز أساسا في الوضع القائم بين الأميركان اليهود الذين يصل عددهم إلى 25ر5 مليون نسمة، إن 50% من الشبان الأميركان اليهود يندمجون في ديانات أخرى، ويتخلون عن اليهودية. كما أن 50% من الشبان الأميركان اليهود لا يشعرون بأي انتماء لإسرائيل، وأن 20% فقط من الأميركان اليهود دون سن 35 عاما يشعرون بانتماء قوي لإسرائيل، وأن 70% من الأميركان اليهود لم يزوروا إسرائيل إطلاقا.

وقد أعد هذا البحث أكاديميون من معهد "هيبرو يونيون كوليج" وجامعة "كاليفورنيا ديفيس"، في الولايات المتحدة، وشمل 1700 شخص من الأميركان الشبان أبناء الديانة اليهودية.

وتبين من البحث أنه كلما قلّ عمر الشاب من هؤلاء تراجعت نسبة الشعور بالانتماء لإسرائيل و"رؤية أهميتها بالنسبة لهم"، إذ لم يعر 52% من المستطلعين أهمية لإمكانية إبادة إسرائيل، فيما اعتبر 48% منهم أن إبادة إسرائيل هو كارثة شخصية بالنسبة لهم، بينما هذا الشعور "بالكارثة" يرتفع بين أبناء جيل 65 عاما وما فوق من الأميركان اليهود إلى 78%.

وقال المشرفان على البحث البروفسور ستيفان كوهين والبروفسور آري كالمان إن الهبوط الدائم في نسبة الشعور بالانتماء إلى إسرائيل لدى الأجيال الناشئة يدل على أن الجمهور اليهودي في الولايات المتحدة يتجه نحو التلاشي.

ويضيف الأكاديميان أن هذه الظاهرة تنطوي على عامل ايجابي، وهو الاندماج الناجح في المجتمع الأميركي، لكن من جهة أخرى فإن حجم الجمهور اليهودي في الولايات المتحدة يتقلص، أساسا بسبب الزواج المختلط. وقال أحد التقارير إن نسبة الزواج المختلط مع ديانات أخرى في الولايات المتحدة يصل إلى 50% وحتى أكثر، بينما ترتفع النسبة في دول الاتحاد السوفييتي السابق إلى أكثر من 70%.

ونذكر في سياق توقعات تقلص أعداد اليهود، أنه في العامين الأخيرين تحاول معاهد تخصصية تابعة للوكالة اليهودية، وأخرى تقدم خدماتها للوكالة، اعادة حسابات تعداد الأميركان اليهود، بأخذ من لا تعترف المؤسسة الدينية اليهودية بيهوديتهم، ضمن أعداد اليهود، ولهذا شهدنا أعدادا مختلفة عما سبق، فبدلا من 25ر5 مليون نسمة، مع توجه تراجع دائم في العدد، بدأنا نقرأ عن قرابة 5ر5 مليون يهودي. وتحدث أحد الاستطلاعات عن أكثر بكثير إلا أن من تعترف بهم المؤسسة الدينية الرسمية الإسرائيلية يبقى هو الأساس بالنسبة لإسرائيل.

كما أشار بحثان آخران إلى أن أبناء الإسرائيليين الذين يولدون في الخارج لوالدين هاجرا من إسرائيل يبتعدون بقدر كبير عن "الهوية والثقافة الإسرائيلية"، حسب تعبير البحثين اللذين بحثا ما إذا العائلات الإسرائيلية المهاجرة إلى الخارج تهتم بالحفاظ على "هويتها وثقافتها الإسرائيلية" خلال إقامتها في الخارج، أم أنها تتبنى هوية وثقافة الدول التي هاجرت إليها. وتبين أنه على الأغلب فإن الوالدين فقط أو البالغين من أبنائهما يحافظون بقدر ما على هذه الهوية والثقافة، بينما تضعف بقدر كبير لدى الأبناء الذين ولدوا في الخارج.

ومن أهم أسباب تراجع أعداد اليهود في العالم هو الاندماج في شعوبهم، وخاصة من خلال الزواج المختلط، إذ حسب الشريعة اليهودية يتم الاعتراف بيهودية الشخص فقط إذا كانت والدته يهودية، بغض النظر عن ديانة والده، في حين لا يتم الاعتراف بأي شخص والده يهودي ووالدته ليست يهودية. إلا أن غالبية أبناء اليهوديات، الذين آباؤهم ليسوا يهودا لا يعتبرون أنفسهم يهودا، أو أنهم في جيل متقدم يتخلون عن ديانة أمهاتهم، خاصة إذا كانوا خارج إسرائيل، وتتراوح نسبة الزواج المختلط بين اليهود في العالم من 35% إلى 80%، وأعلى النسب نجدها في روسيا والجمهوريات المحيطة بها.

كذلك فإن اليهود في أوطانهم يتأثرون بثقافاتهم الوطنية في تلك الدول، فمثلا في السنة الأخيرة استغلت إسرائيل تفجيرات وقعت في فرنسا لتحفيز الفرنسيين اليهود على الهجرة اليها، إلا أن الكثير من المحللين والخبراء الإسرائيليين أشاروا إلى أن الغالبية الساحقة جدا من الفرنسيين اليهود لن تستطيع التعايش مع الأجواء القائمة في إسرائيل، بسبب نظرتها الليبرالية وقيم حقوق الإنسان العالية لديها.

برامج حكومات إسرائيل

وقد أوصى أحد تقارير "معهد تخطيط سياسة الشعب اليهودي"، التابع للوكالة اليهودية- الصهيونية، ويرأس مجلس ادارته دينيس روس، المستشار السابق للرئيس الأميركي باراك أوباما، بأن تنشط إسرائيل بين الأجيال الشابة لتنمي وتعمق لديهم شعور الانتماء لإسرائيل، من خلال استخدام وسائل وأساليب جديدة من أجل رفع مستوى الاندماج والعلاقة بين إسرائيل واليهود في المهجر، ومن أجل ضمان وحدة يهود العالم على المدى البعيد.

وأوصى المعهد بعدة إجراءات ومن بينها: 1- إقامة أكاديمية لقيادة "الشعب" اليهودي، تعالج الأسئلة المصيرية التي يواجهها اليهود في العالم وكيفية معالجتها على المدى البعيد، 2- أن تشدد إسرائيل على عدم زج "الجاليات اليهودية" وقادتها في العالم في أوضاع ينجم عنها "تضارب المصالح"، 3- استقدام شبان يهود إلى إسرائيل ليقيموا فيها سنة واحدة على الأقل، وفي المقابل إرسال شبان يهود من إسرائيل ليعيشوا بين "الجاليات اليهودية"، وعلى ما يبدو فإن القصد هو التغلغل لتحفيز اليهود على الهجرة إلى إسرائيل، خاصة وأن بندا آخر يدعو إلى إعداد برامج جديدة وسريعة تشجع على الهجرة إلى إسرائيل.

وأجرت الحكومات الإسرائيلية منذ العام 2006، إبان حكومة إيهود أولمرت، وحكومات بنيامين نتنياهو الثلاث الأخيرة، سلسلة من الأبحاث واتخذت قرارات تهدف إلى أن تأخذ الحكومة دورا في نشاط الحركة الصهيونية، في محاولة لصد ظاهرة الابتعاد عن اليهودية والصهيونية. وكما ذكر ففي الأيام الأخيرة رصدت الحكومة 150 مليون دولار، وسلمتها لوزارة ما يسمى "يهود الشتات"، والوزير بينيت، من بينها 50 مليون دولار من الموازنة العامة، و100 مليون دولار سيسمح للوزارة بجمعها كتبرعات.

إلا أن ممثلين لمنظمات صهيونية في العالم ومعهم رئيس الوكالة اليهودية (الصهيونية) العالمية، نتان شيرانسكي، يعترضون على ايداع مشروع "تعزيز الهوية اليهودية"، بيد الوزير بينيت، كونه من التيار الصهيوني الديني المتشدد، خاصة وأن بينيت وطاقمه بدأوا يتحدثون عن تعزيز انتماء "العائلة اليهودية" لليهودية، ما يعني التركيز على المفاهيم الدينية أكثر من الانتماء السياسي العام.

وقال مصدر في وزارة "يهود الشتات" لوسائل إعلام إسرائيلية إن المفهوم العام للحالة اليهودية العالمية يقول، "إنه في السنوات الأخيرة نشهد تراجعا مستمرا في الهوية اليهودية بين المجتمعات اليهودية في انحاء العالم"، وهذه الصيغة هي المقبولة على جميع الجهات اليهودية، إلا أن الوزير بينيت وطاقمه بدأوا يتحدثون عن "العائلة اليهودية"، ما أثار اعتراضا بين أوساط يهود العالم، لما يوحي به ذلك من تدخل في تفاصيل الحياة الخاصة، ومن دخول في قضايا دينية مختلف عليها.

وقد بعث شيرانسكي، ورئيس مجلس أمناء "الوكالة اليهودية" تشارلز ريتنر، برسالة إلى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يعربان فيها عن رفضهما ورفض "الوكالة" التعامل مع بينيت في هذا الملف. ومما جاء في الرسالة: إننا نشعر لزاما علينا أن نبلغك بأننا لن نستمر بالتعاون مع مبادرة تعزيز الانتماء، بعد التعديل الذي أجرته "وزارة الشتات". وشدد الاثنان على أن التعديل الجديد يتناقض مع جوهر المبادرة، كما أن هذا التعديل سيخل بالحوار القائم مع المجموعات والمنظمات اليهودية في العالم. وحذرا من أن هذه الحوارات ستتوقف، بعد أن تحول المشروع إلى وزارة حكومية، وبيد شخص واحد يحدد سياستها.

ونقلت صحيفة "هآرتس" عن مسؤول في احدى المنظمات اليهودية تساؤله: "هل ستقول حكومة إسرائيل الآن للمجتمعات اليهودية في العالم، كيف تدير العائلات نفسها"، خاصة وأن الخلاف بين الطوائف الدينية اليهودية يحتد في إسرائيل والعالم، بين التيارات المتشددة والليبرالية، وقد كانت هذه الخلافات في أحيان كثيرة أسباب أزمات في حكومات إسرائيل المختلفة.

وقالت صحيفة "هآرتس" في مقال باسم أسرة التحرير "لا يحق للحكومة أن تعظ لليهود في أرجاء العالم أي خلية أسرية عليهم أن يقيموا. فمثل هذا الادعاء يمثل تعاليا ضارا، بل وتنضح منه رائحة عنصرية... إن العلاقة مع يهود الشتات تتطلب الحوار والاعتراف بشرعية المواقف المختلفة والمتنوعة. اما خطة وزارة الشتات فهي النقيض لذلك".

ويقول الكاتب الإسرائيلي المعروف إسحاق ليئور، في مقال له انتقد تكليف بينيت بهذه المهمة وتزايد نفوذه في الحكم، بشكل يعكس قلق العلمانيين وذوي التوجهات اليسارية مما يجري، إنه يبدو "بعد الانتخابات (البرلمانية) أننا استيقظنا مع كثير من البينيتيين (نسبة إلى بينيت) الذين يطاردون اللاجئين الأجانب والفلسطينيين، ويشاهدون وقاماتهم منتصبة المضربين عن الطعام وهم يموتون. هؤلاء هم اليمين الجديد الذي يدوس على ما تبقى. فأييلت شاكيد (وزيرة العدل) تقود الحملة ضد المحكمة العليا، وميري ريغف (وزيرة الثقافة) تقود "الثورة الثقافية"، وداني دانون يعتمر القبعة ويقول للعالم كم نحن استثنائيين. وهذا اليمين الجديد يجند المستوطنين وفقراء جنوب تل أبيب والمتطرفين الشرقيين".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات