المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لا أعرف بالضبط ما الذي يختبئ وراء النية لتوسيع دراسات التناخ في المدارس الإسرائيلية ولتشجيع دورات تعليم شعبية في مواضيع تناخية للجمهور الواسع، كما نشر مؤخراً. لكن إذا كان القصد من ذلك يتمثل بإغناء اللغة العبرية والتعمق في تاريخ شعب إسرائيل القديم، فهو مبارك، شريطة أن يتم من خلال فحص نقدي للعناصر الأولى المؤسسة للهوية اليهودية ـ الإسرائيلية، كما تبلورت في التناخ.

إن الفرضية الشائعة، التي تقول بأن قصص التوراة وأحاديث الأنبياء تشكل، على نحو جارف، قاعدة الصهيونية، هي فرضية غير دقيقة، على الرغم من الأهمية الكبيرة التي أولاها دافيد بن غوريون ورفاقه لتعليم التناخ. فالتناخ هو مجموعة قصص متعددة الأوجه، غنية ولا نظير لها، ميثولوجيا أدبية، قانون وقضاء، لكنه يفتقر إلى التماسك الأيديولوجي وإلى المنهج الأخلاقي المتجانس أو غير القابل للتأويل.

ومع ذلك، يبقى التناخ مصدرا ثابتا عظيم الأثر للهوية الإسرائيلية واليهودية، أكثر مما يشكله القرآن بالنسبة للمسلمين أو العهد الجديد بالنسبة للمسيحيين، ذلك أن التناخ ليس مصدر إلهام وتوجيه دينيّ فحسب، وإنما قومي أيضا، وبالأساس. وعليه، فإن بحثاً دقيقاً ومعمقاً في التناخ يمكن أن يكشف المصدر ويعمق الفهم بشأن بعض الإخفاقات الحادة التي مني بها الشعب اليهودي في مسار تاريخه طويل السنوات، كما بشأن بعض الإخفاقات التي قد تتربص بالشعب اليهودي مستقبلا، لا قدّر الله.

إن أية محاولة لفهم البنية الأساسية للهوية اليهودية ينبغي لها أن تنطلق من ذلك الربط الأولي بين دين محدد (صاحب إلهام، رؤيا وبشرى كونية) وشعب محدد- شعب إسرائيل. من هذه الزاوية، فإن عيد نزول التوراة هو حدث مؤسس لفهم هذا الربط. وليست ثمة أهمية للسؤال ما إذا كان ذلك حدثا تاريخيا حصل فعليا في صحراء سيناء قبل آلاف السنين أم أنه مجرد حدث شعوريّ ـ ميثولوجي ذي مغزى ديني واسع، تبلور في عهد الهيكل الثاني. إن حقيقة إصرار شعب إسرائيل ومواظبته على الاحتفال، طيلة آلاف السنين، بعيد نزول التوراة، وسط قضاء ليلة العيد بالدراسة والتفكر، طبقاً للتقاليد، تثبت أن لهذا الحدث الشعوري من القوة والتأثير والثبات ما يفوق الكثير من الأحداث التاريخية.

وحريّ بالتوضيح، منذ الآن: إن هذا البحث في ماهية الربط المذكور لا يتم بغية الدرس الفكريّ الثقافي فحسب، بل لغاية عملية، يدفعني الادعاء الأخلاقي إلى وصفها بـ"الإصلاح" (ليس "إصلاح العالم" بما هو تعبير خاو وصلف، بل "إصلاح شعب إسرائيل").

وتقوم عملية البحث والاستجلاء هنا على أساس الفرضية التي عبّرت عنها مرارا ومفادها أن هذا الربط المميز بين دين محدد وشعب محدد ينطوي على جملة من المشكلات الأساسية، الأخلاقية والوجودية، بما يتصل بوجود الشعب وأدائه في مسيرة التاريخ البشري وحتى يومنا هذا. وهذا ليس فقط بسبب المصائب الخطيرة والغريبة التي حلت به منذ نشأته، والتي بلغت ذروتها في الهولوكوست، وإنما أيضا بسبب حقيقة أنه لا يزال شعبا صغيرا جدا من حيث تعداده، على الرغم من سنّه المفرط، ما يزيد عن ثلاثة آلاف سنة.

بناء على هذا، من شأن البحث الاستقصائي في هذا الربط الذي حصل في سيناء أن يعين على فهم المكوّنات الأساس للهوية اليهودية كما تبلورت في بداياتها ولا تزال على حالها في جوهرها، بالرغم مما انضاف إليها من مضامين عديدة ومختلفة.

هل تم في سيناء صَهرُ الدين والشعب معاً أم إلصاقهما فقط؟

إذا ما تمعنّا في الهوية اليهودية كما في أحشاء حاسوب، فسينصبّ جهدنا المركزي في هذا الاستجلاء على محاولة فهم آلية تشغيلها، مكوّناتها المادية، قبل التطرّق إلى البرمجيات والملفات التي تم زرعها وتجميعها في هذه الهوية عبر الأجيال.

أما السؤال الذي يقف في صلب هذا الاستيضاح فبالإمكان صياغته، مجازياً، على النحو التالي: هل تم، لدى نزول التوراة في سيناء، صَهرُ الدين والشعب معاً، أم تم إلصاقهما / إلحامهما معاً فقط؟ أو، بكلمات أخرى: هل كانت درجة الحرارة في سيناء، وقت نزول التوراة، مرتفعة إلى مستوى كاف لصهر التوراة التي تلاها موسى، أو الرب، ضمن كتلة واحدة متجانسة مع قومية أو شعوبية (من شعب) بني إسرائيل إلى حدّ يصبح من غير الممكن الفصل بين هذين المركّبين، أم لم تكن درجة الحرارة في سيناء مرتفعة كفاية فتم إلحام توراة إسرائيل (الدين) فقط في أحشاء القومية، أو الشعوبية اليهودية، بحيث سيكون ممكنا ربما، ولو بجهود فائقة وبدرجة حرارة مضادة، ليس فقط الفصل بين هذين العنصرين، وإنما إلحاق مواطنين إسرائيليين آخرين، أبناء ديانات أخرى، بالقومية الإسرائيلية أيضاً؟

إن كاتب هذه السطور يؤمن بأن عملية الصهر في "جبل سيناء" (طور سيناء/ جبل موسى) لم تنجح، برغم الجهود التي بذلها موسى والرب، وكل ما حصل لم يكن سوى عملية إلحام بين الدين المحدد والقومية المحددة.

ثمة أسباب عديدة لهذا الفشل، لكنه نجم ـ في رأيي ـ عن قصور أخلاقي مبدئي، بصورة رئيسة، كان متضَمَّنا في عملية الإلحام هذه. فالانتماء القومي لا يمكن أن يكون مشروطاً بمعتقدات، آراء أو أفكار، بل يُفترض أن يكون متحررا من أي شرط، كما هو الانتماء العائلي.

إن القاتل، أيضا، هو ابن أمه وأبيه. قد يشجبانه، يلعنانه أو يُبعدانه، لكنهما لا يستطيعان اجتثاثه من عائلتهما والادعاء بأنه ليس ابنهما. وكذا هو الجاسوس أو القاتل الجماعي ـ ابنان شرعيان لشعبهما. قد يُحكم عليهما بالإعدام ويُعدمان، لكن من غير الممكن لفظهما خارج القومية التي ينتميان إليها، رغم أفعالهما الفظيعة. كان قادة النظام النازي، جميعا، ألمانيين أبناء شرعيين للقومية الجرمانية وليس من حق أي ألماني التنكر لهويتهم الألمانية أو سلبهم إياها. بل أكثر من هذا ـ من واجب الشعب الألماني الاهتمام بأبنائهم وضمان رعايتهم، في إطار الواجب الاجتماعي بشأن رعاية أية أرملة وأي يتيم.

لكن في الجانب الآخر، هناك الدين، الذي يَعـِدُ بالخلاص ويؤشّر إلى الطريق العملي والأخلاقي لسلوك الإنسان، لكنه لا يستطيع التوقف عند الحدّ القومي، بل ينبغي أن يكون متاحاً ومفتوحاً، بصورة فعلية، أمام أي إنسان، أياً تكن قوميته.

هكذا هي الأديان الكبرى كلها ـ الإسلام، المسيحية والبوذية. وإذا كان الرب وفق الديانة اليهودية هو رب الكون كله، "مالك السماء والأرض"، فمن غير الممكن أن يتوقف عند حدود قومية لشعب ما وأن يكون متاحاً ومُلزماً لشعب واحد فقط.

إنها مسألة مبدئية، من كلا جانبيها. والمشروع الطـَّموح والفريد الذي أُطلق في طور سيناء قد فشل حقاً: لم ينجح الصهر ولم يتبق سوى الإلحام الذي يتأرجح، من حين إلى آخر، على صدوع وصلاته ولا يزال يشكل، حتى يومنا هذا، مصدرا أولاً وعظيم الأثر في الخلافات السياسية، الثقافية والروحانية في صفوف شعب إسرائيل.

إنه، في الحقيقة، خط العمق الذي يقسم، منذ القدم، الكينونة اليهودية بكل تجلياتها، بين "لا (شعب) إسرائيل إلا بتوراته" (وقد تكون هذه، أيضا، فكرة أو بشرى علمانية تقليدية) وبين "لا إسرائيل إلا بقوميته أو شعوبيته"، وكل ما يضاف إلى هذه القومية قد يكون ذا أهمية وقيمة لكنه غير ضروري لمجرد الانتماء إلى القومية. ويتضح هذا الأمر جيداً حتى في التعريف الديني لليهودي: "ابن لأم يهودية"، وليس "مَن يؤمن بتوراة موسى".

لكن محاولة الصهر التي لم تنجح، وكذلك الإلحام المتأرجح على مزقه، تسببا وما زالا يتسببان بأضرار بنيوية جوهرية في فهم القومية اليهودية ـ الإسرائيلية، وخاصة في كل ما يتصل بمصطلح الوطن. فليس ثمة شعب بدون وطن. والوطن هو أساس هوية الشعب. الوطن هو المنطقة الجغرافية التي تحدّد سكانها وتجعلهم شعباً.

الوطن هو المصطلح الأكثر أهمية في الهوية القومية. في اللغة العبرية، كما في لغات أخرى أيضا، يحتل الوطن مكانة هامة، مثل الأب أو الأم اللذين يمنحان مولودهما هويته ويواصلان رفده بها طوال حياته كلها. وتنطوي كلمة "وطن" بالعبرية ("موليدت") على معنى "الولادة" ("هولَداه"). لا يستطيع شعب تعريف هويته من دون وضع الوطن، على كل ما فيه من معان ودلالات، في رأس سلم الأهمية. قد تتبدل عاداته وتقاليده، آراؤه وتوجهاته، ديانته وثقافته، وحتى لغته ـ قد تتعرض كلها لتحوّلات وتغيّرات، لكن الوطن يبقى هو الأساس الثابت غير المتغيّر.

مركّب الوطن

بالطبع ينبغي أن يكون لشعب إسرائيل، أيضاً، وطن. لكن، بما أن ديانة توحيدية محددة، قوية وغنية، ستُلصق به، بحيث تحدّد ماهية علاقته بربّه، فإن على مركّب الوطن أن يكون ضعيفاً في بنية الهوية، وتحت إمرة الرب، إشرافه وشروطه. ولذا، فمنذ ظهور اليهودي الأول على مسرح التاريخ، أبونا إبراهيم (وليس مهماً ما إذا كان كذلك حقاً أم لا)، كان أول ما تعرض له هو المسّ، أو التخريب، المقصود بانتمائه الطبيعي إلى وطنه: "إذهب من أرضك ومن وطنك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك" (سفر التكوين، 1:12). ثمة هنا ثلاثة مكوّنات جوهرية قوية تمّ كسرها في آية واحدة: الأرض، الوطن، بيت الأب، لتحلّ مكانها، بدلا منها، أرض هي ليست بوطن، بل بلاد مقدسة، بلاد موعودة، منطقة جغرافية ستكون تحت رحمة الرب ومراقبته. فلا عجب، إذن، أن يكون "الصاعد الأول" هو نفسه "النازل الأول"، وإذ تعمّ المجاعة أرض إسرائيل، يغادر إبراهيم البلاد (التي ليست وطناً) "هابطاً" إلى مصر ("القادم الجديد الأول إلى أرض إسرائيل" هو سيدنا إبراهيم، طبقا للمعتقد الديني اليهودي. و"النازل" هو الوصف الذي يطلق، بالعبرية، على اليهودي الذي يغادر إسرائيل مهاجراً منها ـ المترجم).

والمجاعة التي تعود إلى البلاد تدفع بحفيد إبراهيم- يعقوب- وجميع أبنائه إلى الهرب من أرض إسرائيل إلى مصر، فيبقون هناك جميعاً حتى يومهم الأخير. والعلاقة الوحيدة التي تربط يعقوب بوطنه تنعكس في طلبه إحضار جثمانه للدفن في أرض إسرائيل، كأنما الوطن الحقيقي جدير بحضور اليهودي بعد مماته، فقط.

لماذا لم يعد يعقوب وأبناؤه إلى أرض إسرائيل بعد انتهاء فترة المجاعة في مصر؟ فالطريق من مصر إلى أرض إسرائيل قصيرة ومعروفة، وكان أبناء يعقوب قد قطعوها مراراً. لدينا هنا، ثانية، مثال قاطع على ركاكة ووهن مصطلح الوطن المقلقين حتى بالنسبة إلى يعقوب الذي كان قد ولد فيه. بعد ثلاثة أجيال، فقط، من الوعد الإلهي الاحتفالي لإبراهيم بشأن "الوطن الإلهي" و"لنسلك أعطي هذه الأرض" (سفر التكوين، 7:12)، كسر "الموعودون" هذا التخصيص.

والأنكى من هذا حقيقة أن شعب إسرائيل (القديم) لم يولد في وطنه، بل في بلاد ليست له، مصر. إن الرابطة الأولية بين شعب ووطنه ليست قائمة في الوعي القومي. كذلك التوراة أيضا ـ هوية الشعب الروحانية ـ لم تنزل في الوطن، بل في منطقة وسطى، في الصحراء، في مكان لا مكان، كي لا يعيق الوطن عملية التذوّت، عملية الصهر أو الإلحام ما بين الديانة المميزة وهذا الشعب المميز.

ولهذا، فمنذ الوصايا العشر، التي يفترض أنها تعبّر عن تعليمات وأوامر أخلاقية فقط، يسارع الرب إلى التعبير، في الوصية الأولى، عن حضوره وتدخله في هوية الشعب: إنه مصدر القوة التي حررت الشعب من عبوديته. لم يكن بنو إسرائيل هم الذين حرروا أنفسهم من العبودية، بل الرب هو الذي فعل. وله ينبغي أن يوجهوا شكرهم على استقلالهم وعلى قوميتهم. ولذا، يتحول الوطن المخصص من وطن طبيعي، أوليّ، إلى وطن موعود، وطن مشروط.

ولهذا، أيضا، وقبل دخولهم إلى الأرض المخصصة، التي هي ليست وطناً كما ذكرت، بل أرض مقدسة خاضعة لإشراف الرب، رقابته وشروطه المشددة، يُدعى بنو إسرائيل إلى إبادة ـ لا إلى تهويد ـ الشعوب المقيمة في الأرض الموعودة، شعوب وقبائل تربطهم بالمنطقة الجغرافية علاقة طبيعية بين بني بشر ووطنهم. إن هذا الأمر الوحشي، المختَزَل في "لا تستَبْقِ منها نسمة" (سفر العدد، 16:20) حيال سكان كنعان، والذي صدر بعد وقت قليل من وصية "لا تقتل"، ينبع من حقيقة لزوم إبادة سكان البلاد الأصليين كي يضمن الرب تفوقه الهوياتي على مكانة الوطن الطبيعية والأولية. وكل هذا كي لا "يخطئ" بنو إسرائيل أو "يتحيزوا" في علاقتهم الطبيعية الأولية مع الوطن، وهي علاقة تتعارض جوهريا، بل تتنافى، مع العلاقة والرابطة، من خلال الربّانية، مع بلاد هي ليست وطنا، بل أرض مقدسة.

وأكثر من هذا، يشرح الرب في سفر "العدد"، من خلال موسى، أن بني إسرائيل لن يأتوا إلى بلاد قاحلة، بل إلى وطن يبنون أنفسهم من خلاله ويتطورون. ثم يعود ويؤكد: ها أنتم تصلون إلى مدن لم تبنوها، إلى كروم لم تزرعوها، ها أنتم تصلون إلى مكان ليس منطقة خالية مهجورة، بل منطقة مسكونة، لا حق لكم فيها إلا بموجب الميثاق أو العهد الذي تقيمون مع الرب.

الحق الحقيقي في الوطن هو، فقط، حق مشتق من التزام بني إسرائيل بالأمر الإلهي وبتنفيذه. لا حق طبيعي لكم، ولا حق تملك بالاحتلال، بل حق مشروط، فقط. الحق الطبيعي الأولي هو حق الشعوب الأخرى المقيمة في أرض إسرائيل بموجب حقها في الوطن، ولذا يتوجب إبادتها وطردها كي لا يحصل تداخل أو اختلاط بين الحقّين المتضاربين وكي لا يخطئ الحقُّ الطبيعي الحقّ الإلهي.

هنا، يمكننا أن نشير إلى أن بني إسرائيل ظهروا أكثر إنسانية من الرب، فلم يقترفوا ـ خلال احتلالهم أرض إسرائيل ـ ذلك الجينوسايد الذي حدده الربّ لهم كمَهَمّة، سواء بدافع الشفقة أو بسبب الضعف. وهكذا، فمنذ دخول بني إسرائيل أرض إسرائيل، بقي فيها أيضا أبناء شعوب أخرى ترى في منطقة أرض إسرائيل وطناً، بمفهومه الأولي والمقبول في العالم أجمع، وهو ما يزال مستمراً حتى يومنا هذا.

لكن هذا ليس كافيا. فاستئصال مركّب الوطن، أو تقليصه على الأقل، من هوية الشعب الإسرائيلية ـ اليهودية يتضح، أيضا، في الرؤية القاسية التي أعلنت في الصحراء قبيل الدخول الفعلي إلى أرض إسرائيل. هكذا حذر موسى: إذا ما خرق الشعب أوامر الرب بعد الاستيطان في أرض إسرائيل، سواء على الصعيد الديني أو على الصعيد الأخلاقي، فسيتعرض لعقاب شديد من جانب أعدائه، الذين هم رُسل الرب فعليا. وستبلغ المصائب التي ستحل بالشعب ذروتها بطرده من بلاده وتشتيته بين الشعوب.

ولكن ـ وهذا تجديد جوهري ـ سيحافظ شعب إسرائيل، حتى خارج وطنه أيضا، على هويته ووجوده بوصفه شعب الرب. فبينما أضاع أي شعب طـُرد من وطنه قوميته وفقدها، حافظ بنو إسرائيل على وجودهم القومي خارج وطنهم أيضا، ذلك أن الوطن ليس شرطا ضروريا وإلزاميا للوجود القومي، بل مجرد شرط إضافي آخر، ونظريّ فقط أحياناً.

الشتات كخيـار طوعي!

كان الشتات، كخيار شرعي في بنية الهوية اليهودية، مهيأ قبل تحقق استقلال بني إسرائيل في وطنهم، ولو لدقيقة واحدة. وعليه، فمنذ خراب الهيكل الأول وعلى مدى الأعوام الـ 2500 التي مرت منذ ذلك الحين، فضّل ويفضّل كثيرون من بني إسرائيل الهجرة إلى شتات طوعي، عوضا عن التورط والفشل في بلاد تئن تحت وطأة شروط إلهية قاسية. وقد كان الحضور اليهودي في أرض إسرائيل، وخاصة خلال الألف سنة الأخيرة، ضئيلا جدا. وعشية إعلان وعد بلفور، في العام 1917، أقام في أرض إسرائيل كلها نحو 56 ألف يهودي (وفقاً للموسوعة العبرية) من أصل شعب بلغ تعداده نحو 14 مليوناً.

إن الضعف الجوهري الكامن في مصطلح الوطن بالمفهوم القومي اليهودي هو، عملياِ، السبب الحقيقي للشتات، الذي تعرض لمصائب وأهوال فظيعة بلغت ذروتها في الهولوكوست. إنه الشتات الذي انخرط وغرق فيه كثيرون من أبناء الشعب اليهودي فانفصلوا، نهائيا، عن الشعب اليهودي عبر التاريخ (من أصل نحو 3 ـ 4 ملايين يهودي في العالم في نهاية القرن الميلادي الأول انخفض عددهم، بصورة حادة، فوصل إلى مليون واحد فقط في بداية القرن الثامن عشر). الرخصة الإلهية لوجود الشتات صدرت في طور سيناء، حين أعلن أن الوطن ليس شرطا ضروريا للوجود القومي. وفي التوراة كلها، ورد ذكر كلمة وطن 21 مرة فقط، من بينها 11 مرة في الحديث عن شعوب أخرى أو أناس غرباء.

ومع هذا، لم يكلل بالنجاح كل الجهد والعمل المخططين لصهر الدين في القومية، في طور سيناء. ومن حين إلى آخر، في الصحراء، أصيب الرب باليأس من "المادة القومية" أو من "الرعاع" (العدد، 4:11) الذي تلقاه أو أخرجه من مصر من أجل مشروعه الطموح، ولذا فهو يقترح على موسى، مرات عديدة، "استبدال الشعب"، هكذا صراحة، أو اقتطاع / فصل أجزاء عنيدة وغير جديرة منه، على الأقل.

وهكذا، نشهد في الصحراء، حقا، حروبا أهلية دامية، إلى أن يقرر الرب، في النهاية، استبدال الجيل برمّته، والقصد جيل الخارجين من مصر، بجيل آخر جديد يولد في الصحراء، جيل لا يعرف أي طعم أو معنى للوطن، قطّ، حتى لو كان وطن العبودية في مصر ("نقيم رئيساً ونرجع إلى مصر"/ سفر العدد، 4:14). ولذا، فقط بعد 40 عاماً من الرحيل والموت، نشأ جيل جديد ربما يكون مرشحا جديراً لهذا الصهر بين الدين والقومية.

موسى لم يدخل إلى البلاد. فهو، أيضا، قتل مع الجيل الذي قُضي عليه في الصحراء، وجيد أن حصل. فلو دخل إلى أرض إسرائيل لشاهد مشروعه الطموح ينهار، فورا. لكن الشعب الذي وصل أخيرا إلى وطنه الموعود، وسرعان ما أنشأ معه علاقات طبيعية بين شعب ومنطقته الجغرافية، بدأ يخلع عن نفسه الدين الذي ألحم به. ويتضح عندئذ أن ما حصل في سيناء لم يكن سوى عملية إلحام، وليست قوية بما يكفي. من هنا فصاعدا، وحتى خراب الهيكل الأول وشتات إسرائيل في بابل، تعود وتتكرر جملة "فعملوا الشر في عيني الرب". ماذا تكون إذن نبوءات التحدي التي وضعها الأنبياء إن لم تكن نصوصاً غاضبة ضد أبناء بني إسرائيل، أبناء شعبهم هم (وليس ضد الفلسطينيين، أو الحثيين أو العموريين)، على انتقالهم إلى دين آخر وخلطه مع توراة موسى.

صحيح أن القومية الإسرائيلية بقيت في وطنها، أرض إسرائيل، لكن الديانة تبدلت أو أصبحت تعددية، على الأقل. كان ذلك خليطا من دين موسى، دين التوراة، وأديان محلية أخرى ـ أديان أوثان بعل وعشتروت.

اليهود استهتروا بمعنى وقدسية الوطن في هويات شعوب أخرى

إن المسّ الأصلي الذي لحق بمصطلح وطن في طور سيناء لا يزال يزبد ويثير فقاعات في الهوية القومية اليهودية. فالاستهتار والانتقاص من حق الوطن كمركّب أساس ضروري وأولي في أية هوية قومية ما زالا يسمّمان ويهددان الهوية اليهودية. واليهود الذين لم يدركوا أهمية مصطلح الوطن العليا ومعنى الوطن في هويتهم استهتروا، أيضا، بمعنى وقدسية الوطن في هويات شعوب أخرى. وقد شرعوا يتنقلون بين أوطان شعوب أخرى كما لو أنهم يتنقلون بين فنادق.

صحيح أن اليهود حاولوا التصرّف كزبائن منصفين وملتزمين، لكن عبارة "السنة القادمة في القدس"، الوطن المتخيَّل في دواخلهم، أتاحت لهم مغادرة البلاد التي أقاموا فيها، بسهولة فائقة، كلما "ساءت ظروف الفندق"، والانتقال إلى فندق آخر، ذلك أن انبعاث الموتى سيحصل، بحلول الخلاص، في أرض إسرائيل، أرض القداسة، وأن نبوءة إعادة الصفح والمغفرة إلى الأرض المقدسة، ثانية، ستتيح لليهودي الموت في هذه البلاد التي لا يعتبرها وطنا له، انطلاقا من الإيمان بأن مستقره النهائي سيكون في أرض إسرائيل، برغم كل شيء.

فقط حين بدأت اللاسامية العلمانية القومية الدموية المتوحشة تزعزع أمن هذا الوجود اليهودي "الفندقي"، في نهاية القرن التاسع عشر، أخذ الوعي ينتشر، رويدا رويدا، بين "أقلية صهيونية" بأن ثمة حاجة إلى ترميم مصطلح الوطن الذي تأذى وتشوه بصورة جدية في "جبل سيناء". وترافق ذلك مع معارضة يهودية داخلية شديدة وواسعة. إذن تنبغي محاولة إعادة بنائه من جديد وبالذات، إن أمكن، من قلب القفر، من مستنقعات مرج ابن عامر ("عيمق يزراعيل") أو من فيافي النقب، وليس من داخل "المدن والكروم التابعة لأبناء شعب آخر"، كما قضى الوعد الاستفزازي في طور سيناء.

ليس ثمة شك عندي في أن الضربة القاتلة التي حلت بالشعب اليهودي في الحرب العالمية الثانية، والتي أسفرت عن إبادة ثـُلث الشعب اليهودي خلال خمس سنوات ـ ليس بسبب الجغرافيا، ولا بسبب الدين، ولا بسبب الأيديولوجيا، وإنما جرّاء إبادة غريزية فظيعة، إبادة "جراثيم موهومة"- هي التي هزّت وعي الشعب المسكين الذي أيقن بأنه، هو أيضا، مثل أي شعب آخر، ملزم ببناء قوميته في منطقة جغرافية، أي في وطن.

وهكذا، بينما كان يقيم في أرض إسرائيل في بداية القرن الـ 20 نحو نصف بالمئة من الشعب اليهودي، أصبح يقيم فيها الآن، في غضون عقد من الزمان، نحو نصف أبناء الشعب اليهودي. وهذا دليل قاطع على أن عبارة "السنة القادمة في القدس" ليست، كما يُدّعى، مجرد طقس ديني رمزي يفتقر إلى أية نافذية حقيقية، بل هي خيار وجودي حقيقي تحقق، فعليا، وبسرعة تاريخية مذهلة.

إن السؤال المصيري بشأن مستقبل دولة إسرائيل لا يتعلق، معاذ الله، بمحاولة ترميم الصهر الذي لم ينجح في بداية الطريق، وإنما هو هل ينبغي فك الإلحام، بصورة نهائية، بين الديانة اليهودية والقومية الإسرائيلية، وخصوصا على شفا التورط المأساوي في (الدولة) ثنائية القومية التي نجرّ وننجرّ إليها، بما فينا من عمى، وبلادة وحماقة، ولكن من جرّاء عناد الفلسطينيين وسلبيتهم أيضا.

ينبغي ألا ننسى أن الديانة اليهودية هي مركّب عظيم القوة والأثر والدلالة في الهوية والثقافة اليهودية ـ الإسرائيلية. ونظرا للدور الحاسم الذي لعبته كمركّب طاغٍ في الهوية اليهودية خلال سنوات الشتات الطويلة، ولكونها لا تزال تشكل مركّبا أساسيا في هوية نحو نصف الشعب المقيم خارج إسرائيل، فإن لها حضورا، قوة ومكانة عظيمة تفوق تلك التي تتمتع بها الكاثوليكية كمركّب في الهوية الفرنسية أو الإيطالية، بل أكثر حتى من الإسلام في الهوية المصرية أو التركية.

ولهذا، ينتصب السؤال عما إذا كانت الثنائية القومية، في صيغتها الحادة أو في الصيغة الكونفدرالية الأقل وطأة، ستعيدنا حقاً إلى فترة الهيكل الأول، على كل ما فيها من متاهات ونزاعات، فيتفكك الإلحام ما بين الدين والقومية بصورة نهائية.

ومن ضمن المؤشرات الأولى، يمكن الانتباه أيضا إلى الشراكة المستمرة ـ المباركة، في رأيي ـ المتحققة للمسلمين، المسيحيين والدروز مواطني إسرائيل في الهوية القومية الإسرائيلية، الآخذة في التبلور هنا بكل المفاهيم.

ثمة عرب فلسطينيون مسلمون ومسيحيون قضاة في المحكمة العليا وفي المحاكم المركزية، وثمة سفراء وقناصل من أبناء الأقليات يمثلون دولة إسرائيل بكل إخلاص، وثمة دروز قادة ألوية عسكرية، وثمة عرب مسلمون ومسيحيون مديرو أقسام في المستشفيات. إن جميعهم يتحدثون اللغة العبرية بطلاقة، يعملون باستمرار وفق الأحكام والضوابط الداخلية للهوية الإسرائيلية المتشكلة، فيصبحون، أكثر فأكثر، أشبه بالقاضي اليهودي الأميركي الذي يفسّر الدستور الأميركي ويشارك في صياغته لمصلحة الأمة الأميركية برمّتها، أو بوزير الثقافة اليهودي الفرنسي الذي يساهم في صياغة وبلورة ثقافة فرنسا وتراثها.

هل ستتعرض هذه السيرورة الطبيعية ـ التي تنطوي على فرص لآفاق جديدة لكن، أيضا، على مصدر لصراعات حادة جديدة في المستقبل العاصف الذي ينتظرنا جميعا ـ إلى ما يؤدي إلى لجمها وإجهاضها بفعل المعارضة المتصاعدة والمتطرفة من جانب الديانات الثلاث الحاضرة في أرض إسرائيل، أم ستقوى يد المواطـَنة القومية على التخفيف من حدة هذه المعارضة المتوقعة؟

يشارك اليهود في الشتات، في أميركا وأوروبا، بصورة حميمة وحثيثة، في قوميات شعوب ذات أغلبيات غير يهودية، وقد نجحوا، بكثير من المعاني، في الفصل بين ديانتهم اليهودية ومواطـَنتهم وقوميتهم غير اليهودية. ولذلك، فهم لا يستطيعون التحفظ من القومية الإسرائيلية بصيغة ثنائية القومية، ضيقة كانت أم واسعة، والتي ليس واضحا ما إذا كانت هي التي تجرّ إليها أم تنجرّ.

إن هذه الصيغة تطرح بديلا مفتوحا أمام المواطنين الإسرائيليين أبناء الديانات الأخرى للانخراط في إطارها، من دون أن ينتقصوا من تراث شعب إسرائيل الديني والثقافي على مر الأجيال، بل العكس: يضيفون إليه أطيافاً ومزايا أخرى خاصة من لدنهم، على غرار الصلات المركّبة التي حصلت في تاريخ الشعب اليهودي وثقافته في الشتات مع الشعوب التي عاش بين ظهرانيها.

_______________________

(*) روائي إسرائيلي. هذا المقال من مداخلة قدمت ضمن "شعائر منتصف الليل" في عيد البواكير/ شفوعوت الأخير في كنيس "رمبان" (رابي موسى بن نحمان) في مدينة القدس. المصدر: شبكة الانترنت. ترجمة خاصة: سليم سلامة.

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, موليدت, تهويد, اللاسامية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات