المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

مع نهاية سنوات التسعين من القرن الماضي، وفي ظل ضعف حكومة إيهود باراك، الذي كان على رأس حزب "العمل"، واستدراك الكثير من الأوساط لحقيقة غياب الشخصيات التاريخية التي أسست إسرائيل، وحظيت بمكانة عالية لدى الجمهور الإسرائيلي ومع هالة خاصة، بدأ الحديث عن حاجة السياسة الإسرائيلية إلى "الرجل القوي"، القادر على أن يفرض هيبته ويقود سدّة الحكم.

وكان حيتان المال أبرز جهة تمسكت بهذه النظرية، إذ إنهم أرادوا ضمان مصالحهم. غير أنه بعد مرور 15 عاما تسجل هذه "النظرية" فشلا ذريعا، إن كان على مستوى "الرجل القوي في رأس الهرم"، أو "الرجل القوي بدرجة ثانية" إن صح التعبير، بقصد من قادوا "أحزاب الفقاعة".

فمنذ العام 1948 وحتى العام 1995، قادت إسرائيل "شخصيات تاريخية" أسست الكيان، إن كان على مستوى رأس الهرم، أو الشخصيات البارزة التي كانت تشارك بشكل قوي في دوائر اتخاذ القرارات الاستراتيجية. وذلك من دافيد بن غوريون إلى ليفي أشكول وغولدا مئير وإسحاق رابين ومناحيم بيغن، ولربما أن أضعف تلك الشخصيات شعبيا كان إسحاق شامير، الذي وصل إلى رئاسة حزب الليكود والحكومة بعد الغياب المفاجئ لمناحيم بيغن عن الحلبة السياسية في العام 1983. ومثل شامير في ضعفه كان شمعون بيريس "الشخصية المحبوبة جماهيريا، غير المرغوبة في الحكم"، وبرغم ذلك فإن الشخصيتين الأخيرتين كانتا هما أيضا في عداد الشخصيات التاريخية.

وكل واحدة من الحكومات التي تشكلت في تلك السنين كانت تعج بشخصيات قديمة، لعبت دورا كهذا أو ذاك، في تأسيس المؤسسة الحاكمة، كلٌ في تخصصه واتجاهه. إلا أن هذه الشخصيات بدأت تغيب عن الحلبة السياسية، إما في إطار السياق الطبيعي، تقدم في العمر ورحيل، أو جراء غياب مفاجئ، كما في حال الزعيم التاريخي لحزب "حيروت"، ومن بعده "الليكود" مناحيم بيغن، الذي أصيب بحالة احباط نفسي مرضي، على خلفية خداعه في الحرب على لبنان، وحلّ مكانه، كما ذكر، شامير في العام 1983 كنائب له. أو غياب إسحاق رابين باغتياله حينما كان رئيسا للحكومة في خريف العام 1995، وحلّ محله لبضعة أشهر قليلة شمعون بيريس، كالشخص الثاني في حزب "العمل" والحكومة في تلك المرحلة.

وفي انتخابات 1996 وصل إلى الحكم على رأس حزب "الليكود" بنيامين نتنياهو، بفارق ضئيل عن شمعون بيريس. وكان نتنياهو آنذاك أول الشخصيات التي كسرت حاجز "الشخصيات التاريخية"، وكان حديث العهد نسبيا في السياسة، وتم استحضاره من الصف القيادي الخلفي في الليكود، ليحل محل شامير. لكن نتنياهو قاد حكومة عدم استقرار، كان هدفها تغيير الاتجاه السياسي الذي سارت فيه إسرائيل في تلك السنوات، مسار أوسلو. وخسر نتنياهو رئاسة الحكومة بعد ثلاث سنوات، لصالح رئيس هيئة أركان الجيش السابق في حينه إيهود باراك، الذي تم استحضاره لرئاسة حزب "العمل" بعد انتهاء دور "الشخصيات التاريخية"، وعدم وجود شخصيات جذابة في الحزب قادرة على قيادة الجماهير، باستثناء بيريس، الذي اختار يومها أن لا يخوض المنافسة مجددا على رئاسة الحزب.

وقاد باراك أيضا حكومة عدم استقرار، لم تصمد لأكثر من 20 شهرا، على وقع اندلاع العدوان الإسرائيلي على الضفة والقطاع، ومواجهته بـ "الانتفاضة الثانية". وهنا وصل إلى الحكم أحد تلك "الشخصيات التاريخية"، أريئيل شارون، الذي تحفظت أطراف الحكم، بما فيها حزبه، على مدى سنين من أن يقود نظرا لطبيعته الشرسة، ودوره في الحرب على لبنان في مطلع سنوات الثمانين التي كلّفت إسرائيل ثمنا باهظا، دمويا واقتصاديا.

وبالإمكان القول، إن شارون كان في تلك المرحلة "حل اللا مفر" بالنسبة لحزب الليكود، ولكن فوزه بنسبة ساحقة في انتخابات رئاسة الحكومة في شباط 2001، والقفزة التي حققها حزبه بقيادته في الانتخابات البرلمانية في العام 2003، أضاءت لدى أوساط فكرة "الرجل القوي"، من دون الأخذ بعين الاعتبار الظروف السياسية التي ساهمت في النتائج التي حققها شارون.

في تلك المرحلة بدأ يتعاظم الحديث عن فكرة "الرجل القوي"، وبشكل خاص في حلقات أكاديمية ومعاهد. وكانت هذه الفكرة من دوافع تشكيل حزب "كديما" على يد شارون، في العام 2005، وخرج إلى حيز التنفيذ في خريف ذلك العام، على خلفية الشرخ الطولي في حزب "الليكود" الذي وقع على خلفية خطة إخلاء مستوطنات قطاع غزة. فالجناح الأكثر تطرفا في الحزب لم يقرأ جيدا الأبعاد التي يسعى لها شارون، والتيار الذي يقوده من تلك الخطة.

وما يعزز الاستنتاج بأن فكرة "الرجل القوي" كانت في خلفيات إنشاء "كديما"، هو أن الحزب استقطب "نجوما" من حزب "العمل"، أولهم شمعون بيريس، ومعه حاييم رامون، الشخص الذي قاد عدة تحولات في حزب "العمل" وحتى في جوانب في الحكم، وأيضا داليا ايتسيك، إضافة إلى جنرالات وقادة أجهزة أمنية سابقين. ومن الواضح أن تطبيق الفكرة لم يكتمل، مع سقوط شارون على فراش المرض في غيبوبة دائمة، فتسلم قيادة الحزب إيهود أولمرت، وهو "زعيم الصدفة"، والتفاصيل اللاحقة للمجريات السياسية معروفة، فأولمرت كان اضعف من أن يقوم بالمهمة، فوجد من يطيح به من وراء الكواليس.

هنا كما يبدو، نشأت الحاجة لدى أصحاب الفكرة وداعميها، لإعادة صياغة بنيامين نتنياهو بحلة جديدة، إن جاز التعبير، وتقديمه للجمهور بصخب إعلامي داعم، وكان صدور "يسرائيل هيوم" الصحيفة اليومية المجانية حلقة مركزية في هذا المشروع، الذي انتهى بعودة نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، بعد أن تم عرضه أمام الرأي العام الإسرائيلي بصفته "الزعيم الأوحد المتوفر حاليا لإسرائيل"، وقد عملت على ذلك ماكنات صناعة رأي متعددة ومتشعبة.

وإذا قرأنا استطلاعات الرأي التي صدرت على مدى السنوات الأخيرة، فإن نتنياهو لا يحظى بشعبية مطلقة، فمن باب التأييد له، يحصل نتنياهو على ما بين 32% إلى 34% كرئيس حكومة. ولكن فقط في الرد على سؤال من هو الأفضل من بين المطروحة أسمائهم لتولي رئاسة الحكومة، يحظى نتنياهو بنسبة تقترب الى 50% وأحيانا يتجاوزها بقليل، بمعنى أنه في نظر غالبية الجمهور هو "قائد اللا مفر".

و"قائد اللا مفر" مستمر في الحكم منذ ست سنوات متواصلة، وقاد ويقود حتى الآن ثلاث حكومات متواصلة، وهذه الحالة الثانية بعد دافيد بن غوريون، إلا أن الحكومة الحالية لا يبدو أنها ستكون قادرة على قيادة الحكم، على الأقل وفق تركيبتها الحالية، حتى الموعد القانوني، بعد أربع سنوات من الآن، بمعنى خريف العام 2019، ما يعني أن "قائد اللا مفر" الحالي، هو أيضا لم ينجح في تحقيق هدف نظرية "الرجل القوي"، لأنها نظرية لا تلائم الظروف السياسية والاقتصادية الاجتماعية، والتركيبة السكانية التي تعايشها إسرائيل.

ونذكر أيضا أنه في الفترة التي جرت فيها اعادة صياغة شخصية نتنياهو من جديد جرى في العام 2007، استحضار إيهود باراك أيضا من جديد، لينقذ حزب "العمل" المتهاوي، فقاده إلى هوّة أعمق، قبل أن يبادر للانشقاق عنه في مطلع العام 2011.

"أقوياء من الدرجة الثانية"

الجانب الآخر من نظرية "الرجل القوي" لربما جاء متأخرا قليلا، وهو ضمان "شخصيات قوية" كل منها قادر على السيطرة على قطاع من جمهور المصوتين، بمعنى أن يقودوا أحزابا، أو لوائح انتخابية، تشكل لاحقا حلقات داعمة للحزب الحاكم.

ونذكر هنا أفيغدور ليبرمان، "الرجل القوي" لجمهور المهاجرين الروس في سنوات التسعين ولاحقا، وقد ظهر قائدا لحزب سياسي في العام 1999.

وفي ذلك العام ظهر الصحافي اليميني يوسيف لبيد، لقيادة تيار يميني يميل نوعا إلى الاعتدال، وقد تعززت قوته على رأس حركة "شينوي" في انتخابات 2003، وكان داعما مركزيا لحكومة شارون.

كما رأينا لاحقا، ظهور يائير لبيد (الابن) وهو النجم التلفزيوني، ليشكل حزب "يوجد مستقبل"، وبالتزامن معه، ظهر نجم نفتالي بينيت الضابط المحبوب على المستوطنين، ليقود تحالف أحزاب المستوطنين، وفي نفس الفترة، أعيدت صياغة آرييه درعي، الرئيس الحالي لحركة "شاس" والذي يحظى بشعبية خاصة لدى اليهود الشرقيين.

وآخر تقليعة في هذا المشروع الذي لا ينتهي كان موشيه كحلون، وزير المالية الحالي، الذي ظهر في انتخابات 2015 كمنشق عن حزب الليكود، إلا أنه هو وحزبه لا يبتعدان قيد أنملة عن البرنامج التاريخي لليكود.

كل هؤلاء قادوا ويقودون "أحزاب فقاعة" عالجناها مرارا في "المشهد الإسرائيلي"، ومنهم من يتناوبون على قيادة جمهور معين، والرابط الذي يجمع ظهور واختفاء كل هؤلاء هو حملة صناعة رأي عام مكثفة وصاخبة، عبر وسائل الإعلام التي يسيطر عليها حيتان المال، والتي تعمل على إيقاع مصالح أصحابها.

الفشل عام

ما هو مؤكد على أرض الواقع أن نظرية "الرجل القوي" سجلت فشلا ذريعا في كل أهدافها، إذ أن أي شخصية لم تستطع تحقيق قوة مطلقة لحزبها في أي انتخابات برلمانية، كما أن تلك الشخصيات لم تستطع أن تسيطر على أحزابها، فشارون واجه تمردا في حزبه الليكود، وكذا نتنياهو الذي ليس دائما ينجح في تحقيق ما يريد في حزبه. والأهم من كل هذا أن كل الجهد الإعلامي والملايين التي تصرف لم تحقق جرفا شعبيا لأي من الشخصيات التي عرضت على الجمهور لتقوده.

وكذا أيضا بالنسبة للدرجة الثانية من "الرجل القوي"، فالأحزاب تصعد وتهوي بسرعة نشوئها، وإن كان أفيغدور ليبرمان حالة شاذة، فمن المؤكد أن السنوات المتبقية له ولحزبه في السياسة الإسرائيلية لم تعد كثيرة، والضربات التي تلقاها ليبرمان قبيل وخلال الانتخابات الأخيرة هي مؤشر لوجود من قرر في الكواليس اسدال الستار كليا على ظاهرته، إلا أنه ما زال يقاوم، وقد نجح بالبقاء لجولة أخرى لكن من الصعب رؤية جولات أخرى له.

وأسهمت هذه الحال كثيرا في حالة التشرذم البرلماني التي يشهدها الكنيست، أساسا منذ انتخابات 1996، وهي حالة ساهمت فيها الكثير من الأسباب، منها أيضا مسألة الانتخاب المباشر لرئاسة الحكومة، كفكرة سعت إلى تحقيق استقرار في الحكم.

وما يساعد على استمرار هذه الحال، أن الجمهور الإسرائيلي عالق في ماكنة دعاية متخصصة بنثر الضبابية بكثافة لسلخه عن واقعه، وطالما أن هذا الجمهور لم يع حقيقته، فإن هذا الواقع السياسي سيستمر في السنوات المقبلة المنظورة، ما لم تنشأ ظروف تغير اتجاهات تطور الأمور.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات