المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يرسم "استطلاع مركز مولاد السنوي" للعام 2015، الذي أجراه مركز "مولاد ـ لتجديد الديمقراطية في إسرائيل" بُعيد الانتخابات الأخيرة للكنيست الإسرائيلي، التي جرت في آذار من العام الجاري (2015)، "صورة غير عادية ومثيرة" ـ كما وصفها معدو الاستطلاع ـ تتمثل، أساسا، في أن بنيامين نتيناهو قد مني بفشل ذريع ومطبق تماما في مختلف المجالات، تقريبا، وذلك بالرغم من حقيقة فوزه في الانتخابات وتغلبه على منافسه الأساس، إسحاق هرتسوغ (زعيم "المعسكر الصهيوني") بفارق كبير.

أما المجالات الأساسية التي يؤكد فيها الاستطلاع فشل نتنياهو المطبق فهي ثلاثة مركزية على التحديد: الاهتمام بأوضاع الطبقة الوسطى ومعالجة قضاياها، مدى الالتحام بالواقع الإسرائيلي ومستوى القيادة.

ويهدف هذا الاستطلاع السنوي إلى فحص "المواقف الثابتة" لدى الجمهور الإسرائيلي في المجال السياسي ـ الأمني ومدى فاعلية الرسائل السياسية الصادرة عن الأحزاب والحركات السياسية الفاعلة في إسرائيل، من اليمين واليسار على حد سواء.

تولت إجراء "استطلاع مركز مولاد السنوي" لهذا العام شركة "GBA Strategies" الأميركية المتخصصة في إجراء الاستطلاعات والمسوحات السياسية والاجتماعية.

وقد أجري الاستطلاع على عينة مؤلفة من 1011 مواطنا إسرائيليا، بطريقة الاستطلاع المتكرر (أي، معاودة توجيه الأسئلة ذاتها أكثر من مرة واحدة) باللغات الثلاث: العبرية، العربية والروسية.

نتنياهو: مؤشر على سقوط مرتقب!

تبين هذه الاستطلاعات المتكررة كلها، بصورة واضحة، أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتيناهو، المنتخب لهذا المنصب من جديد للمرة الرابعة، "لا يحظى بشعبية بين المواطنين، على أقل تقدير"! ويقول تقرير مركز "مولاد"، الذي نشرت فيه نتائج هذا الاستطلاع وقراءة تحليلية لنتائجه، أن خبراء استراتيجيين أجانب ممن يتمتعون بتجربة غنية وطويلة اطلعوا على نتائج هذا الاستطلاع فـ"أقروا، بما لا يدع مجالا للشك، أن مثل هذه النتائج البائسة تمثل علامة مميزة للسياسيين قبيل سقوطهم وتحطمهم"! وأضاف بعضهم قائلين: "تقول هذه النتائج إنه لم يكن من المفترض أن يحقق نتنياهو هذا النجاح الذي حققه في الانتخابات"!

أما التفسير لهذه "الظاهرة" فيكمن، على ما يبدو، في المجال الوحيد والأوحد الذي هزم فيه نتنياهو خصمه، رئيس "المعسكر الصهيوني"، هرتسوغ، بفارق كبير جدا، وهو مجال الأمن. فردا على سؤال على أي من كلا الزعيمين يمكن الاعتماد أكثر وأيهما يبدو "زعيما قويا"، جاءت الإجابات لترجح الكفة لصالح رئيس "الليكود"، نتنياهو، بصورة حادة جدا.

ويلفت تقرير "مولاد" إلى أن هذه النتيجة "ليست مفاجئة"، إطلاقا، عند الأخذ في الحسبان حقيقة أن "جناح الوسط ـ اليسار في إسرائيل قد غادر المجال السياسي ـ الأمني وأهمله منذ ما يزيد عن 15 عاما". فخلال معركتي الانتخابات الأخيرتين، بوجه خاص، استطاعت أحزاب الوسط ـ اليسار في إسرائيل طرح أجندة اجتماعية ـ اقتصادية مغايرة لتلك التي يطرحها اليمين وتشكل بديلا جديا وجديرا لها. لكنها، في المقابل، فشلت فشلا ذريعا في المسائل المصيرية الأخرى، وفي مقدمتها الأمن القومي، الحل السياسي ومكانة إسرائيل الدولية. ففي هذه المسائل، نجد أن هذه الأحزاب لا تتأتئ حتى، بل إما تلتزم الصمت المطبق (في أفضل الأحوال) وإما تردد، بصورة ببغائية إذعانية، مواقف اليمين التي تجنح إلى مزيد من التعصب والتطرف باستمرار. وتصبح هذه الظاهرة أكثر إيلاما وتأريقا حيال حقيقة ساطعة مؤداها أن مواقف اليمين في المجال الأمني تفتقر إلى أية قاعدة منطقية وواقعية وتتناقض، تناقضا حادا، مع موقف الإجماع السائد بين الأوساط والقيادات الأمنية المختصة.

فشل معسكر "الوسط ـ اليسار" الإسرائيلي

تؤكد نتائج الاستطلاع، على نحو جلي، فشل معسكر الوسط ـ اليسار الإسرائيلي التام في عرض رؤية سياسية ـ أمنية مستقلة، متجددة وواضحة أمام الجمهور الواسع. وفي المقابل، يبين الاستطلاع أن معسكر اليمين حقق نجاحا ملحوظا في نقل وإيصال رسائله السياسية ـ الأمنية إلى الجمهور حتى بدت (هذه الرسائل) صادقة وموثوقة "حتى بين معارضي نتنياهو الأشداء"!

وثمة مثال آخر ينمذج على إخفاق معسكر الوسط ـ اليسار الإسرائيلي يتمثل في حقيقة أن الرئيس الفلسطيني "أبو مازن يبدو، في نظر غالبية الجمهور الإسرائيلي، شخصية غير موثوقة". "فحينما سئل المشاركون في الاستطلاع عما إذا كان رئيس السلطة الفلسطينية يمثل، في نظرهم، شريكا، أجابت غالبيتهم الساحقة بالنفي". ثم عرضت أمامهم، على الفور، سلسلة من الخطوات التي يمكن لأبو مازن اتخاذها بغية تعزيز مصداقيته وموثوقيته في نظرهم، ثم سئلوا "أي هذه الخطوات كان من شأنها أن تثبت إمكانية الاعتماد عليه والوثوق به؟". وظهرت "المفاجأة" الصاعقة هنا، إذ تبين من إجابات المستطلعة آراؤهم أن "جزءا كبيرا من الخطوات التي أشاروا إليها بوصفها ضرورية من أجل اعتبار أبو مازن شريكا ـ مثل المعارضة العلنية لاستخدام العنف أو التعاون مع الجيش لمنع العمليات ـ هي خطوات وإجراءات يعتمدها ويطبقها منذ زمن طويل". (من الخطوات الأخرى التي أشار إليها المشاركون في الاستطلاع بوصفها "مطلوبة وضرورية" من القيادة الفلسطينية لكي يتم اعتبارها شريكا في عملية التسوية السياسية: محاربة الإرهاب، الاعتراف بدولة إسرائيل كدولة يهودية والتنازل العلني عن حق العودة).

في المقابل، تبدو فاعلية اليمين ونجاعته الإعلامية واضحتين تماما في كل واحد من أسئلة الاستطلاع. وتستحق إشارة خاصة، هنا، مطالبة نتنياهو بالاعتراف الفلسطيني الرسمي والصريح بإسرائيل كدولة يهودية، وهو المطلب الذي ظهر للمرة الأولى في العام 2009 ويعتبره المواطنون اليوم عائقا مركزيا أمام التوصل إلى اتفاق سياسي. والواقع، أن هذا المطلب يفتقر إلى أية قيمة حقيقية، إذ لم يكن في أي يوم مضى عنصرا من عناصر الحوار والتفاوض بين الطرفين ولم يُعرض في إطار المفاوضات ثم اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن. وعلى الرغم من هذا، فقد ترسخ هذا المطلب بصورة عميقة ومثيرة جدا في الوعي الإسرائيلي العام.

ومن بين النتائج الأخرى التي توضح جيدا موازين القوى الرؤيوية هي تلك الخاصة بموقف الجمهور كله، بوجه عام ـ من اليسار واليمين، على حد سواء ـ حيال "عملية الجرف الصامد" (الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من 8 تموز حتى 26 آب 2014). فمن جهة أولى، تقرّ غالبية الجمهور الإسرائيلي بأن هذه الحرب لم تجلب أي تحسن في وضع إسرائيل الأمني. ومن جهة أخرى، ترى أغلبية كبيرة أنه على الرغم من عدم تحقيق هذه الحرب أهدافها، إلا أن شنّها كان مجديا.

بكلمات أخرى، معنى هذا أنه حتى حينما يشن اليمين حملة عسكرية فاشلة لا تحقق أهدافها ويدرك الجمهور عدم جدواها، تخفق المعارضة في تأطير الحدث في خانة الفشل والإخفاق. وبدلا من ذلك، فهي (المعارضة) تختار توفير الدعم التام لأي من خطوات الحكومة ولا تضع أمامها اي تحدٍّ في السياق الأمني، حتى حيال الإخفاقات المدوية.

وإلى جانب هذا الوضع التعيس على الصعيدين الفكري والإعلامي، تُظهر نتائج الاستطلاع بعض الأسباب التي تدعو إلى التفاؤل، أيضا.

أول هذه الأسباب أن الوضع الراهن ليس نتاج محاولة فاشلة، إنما نتاج العجز وعدم الفعل. وإذا ما استطاع معارضو اليمين تشخيص وتحديد نقاط الضعف بدرجة عالية من الدقة، ثم العمل على إصلاحها، فسيكون بمقدورهم تعزيز موقعهم كبديل جدي لتولي السلطة وإدارة شؤون الدولة. ولهذا الغرض، ثمة بنية تحتية مهنية متوفرة تتمثل في عدد من المجموعات التي نشطت خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة، قوامها قادة بارزون سابقون في الأجهزة الأمنية وقفوا أمام عدسات التصوير محذرين الجمهور من توجهات نتنياهو ونزعاته الأمنية المدمرة. غير أن الموقف الجماهيري المتجذر غير قابل للتغيير في غضون أسبوعين، في ذروة معركة انتخابية، بل يتطلب الأمر سيرورة عميقة وطويلة المدى يتعين أن تسبق انطلاق المعركة الانتخابية بوقت طويل جدا.

وثانيها، أن التأييد الجماهيري الواضح للتوصل إلى اتفاق سياسي يبقى قائما على الرغم من قصورات المعسكر الذي كان يُفترض به أن يدفع نحو مثل هذا الاتفاق.

ويتضح من الاستطلاع أن هناك بين الجمهور الإسرائيلي أغلبية واضحة مؤيدة لاتفاق سلام إسرائيلي ـ فلسطيني، وهي أغلبية تزاد كلما انكشف المستطلعة آراؤهم واطلعوا على المزايا والمنافع المختلفة التي يمكن أن ينطوي عليها مثل هذا الاتفاق وأن تنتج عنه. ومن هنا، فإن سلوكا سياسيا فاعلا، ناجعا ومتعقلا من جانب معسكر الوسط ـ اليسار من شأنه تعزيز قاعدة التأييد الجماهيري القائم، فعليا، للتسوية السياسية. وإذا ما وُضع تصور لاتفاق سياسي إسرائيلي - فلسطيني على الطاولة العامة وأصبح ملموسا ـ مصحوبا بحملة جماهيرية واسعة ـ فمن المرجح أن يحظى بتعاطف وتأييد جديين.

وثالثها، أن الاستطلاع يؤكد أن جزءا كبيرا من المسلمات السائدة في الخطاب السياسي ـ الحزبي الإسرائيلي ليس سوى أوهام غير مسنودة ولا أساس لها على الإطلاق. فعلى سبيل المثال، الجمهور الواسع لا يبدي اهتماما كبيرا بمسألة تقسيم القدس، وهي المسألة التي تغذي دعاية اليمين منذ سنوات بينما يوليها الجمهور الواسع أهمية تقل بكثير عن التهديدات والمخاطر الأمنية. وكما أظهرت استطلاعات أخرى سابقة، أيضا، فإن الرابطة بين الجمهور الإسرائيلي والمناطق (الفلسطينية المحتلة)، والقدس الشرقية ضمنها، ليست رابطة قوية، إطلاقا، غير أن تحفظه المركزي من اتفاق سياسي محتمل يعود، أساسا، إلى دواعي الأمن ـ أو: انعدام الأمن، بكلمات أدق. وبالنظر إلى أداء مؤيدي التسوية، من الصعب توجيه إصبع الاتهام إليه (الجمهور).

وفي المحصلة، يقول تقرير "مولاد" إن نتائج الاستطلاع تؤكد حقيقة مؤسية في الواقع الإسرائيلي مؤداها أنه على الرغم من الإجماع الواسع بين قيادات الأجهزة الأمنية المختلفة حول تأييد ودعم التوصل إلى اتفاق سياسي مع الشعب الفلسطيني، وعلى الرغم من تأييد غالبية الجمهور لتسوية إقليمية، إلا أن معسكر الوسط ـ اليسار فشل في نشر وترسيخ مواقفه وتوجهاته في هذا الشأن. وفي المقابل، نجح اليمين في نشر آرائه وتوجهاته وترسيخها بصورة جيدة حتى أصبحت تكتسب مصداقية وموثوقية حتى في نظر معارضي نتنياهو.

نتائج أخرى في الاستطلاع

من النتائج الأخرى الأبرز التي أظهرها هذا الاستطلاع:
• التهديد الأمني الأخطر في نظر الجمهور

الإسرائيلي هو "أنفاق الإرهاب" وإطلاق القذائف من قطاع غزة. ويشكل الموضوع الأمني هاجسا أساسيا لدى مصوتي أحزاب اليمين والوسط، بينما يشكل الموضوع السياسي (المخاطر السياسية والمقاطعة الدولية وتدهور علاقات إسرائيل مع الولايات المتحدة) الهاجس الأساس لدى مصوتي أحزاب اليسار.

• الحجج الأهم والأقوى في تأييد التسوية السياسية هي حجج اقتصادية (مثل: التسوية السياسية ستحسن الأوضاع الاقتصادية، ستقلص المصروفات الأمنية وتتيح تحويل الميزانيات إلى القضايا الاجتماعية)، بينما الحجج الأقل أهمية وإقناعا هي تلك التي تتعلق بحقوق الإنسان الفلسطيني.

• ثمة أغلبية تؤيد التوصل إلى اتفاق سياسي على أساس حدود الرابع من حزيران 1967، مع تبادل للأراضي، بما في ذلك تقسيم القدس.

• ثمة بعض المحفزات التي يمكن أن تتزامن مع الاتفاق السياسي، من أجل تجنيد دعم وتأييد أوسع للتسوية السياسية. ومن بين أكثر هذه المحفزات جاذبية: الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل كدولة يهودية (بين مصوتي اليمين، بوجه خاص) وضم إسرائيل إلى الاتحاد الأوروبي (لدى مصوتي الوسط، خاصة).

• تعتقد غالبية الجمهور بأن المستوطنات تحظى بتمييز إيجابي (تفضيل) من حيث الميزانيات، بالمقارنة مع المناطق المختلفة في داخل إسرائيل. ومن جهة أخرى، ثمة غالبية بين الجمهور تعتقد بأن للمستوطنات أهمية من الناحية الأمنية. وترى نسبة مرتفعة جدا من مصوتي أحزاب الوسط أن الاستثمار المكثف في المستوطنات يعود بالضرر على الطبقة الوسطى.

• في الجزء الأكبر من المواضيع السياسية ـ الأمنية التي تم التطرق إليها وفحصها، لم تظهر فوارق جدية بين الشرقيين (السفاراديم) والغربيين (الأشكنازيم). ويظهر، بشكل عام، ميل واضح نحو اليمين بين الإسرائيليين اليهود من أصول شرقية.

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, الليكود, حق العودة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات