المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ما يعنينا توكيده، الآن، بازاء مختلف التحركات السياسية والحزبية الأخيرة في إسرائيل أنه لا يمكن استكناه موقف سياسي واضح في مقدرة المراقب الركون إليه، مما يصطلح البعض على توصيفه بأنه "عدم إنهراق" من طرف حزب "العمل" للإنضمام إلى حكومة أريئيل شارون. فما انفك أساطين هذا الحزب يعلنون، بملء الفم، أن ما يحول دونهم ودون ذلك ليس إختلاف المواقف السياسية من "عملية التسوية" بصورة جوهرية وأنهم جاهزون الجهوزية كلها لمثل هذا الإنضمام إذا ما جاءت التوصية الموعودة للمستشار القضائي للحكومة، ميني مزوز، متعارضة مع توصية النائبة الاسرائيلية العامة، عيدنا أربيل، بتقديم شارون إلى المحاكمة بتهمة الارتشاء والفساد (تصريح رئيسة كتلة "العمل" البرلمانية، النائبة داليا إيتسيك، شفّ حرفيًا وبصراحة متناهية عن هذا المعنى، الذي سبق لرئيس الحزب، شمعون بيريس، أن كرره مرات عديدة).

في ضوء ذلك فإن سقوط شارون، الذي من الصعب الجزم بأن احتمالاته اختفت عن الأجندة، أضحى منوطًا، بقدر كبير، بقرار المستشار القضائي. وما على الباقي سوى الانتظار. وقد رسمت إحدى الصحف الاسرائيلية، تحت تأثير ما نما إلى علمها من معلومات حتى ما قبل الساعات ال 48 الماضية، السيناريوهات التالية لما قالت إنه المستقبل السياسي لشارون وحكومته على أرضية النية القارّة لديه بطرح خطته المعدّلة للإنفصال الأحادي الجانب للتصويت على بساط بحث الحكومة:

أولا: شارون ينجح بتمرير الخطة، لكن أحزاب اليمين المتطرف لا تستقيل، ويبقى "العمل" في المعارضة.

ثانيا: شارون ينجح بتمرير الخطة، قسم من اليمين المتطرف ينسحب من الائتلاف، وينضم "العمل" إلى الحكومة (التوقعات تشير إلى إمكانية بقاء "المفدال"، الذي قد يقترح عليه شارون إعادة التصويت على الانسحاب قبيل البدء بالتنفيذ).

ثالثا: شارون يخفق في تمرير الخطة ويضم "العمل" إلى الائتلاف لكي يعيد الكرّة مرة أخرى.

رابعا: شارون يخفق في تمرير الخطة وفي تشكيل حكومة "وحدة وطنية" ويقرر الذهاب إلى انتخابات جديدة، مبكرة.

لكن مع هذه السيناريوهات وبدونها ثمة في الخلفية أمور أخرى، منها بادىء ذي بدء متاعب شارون داخل "الليكود" (حتى الآن لا يبدو أن خطته تحظى بتأييد غالبية الوزراء وأعضاء الكنيست من الحزب). ومنها المبادرة السياسية لحزب "شينوي"، الشريك الأكبر لحزب "الليكود" في الائتلاف الحكومي، التي قدمها زعيم الحزب، وزير العدل يوسف لبيد، وتنص على استئناف إسرائيل للمفاوضات "السلمية" مع السلطة الوطنية الفلسطينية في إطار "خريطة الطريق" وتحويل خطة "فك الارتباط" (الأحادية الجانب) إلى جزء غير منفصل من هذه المفاوضات، مع استمرار إسرائيل في ما تسميه المبادرة "محاربة الإرهاب" طوال الوقت الذي "لا تنفذ فيه السلطة الفلسطينية تعهداتها بمحاربته".

ومع أن واقع الحال يقتضي، عند قراءة الخارطة السياسية والحزبية في إسرائيل، أن ندرج مبادرة "شينوي" هذه وتصريحات لبيد الأخيرة المتحفظة على العمليات العسكرية في رفح في إطار مظاهر "الحزم السياسي"، الذي يحرص على إبدائه في الآونة الأخيرة، فإنه لا ينبغي صرف النظر عن كون أحد الأسباب، إن لم يكن السبب الأرأس، الذي يحدو به لأن ينحو هذا المنحى إنما يكمن في قطاع ناخبيه الذي يعتبر، بإجماع المراقبين "قطاعاً رجراجاً، فضفاضاً، غير ثابت أو ملتزم بتصويت تقليدي"، وبالتالي فإنه يمكن أن يدير ظهره لـ "شينوي" إذا لم يتخذ مواقف سياسية حازمة، عوضاً عن إذدنابه حتى الآن لمواقف رئيس الوزراء اليميني شارون.

ويرى البعض، وهنا يتبدى الأمر الثالث، أن مسارعة الأوساط المقربة من شارون إلى الاعلان عن نيته طرح خطة معدّلة للإنفصال الأحادي الجانب على بساط بحث الحكومة ربما في مطلع الأسبوع المقبل، تنطوي أيضًا على محاولة من طرفه لوأد مبادرة "شينوي" قبل أن يشرع صاحبها ب"دحرجتها" وكذلك لتجييش جهوزية "العمل" السالفة من أجل حماية حكومته من السقوط.

بين هذا وذاك يمكن القول إن الحلبة السياسية الاسرائيلية دخلت "مرحلة اللامعقول"، كما أجاد توصيف ذلك أحد المعلقين. وباتت هذه الحلبة، من الآن فصاعدًا، مفتوحة على عدة إحتمالات، مؤشرات بعضها ليست واضحة كفايتها. غير أن الحاجة إلى النأي عن المغامرة في إستقراء متضمنات هذه الإحتمالات تستدعي منّا أن نكتفي، ختامًا، بتسجيل ما يلي منها:

إحتمال أول: إنفراط عقد الائتلاف الحالي للحكومة الاسرائيلية بمجرّد طرح خطة شارون المعدّلة على طاولة الحكومة، على فرض مقدرة حيازتها على أغلبية ضئيلة، وذلك بسبب إنسحاب حزبي "المفدال" و"الاتحاد الوطني" الذي لم يتأكد ما ينفيه إلى الآن من لدن المسؤولين في هذين الحزبين. ولئن كان السؤال فيما إذا كان "العمل" سينضم إلى الحكومة دونما إنتظار للقرار الذي سيتخذه مزوز، سيظل مبنيًا للمجهول فإن ما هو غير مبني للمجهول البتة أنه في حالة قرار شارون المضي قدمًا في خطته وحكومته، ستبقى الحكومة متمتعة بثقة الأغلبية البرلمانية، التي ستصبح (الثقة) شاملة لنواب "العمل" بشكل أكيد وربما لنواب "ياحد" وناقصة ربما لنواب "المفدال" وبشكل أكيد لنواب "الاتحاد الوطني".

إحتمال ثان: نعيد إلى الأذهان أن الكنيست سبق أن أقرّت في القراءتين الثانية والثالثة رفع نسبة الحسم في الإنتخابات من 1،5 إلى 2 في المئة (حوالي 63 ألف صوت بحسابات جافة). وعلى هامش هذا القرار نشر أن النية، من جانب "الليكود" وأيضًا "العمل"، كانت متجهة لرفع النسبة إلى رقم أعلى، لكن حزب "المفدال" وقف لذلك بالمرصاد مستعينًا ب"مكانته الائتلافية". الآن مع ازدياد احتمال إنضمام "العمل" إلى الحكومة سوية مع إحتمال خروج "المفدال" منها، من المتوقع أن تصبح الطريق سالكة لرفع نسبة الحسم من 2 في المئة الناجزة حاليًا إلى ما هو أعلى. وفي حالة تحقق هذا السيناريو فإنه سيعني الكثير بالنسبة لتركيبة الكنيست المقبلة في الانتخابات العامة، سواء تمت في موعدها المقرر أم جرى تبكيرها. وقد يكون مجرّد رفع نسبة الحسم أكثر من 2 في المئة حافزًا لتبكيرها (أشار إستطلاع للرأي نشرته "معاريف" أمس الاثنين إلى أنه في حالة إجراء الإنتخابات فإن النصر فيها سيكون من نصيب "الليكود" وسيبقى اليمين متمتعًا بالأكثرية المطلقة في الكنيست المقبلة).

إحتمال ثالث: إنضمام "العمل" إلى حكومة شارون لن يمر بهدوء في أوساط الحزب وفي أوساط "اليسار الصهيوني" عمومًا. وفي هذه النقطة نستعيد تساؤلات البروفيسور زئيف شتيرنهيل، الباحث في حركة العمل الاسرائيلية، الذي كتب في "هآرتس" عقب مظاهرة (15/5) يقول: الآن بعد أن طويت الاعلام واللافتات، يُسأل السؤال التالي: ماذا بعد؟ ما هي الأهداف الوطنية التي تحظى بموافقة الجميع؟ ماذا بالنسبة للاحتلال بشكل عام؟ هل إن قيادة حزب "العمل" المستعدة للانضمام الى حكومة "الليكود" بحجة أن هذا الانضمام وحده سيُنقذ خطة "فك الارتباط"، ستطالب بشكل تلقائي ايضاً باخلاء مستوطنات الضفة؟ وهل سينقسم الحزب، ومَنْ مِن ناشطيه وقادته سينضم الى أبراهام بورغ، عمرام متسناع ويولي تامير؟ بحسب ما هو معروف الآن، فان بيريس نفسه يُدين "مبادرة جنيف"، يبتعد عن "ميرتس ـ ياحد" كابتعاده عن النار، وهو يرى في حركة "السلام الآن" مجرّد مقاول تظاهرات في الإجمال.
لكن المشكلة لم تنتهِ بعد. فحركة "السلام الآن" لم تقرر بعد أي مسار ستختار: هل ستنضم الى "مبادرة جنيف"، أم ستسير سوية مع "العمل" إلى احضان حكومة الوحدة الوطنية في حال قرر شارون أنه مضطر إلى تغيير عجلة في عربته الغارقة في المناقشات حول "غوش قطيف". إن حالة عدم الوضوح التي تخيم على الطريق المستقبلي لحركة "السلام الآن" تشكل أحد عناصر شلل اليسار.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات