المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ما يجري الآن في رفح ليس تطهيرا عرقيا، ولكنه استمرار لسياسة الابادة السياسية. والابادة السياسية، "بوليتيسايد"، هي التعبير المهني لعملية تدمير الشرعية والقدرة لدى جماعة عرقية قومية على نيل حق تقرير المصير او على الاقل تقليص سريان هذا الحق الى الحد الادنى في اطار دولة قومية سيادية. وهذه الصيرورة تجري عبر الابادة المنهجية للمؤسسات والبنى التحتية السياسية والاجتماعية، والتصفية السياسية وحتى الجسدية لزعامتها، وبالأخص تحطيم ارادة وثقة الضحية بقدرتها على تجسيد حقّ تقرير المصير. وهذه صيرورة عسكرية وسياسية مشتركة تطلب تعقيداً بالغاً، لانها تتطلّب الحصول على شرعية داخلية ودولية لفعل ليس لمرة واحدة وإنما لصيرورة تستمر اجيالاً وأحيانا الى تعاون غير واعٍ من جانب الضحية ذاتها، المُعدّة للتصفية ككيان سياسي مستقل.

وعلى ما يبدو لم تكن هناك حكومة في اسرائيل، او اي جهة لمتخذي قرار شرعي بداخلها، سبق ان اتخذت ذات مرة قرارا صريحا وواعيا بتنفيذ إبادة سياسية للشعب الفلسطيني، بما في ذلك رئيس الحكومة والمؤسسة الامنية التي تحيط به. ومع ذلك كانت ولا زالت في صفوف السلطة المشرذمة في اسرائيل قناعة مستترة (وأحيانا مكشوفة) لاعادة عجلات العملية التي بدأت مع اتفاقيات اوسلو والتي توقفت باغتيال رابين الى الوراء، عبر تبنٍّ انتقائي لعدد من المكونات.
واعادة عملية تاريخية كهذه الى الوراء، رغم عدم الاتفاق سلفا على حدود العودة، كان ممكنا، وتحول عملياً الى تفاهم حول تنفيذ الابادة السياسية. ولأنه لم يكن بالوسع العودة الى ايام غولدا مئير التي اعلنت "ليس هناك فلسطينيون" (وهذه كانت ابادة سياسية لفظية)، صار ضرورياً تكييف عملية العودة مع الواقع الناشئ (خاصة بعد ان اعترف مناحيم بيغين بوجود كيان سياسي اجتماعي فلسطيني). والواقع الآخر الذي ليس بالوسع العودة اليه هو اعادة احتلال التجمعات السكانية الفلسطينية وتحمل مسؤولية مصير الفلسطينيين من جديد عبر حكم عسكري او مدني.

صحيح ان شارون جلب لليكود انجازات انتخابية مذهلة بفضل صورته ككاره للفلسطينيين، وكرجل عسكري متشدد ووحشي و"أب للمستوطنات". ولكن توقعات الناخبين منه، وليس فقط رجال اليمين، هو ان يقلب طاولة اوسلو ويعيد الفلسطينيين الى الوضع الذي كانوا عليه في مطلع السبعينات، الى الخنوع، والافتقار لقيادة محلية مستقلة، ومن دون مؤسسات وطنية وشعبية ومن دون بنية تحتية اقتصادية. وباختصار إعادتهم الى ان يكونوا مجرد مادة خام بأيدي المستوطن والمستغل الاسرائيلي، تحت كلمة السر "الأمن والسلام".
وفي البداية من عملية "السور الواقي" وفر شارون لأغلبية الجمهور الاسرائيلي البضاعة. بل ان الردود المتبادلة للتصفيات والعمليات الانتحارية بدت للجمهور ثمنا معقولا، او على الاقل "حالة اللاخيار" في الوضع الناشئ عن فشل محادثات كامب ديفيد ونشوب الانتفاضة المسلحة. وغذّت الحرب الفعلية التي شنها شارون على الفلسطينيين وقيادتهم غريزة الانتقام اليهودية ووفرت الامل بهزيمة الفلسطينيين واستسلامهم وربما ان قسما منهم لن يستطيع تحمل الاوضاع الصعبة المستحيل تحملها فيبدأون في الفرار كما حدث عام 1948. وهذا ايضا جزء لا يتجزأ من الابادة السياسية.
غير انه وبالتدريج تبين ان حالة استمرار القتال من دون قدرة فعلية على الحسم يكبّد المجتمع والدولة ثمناً لا يستطيعان احتماله لوقت طويل. وحينها ظهرت على جدول الاعمال العام المطالبة بالفصل من طرف واحد بواسطة اسوار وأسيجة. وفي البداية تحفظ شارون من ذلك ومعه كل اليمين وخصوصا المستوطنين، لان الفصل المادي يتعارض مع مبدأ ارض اسرائيل الكاملة ويشمل امكانية بقاء جزء من المستوطنين خارج الجدار. وإن شارون وجزءًا من حكومته ليس فقط أنهم لن يستطيعوا مواجهة ضغوط إقامة جدار الفصل، بل ان عليهم استخلاص اكبر قدر من الفائدة من هذه الفكرة من الناحيتين الاقليمية والسياسية، فجرى تبنّيها كمرحلة سياسية من خطة الإبادة السياسية. والهدف هو التنازل عن الحد الادنى من المستوطنات في اطار تسوية سياسية يتم ابرامها بواسطة طرف ثالث، وخصوصا الاميركيين.

حاول شارون واليمين البراغماتي، اذن، ابرام صفقة مع ناخبيهم ومع الاميركيين تبقي بأيديهم، مقابل اخلاء غزة وعدد من المستوطنات في الضفة، الحد الاقصى من المستوطنات والاراضي في الضفة. اما باقي المناطق المقطعة الاوصال ب "اصابع" الكتل الاستيطانية فيفضل ان يقيم الفلسطينيون لهم فيها "دولة" ترتبط ببعضها بجسور وأنفاق.

ولا عجب ان كل هذه العملية ستتم من طرف واحد في كل مراحلها، اذ ان التقدير الصائب يرى ان القيادة الفلسطينية المحطّمة وعديمة الصلاحيات والشرعية الداخلية لن تستطيع القبول علناً بهذه الشروط، التي تبدو حتى البانتوستانات ازاءها رمزا للحرية والسيادة. وقد أحسن منتسبو الليكود صنعا معنا ومع الفلسطينيين عندما رفضوا هذه الخطة البائسة، رغم انهم فعلوا ذلك لأسباب غير صحيحة.

ان العملية الكبيرة الجارية الآن في قطاع غزة أعدّت لتحقيق غايتين: الاولى ارضاء قسم اكبر من اليمين وإقناعه بتأييد (او عدم معارضة) خطة شارون المعدلة، والثانية مواصلة القسم العسكري من خطة الابادة السياسية بقوة اكبر تمهيدا للمرحلة السياسية.

( موقع "واينت" على الشبكة)

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, اوسلو, الليكود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات