المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

هل تتجه مصر حقاً نحو حرب مع إسرائيل؟

في مَقالِهِ الذي نُشِرَ في "هآرتس" (4/12/2006) سعى عضو الكنيست يوڤال شتاينيتس (ليكود)، إلى إماطة اللثام عن وجه جارتنا الجنوبية (مصر) وكشف صورتها "الحقيقية".

وبحسب إدعائه فإن تعاظم الجيش المصري وتدريباته ومناوراته العسكرية موجهة للحرب مع إسرائيل، وأن تزايد عمليات تهريب السلاح عبر محور فيلادلفي ما هو إلاّ جزء من خطة عمل مصرية لها غاية مزدوجة: "دعم هادئ للإرهاب" ضد إسرائيل ودعوة لنشر قوات مصرية أكبر في سيناء، بما يؤدي إلى إلغاء كون شبه جزيرة سيناء منطقة منزوعة بمقتضى ما نصت عليه معاهدة السلام بين البلدين.

بصرف النظر عن النظرية التآمرية والنوايا السيئة التي ينسبها شتاينيتس لمصر، فإن مزاعمه هذه تتناقض تناقضاً تاماً مع السياسة التي تنتهجها مصر منذ ثلاثة عقود تقريباً. فلو كانت الزعامة المصرية تسعى إلى إلغاء الاتفاقيات مع إسرائيل أو الدخول في مواجهة عسكرية معها، لكانت قد استغلت عدداً لا يحصى من الفرص التي أُتيحت لها للعمل في هذا الاتجاه، وقد طالبت بذلك مراراً جماعات مصرية معارضة وحتى زعماء أنظمة عربية، إلا أن الزعامة المصرية رفضت كل هذه الدعوات بشدة. وقد صرَّح الرئيس المصري حسني مبارك مراراً وتكراراً بأن الذين يتحدثون عن الحرب لا يدركون أبعادها وانعكاساتها. كذلك فإن التجربة المصرية تشير إلى أنه لا يمكن تحقيق أية أهداف حيال إسرائيل سوى حول مائدة المفاوضات.

في خريف العام 2000، وعلى أرضية اندلاع الانتفاضة والتصعيد في النزاع الإسرائيلي-العربي، ازداد الضغط الشعبي على الزعماء العرب لحملهم على اتخاذ مواقف أكثر تشدداً تجاه إسرائيل. وفي هذا السياق التأمت قمة عربية في القاهرة، هدد فيها متحدثون مختلفون، ومن ضمنهم عدد غير قليل من الزعماء والرؤساء، بشن حرب ضد إسرائيل أو على الأقل السماح بتجنيد متطوعين وإرسالهم إلى الأراضي المحتلة. وقد أكد الرئيس اللبناني إميل لحود حينئذٍ قائلاً: إذا لم نتحرك نحن القادة فإن الشعوب ستثور ضدنا وسندفع ثمناً باهظاً عن صمتنا. ودعا لحود إلى تبني قرارات عملية بروح مطالب الشارع العربي. الرئيس اليمني علي عبد الله صالح حث من جهته نظراءه العرب على عدم الخوف من إسرائيل، ووصفها في لهجة لم تتردد منذ سنوات في مؤتمرات دول الجامعة العربية، بأنها "سرطان في جسم الأمة العربية".

رداً على ذلك صرّح الرئيس مبارك في اجتماع مؤتمر القمة "فوجئنا بسماع تهديدات يمكن أن تعرقل العملية (السياسية) وأن تعيد المنطقة إلى مناخ العنف واليأس والفوضى". وأكد بلهجة صارمة أن على الزعماء والقادة العرب تشخيص المصالح والمنفعة العامة وعدم الانجرار وراء الأصوات الداعية إلى تصعيد الصراع. ووضع مبارك كل ثقل مصر، واستطاع، بالتعاون مع ملوك وزعماء الأردن والسعودية والمغرب وتونس، أن يمنع اتخاذ قرار كان من شأنه أن يفاقم الأزمة.

دور الجيش المصري في الماضي والحاضر

من هنا يجدر بنا أن نعزو تقوية وتعزيز قدرات الجيش المصري وتزوده بمنظومات أسلحة متقدمة، إلى فهم الزعامة المصرية للدور الذي اضطلعت به قواتها المسلحة في الماضي وما زالت تضطلع به في الوقت الحاضر. فالإنجازات التي حققها الجيش المصري في "حرب أكتوبر" مهدت الطريق إلى السلام، وأجبرت إسرائيل على الجلوس إلى مائدة المفاوضات وإجلاء مستوطنيها وقواتها من كامل شبه جزيرة سيناء. وتشكل القوات المسلحة المصرية سنداً مهماً جداً للنظام، وبالتالي يعتبر تعزيزها ضمانة للاستقرار الداخلي وتعبيراً يجسد كون مصر دولة مركزية في الشرق الأوسط المثخن بالأزمات.

وكأي جيش آخر، فإن الجيش المصري أيضاً يستعد لسيناريوهات تحتمل التصعيد والنزاع المسلح. ومصر لا تثق بإسرائيل أكثر من ثقة إسرائيل بجارتها الجنوبية، ولا شك في أن تعاظمها العسكري مرتبط أيضاً بتعاظم إسرائيل عسكرياً. ومن المحتمل أيضاً أن قادة الجيش المصري يقيمون في قراراتهم وزناً معيناً للتهديدات التي يطلقها بعض الساسة الإسرائيليين. على سبيل المثال تصريحات الوزير أفيغدور ليبرمان الذي هدد بقصف السد العالي (سد أسوان) وبإنزال كارثة بيئية على المجتمع المصري، أو مثلاً تصريحات المزايدة والتفوهات الطائشة التي اعتاد عضو الكنيست يوڤال شتاينيتس على إطلاقها في السنوات الأخيرة (حتى أثناء توليه لمنصب رئيس لجنة الخارجية والأمن) والتي يُتوقع بموجبها اندلاع نزاع عسكري بين البلدين.

الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس (الراحل) أنور السادات إلى إسرائيل العام 1977 والاتفاقيات التي وقعت بين البلدين عقب ذلك، شكلت نقطة تحول إستراتيجية في السياسة المصرية تجاه إسرائيل. وقد تم في ضوء ذلك إرساء نهج واضح لتسوية النزاع العربي-الإسرائيلي على أساس صيغة أو معادلة "الأرض مقابل السلام"، وأن تشمل "صفقة الرزمة" الاعتراف المتبادل والانسحاب وترسيم الحدود وترتيبات أمنية وتطبيع العلاقات، بالإضافة إلى جداول زمنية ومبادئ موجهة لتنفيذ التزامات الأطراف. في المقابل أخذت الولايات المتحدة الأميركية على عاتقها تقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية شاملة دعماً لتوجه الأطراف واستعدادها للتوصل إلى تسوية سلمية للنزاع في الشرق الأوسط.

الإستراتيجية السياسية التي رسمها الرئيس السادات استمرت أيضاً طوال الـ 25 عاماً من حكم الرئيس مبارك في مصر. وقد أدت سيرورات وتطورات إقليمية وعالمية (وفي مقدمتها انهيار الاتحاد السوفياتي) إلى تغيير في الموقف العربي تجاه مصر، حيث ألغيت المقاطعة التي فرضت عليها من قبل معظم الدول العربية عقب توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل، وعادت مصر لتلعب دوراً مركزياً في الساحة الشرق أوسطية. نظام الرئيس مبارك، الذي أصبح راعياً لمنظمة التحرير الفلسطينية، بذل جهوداً جمة في إقناع ياسر عرفات بتبني وقبول صيغة "الأرض مقابل السلام". وقد جاءت اتفاقيات أوسلو، وكذلك مبادرة السلام العربية التي أُقرت بالإجماع في قمة بيروت (آذار 2002) منسجمة مع المنهج السياسي المصري.

لقد وطدت مصر مكانتها كقوة إقليمية كبرى، ولسياستها تأثير بالغ على التطورات في الشرق الأوسط. هذه المكانة والصورة أتاحتا لمصر التمتع بمساعدات وتأييد دوليين على نطاق منقطع النظير، حيث تدفقت طوال السنوات الماضية عشرات مليارات الدولارات على الخزينة المصرية الفقيرة وشطبت مبالغ ضخمة من الدَين القومي المصري. معاهدة السلام مع إسرائيل وقعها رئيس مصري قاد 40 مليون شخص، اليوم يقود الرئيس مبارك 80 مليون مصري.

هذا الواقع الذي تضاعف فيه عدد السكان أدى إلى ازدياد الضغط بما لا يقاس على البُنى التحتية والخدمات في بلاد النيل، علماً أن معظم مداخيل مصر مرهونة باستمرار سياستها الشرق أوسطية، وفي صلبها: السلام مع إسرائيل والشراكة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة. وعليه فإن أي تصعيد خطير في العلاقات المصرية مع إسرائيل سيقلص بصورة ملموسة مداخيل مصر المتأتية من المساعدات الخارجية والسياحة ورسوم المرور في قناة السويس والصادرات النفطية، وسيلحق ضرراً فادحاً بمصالحها القومية.

دور الوسيط

إلى جانب التزام كل من مصر وإسرائيل بالاتفاقيات السياسية الموقعة بينهما، فإن زعماء البلدين غير متفقين في رؤيتهم للوضع في الشرق الأوسط، وخاصة ما يتعلق بسبل الخروج من الأزمات التي تمر بها المنطقة. فالزعامة والجمهور في مصر ينتقدون سياسة القبضة الحديدية التي تسم الكثير من الأنشطة الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية، ويجدون فيها تعبيراً آخر لعدم استعداد إسرائيل دفع ثمن السلام مع العرب بشكل عام، والفلسطينيين بشكل خاص. فضلاً عن ذلك فإن سياسة "عدم وجود شريك" والخطوات الأحادية الجانب التي تتبعها إسرائيل تغذي دائرة العداء.

إلى ذلك فإن مسألة الذرَّة تشكل موضوعاً خلافياً آخر بين البلدين، وتنتقد مصر بشدة رفض إسرائيل الانضمام لمعاهدة حظر انتشار السلاح النووي.

ويعتقد المصريون أن الخروج من الأزمات الخطيرة التي تعم الشرق الأوسط يتطلب تغييراً ملموساً وجوهرياً في سياسة كل من إسرائيل والولايات المتحدة بالدرجة الأولى. وتلعب مصر أكثر من أية دولة أخرى دوراً كبيراً في محاولات الحفاظ على استمرار "التهدئة" وإقناع إسرائيل بوقف عملياتها وأنشطتها العسكرية في قطاع غزة والضفة الغربية وكذلك في إتمام صفقة مبادلة الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت بمعتقلين فلسطينيين.

وقد عززت مصر، بناء على طلب إسرائيل، قواتها في محور فيلادلفي، غير أن محافل استخبارية إسرائيلية تدعي أن عمليات تهريب الأسلحة إلى قطاع غزة ازدادت بشكل مكثف. من حق إسرائيل أن تطالب مصر بزيادة مكافحتها لعمليات التهريب هذه، ولكن يجب أن لا ننسى أن المنطقة كانت مليئة بالأنفاق والمهربين عندما كان آلاف الجنود الإسرائيليين ما زالوا منتشرين على امتداد الحدود بين قطاع غزة والأراضي المصرية.

في بحث الولايات المتحدة اليائس عن مخرج من مأزقها في العراق، يمكن لمصر والسعودية (وحتى سورية) لعب دور أكبر في تسوية النزاعات في الشرق الوسط، ولا سيما في النزاع الإسرائيلي- الفلسطيني وإعادة الاستقرار إلى العراق. هذا الأمر يمكن أن نجد تعبيراً جلياً له في تقرير بيكر- هاملتون، والذي نص في موقف مشابه جداً للموقف المصري على أن "الولايات المتحدة لن تستطيع تحقيق أهدافها في الشرق الأوسط، إلاّ إذا اهتمت بشكل مباشر بالنزاع العربي- الإسرائيلي وبانعدام الاستقرار الإقليمي".

هذا التقرير، الذي يُعبر عن تقديرات يتبناها الكثيرون (في الولايات المتحدة وخارجها) يوفر لمصر فرصة ذهبية لتعزيز مكانتها ودورها في حلبة الشرق الأوسط وضمان تدفق المساعدات الضرورية جداً للمجتمع والنظام في بلاد النيل.

[ترجمة "مدار"]

___________________________

* د. يورام ميتال هو رئيس "مركز حاييم هرتسوغ لدراسة الشرق الأوسط والدبلوماسية" في جامعة "بن غوريون" في بئر السبع.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات