المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

الأزمة السياسية في لبنان، والتي تهدّد بجرّ الدولة اللبنانية إلى تدهور داخلي، تشكل أيضاً ساحة تصارع بين الولايات المتحدة ومؤيديها وبين معسكر "المقاومة" على رسم وتصميم النظام الإقليمي. من هنا، وفي الوقت الذي تتمترس فيه الأطراف المتنازعة في مواقفها، يبدو أن المفتاح لتهدئة الأزمة غير موجود نهائياًً في بيروت.

الإثبات الأخير لهذا الواقع يتمثل في حادث اغتيال وزير الصناعة المسيحي، بيار الجميِّل. هذا الحادث، الذي يُضاف إلى سلسلة اغتيالات سياسية أخرى تفوح منها رائحة سورية، انعكس على الوضع الداخلي، حيث أجَّج الخواطر لدى معارضي "حزب الله" وجَمَّد مؤقتاً خطط المنظمة ("حزب الله") لرفع وتيرة الصراع ضد الحكومة. غير أن الحادث يمكن أن يشكل، مع ذلك، محطة أخرى في مسار التصادم الذي يسير نحوه لبنان.

لقد أخذ "حزب الله" على عاتقه، بإعلانه الحرب على حكومة فؤاد السنيورة، فتح "جبهة ثانية" في الداخل. الدولة اللبنانية، التي استخف بها "حزب الله" طوال السنوات، تحولت، إلى جانب إسرائيل، إلى تهديد للحزب يجب تحييده. وفي ظل الواقع الراهن، الذي خلقت فيه حكومة لبنانية للمرة الأولى الظروف للحدِّ من قوة ونفوذ "حزب الله" في إطار قرار مجلس الأمن 1701، بل وأشرعت الباب أمام تدخل دولي، أدركت منظمة "حزب الله" أن قواعد اللعبة تغيرت. فلم يعد بالإمكان تسوية- أو على الأدق هضم- مسألة مكانة المنظمة داخل البيت في إطار "حوار وطني"، وعليه انتقلت المنظمة إلى التهديد بالعمل خارج نطاق السلطة (مظاهرات جماهيرية حاشدة) بهدف إسقاط الحكومة، وسط الاعتماد على الطائفة الشيعية كسند سياسي.

يبدو أن التوتر البنيوي الذي دار في السنوات الأخيرة بين الدولة اللبنانية و"حزب الله" بات على وشك الانفجار والمنظمة تستعد للمواجهة بناء على ذلك. هنا ثمة تشابه بين الطريقة التي أدار فيها "حزب الله" الصراع ضد إسرائيل وبين الطريقة التي يتبعها حيال الساحة الداخلية في لبنان.

فحزب الله يظهر كمن يعمل في ضوء خطة أُعدت مسبقاً بموجب درجات التصعيد، هدفها إسقاط حكومة السنيورة وإقامة حكومة ودية تجاه المنظمة (الحزب)، وهو يعد بـ "المفاجآت"، ويعتمد على الردع حيال الساحة الداخلية أيضاً، ويستعد سلفاً لسيناريوهات تصعيدية متطرفة. وتكتمل الصورة بالتدخل من جانب سورية وإيران المعنيتين أيضاً بإسقاط الحكومة الحالية في بيروت.

هناك وجه تشابه مُقلق أكثر وهو ما يظهره "حزب الله" من ثقة مفرطة بقوته وقدراته، والتي كانت وبالاً على "الحزب" عندما قرر تنفيذ عملية اختطاف الجنود الإسرائيليين في 12 تموز 2006 فتورط في حرب لم يكن يرغب بها. في الساحة الداخلية اللبنانية يبدي "الحزب" استعداداً لتحريك عجلات القطار الطائفي في لبنان، وتزيينه بشعارات التمثيل المنصف والديمقراطية، بل والذهاب إلى معركة انتخابات برلمانية مبكرة، منطلقاً من حساب منطقي في رؤيته، وهو أن الطرف الآخر سيرضخ ويتنازل تخوفاً من حرب أهلية. ولكن لا يبدو في هذه المرة أن خصومه مستعدون للتنازل عن السلطة. إن ما يقلق "حزب الله" ليس فقط حزم وتصميم الدولة اللبنانية، وإنما بالذات ضعفها وهشاشتها اللذين يمكن أن يجرّا الساحة بأكملها إلى تدهور يصل إلى حدّ حرب أهلية، وهو سيناريو لا يريده أيضاً "حزب الله" نفسه.

بيد أن الحديث لا يدور هنا حول أزمة داخلية فقط، وإنما أيضاً حول صراع له انعكاسات إقليمية وربما أبعد من ذلك، يوجد فيه للكثيرين من اللاعبين الخارجيين ما يمكن أن يخسروه من الكيفية التي سَيُحْسَمُ فيها هذا الصراع. وليس عبثاً أن الأزمة توصف كساحة لـ "حرب باردة" جديدة حول تصميم النظام الإقليمي بين نظريتين متنازعتين، نظرية "الاستقرار" الأميركية المدعومة من العالم العربي السني ونظرية "المقاومة" المدعومة من قبل سورية وإيران. ولبنان هو مجرّد ساحة أخرى إلى جانب الساحات المشتعلة حالياً، ولا سيما الساحتين الفلسطينية والعراقية.

في هذا السياق يبرز بشكل خاص الدور الذي تلعبه سورية في الأزمة. يبدو أن دمشق، التي تسعى لإسقاط حكومة السنيورة، لا تتورع عن إتباع كل الوسائل على أمل أن تؤدي هذه إلى تشويش وعرقلة التحركات الرامية إلى إقامة محكمة دولية للتحقيق في مقتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. ولا يهم سورية في نطاق سعيها هذا أن "تقذف المولود مع مياه الشطف". فالتدهور في لبنان ليس بالسيناريو السيء من وجهة النظر السورية (فتدخل سورية في لبنان كان يتم دائماً بهذه الطريقة). كذلك فإن دمشق غير منزعجة من التحذيرات الأميركية في هذا الصدد، ربما لأنها ما زالت تعتقد أن الولايات المتحدة تحتاج لها من أجل بلورة إستراتيجية الخروج من العراق، الأمر الذي يمكن أن يحيد الضغوط في السياق اللبناني. وبذلك يواصل بشار الأسد لعب اللعبة المزدوجة، يد ممدودة نحو الغرب إلى السلام (بما في ذلك الإعلان عن الاستعداد لاستئناف المفاوضات مع إسرائيل) ويد تلعب بالنار فوق برميل البارود اللبناني.

في كل الأحوال، أصبح لبنان عالقاً في ديناميكية أزمة، وحتى إذا حصلت تهدئة وتمكنت الكتل المتنازعة من التوصل إلى صيغة حل وسط، فإن الفرقاء سيكسبون على الأكثر مزيداً من الوقت لحين الانفجار القادم. فحتى يتمكن لبنان من الخروج من أزمته الراهنة لا بد من توفر عدة شروط، يمكن إيجازها بالآتي:
◾تدخل حازم من جانب المجتمع الدولي والعالم العربي السنّي بهدف دعم وتقوية حكومة السنيورة و كبح التدخل الإيراني والسوري.
◾في الساحة الداخلية: فك الارتباط بين "حزب الله" والطائفة الشيعية (وهي عملية مركبة مرهونة بوجود بديل مُغرٍ عن "حزب الله") وعزله عن حلفائه اللبنانيين وعلى رأسهم الزعيم المسيحي ميشيل عون، وزعيم حركة "أمل" نبيه بري.

خلاصة القول، في أجواء يخيم عليها عدم الاستقرار، ستكون قدرة حكومة السنيورة على تطبيق القرار 1701 محدودة أكثر، وإذا ما أُسقطت هذه الحكومة وأقيمت حكومة وحدة ينحسر فيها تأثير فريق 14 آذار، فسوف يسدل الستار نهائياً على فرصة تطبيق القرار الدولي المذكور.

"حزب الله" من جهته لا يعترف الآن بشرعية الحكومة (الحالية) وقراراتها، وقد يتخذ من ذلك ذريعة لمحاولة استعادة الصلاحية التي انتزعت منه كمدافع عن لبنان، وذلك عن طريق استئناف أعماله العدائية ضد إسرائيل. من هنا ستختصر الفترة الزمنية حتى المواجهة العسكرية المقبلة بين إسرائيل و"حزب الله".

______________________________

* خاص من "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب (مركز يافه للدراسات الإستراتيجية، سابقًا). الكاتب باحث في المعهد.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات