المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أخذ النضال ضد جدار الفصل العنصري، الذي تبنيه اسرائيل في الاراضي الفلسطينية المحتلة، يتسم بملامح جديدة: مقاومة مدنية غير مسلحة، موثقة بأفلام الفيديو، تشارك فيها النساء، الشيوخ والاولاد الفلسطينيون ويتم تعزيز هذا النضال من خلال مشاركة نشطاء سلام اسرائيليين- هكذا وصف تقرير في ملحق صحيفة "هآرتس" (16/4/2004)، أعده الصحفي أفيف لافي، ما اصطلح على تسميته بـ"الانتفاضة الجديدة" او "المعركة ضد الجدار". واشار لافي الى ان هذا النمط الجديد من النضال يحرج اسرائيل. ولكن بالرغم عن ان "الانتفاضة" الجديدة هي نضال غير مسلح، وحتى انه تمر الكثير من المظاهرات على مدار أيام عديدة دون قذف حجر واحد باتجاه جنود الاحتلال، الا انه عادة ما تنتهي هذه المظاهرات باطلاق النار الكثيف من جانب قوات الاحتلال، تكون في غالبيتها مناقضة لتعليمات اطلاق النار، وبسقوط مئات الجرحى. ويحذر نشطاء السلام، الذين يشاركون يوميا في المظاهرات ضد الجدار، من ان ممارسات القوات الاسرائيلية تؤكد انه لم يعد بعيدا اليوم الذي سيسقط فيه القتيل الاسرائيلي الاول برصاص الجنود الاسرائيليين.

الجدول الزمني لـ "الانتفاضة الجديدة" أصبح سيرة معروفة سلفا. في الصباح الباكر يستيقظ أهالي القرى الفلسطينية الواقعة شمال القدس، في تخوم الضفة الغربية، على ضجيج جرافات جيش الاحتلال الاسرائيلي، التي تقوم بأعمال حفريات واقتلاع اشجار في اراضي اهالي هذه القرى. ويحيط بالجرافات حزام من الحراس المدنيين التابعين لاحدى شركات الحراسة الاسرائيلية اضافة الى جنود وافراد "حرس الحدود" الاسرائيليين. ولا تمر دقائق حتى يمتثل اهالي القرى في اراضيهم محاولين وقف الاعمال في بناء الجدار. وينتصبون امام الجنود رافعين الاعلام وينشدون ويحاولون الوصول الى المكان الذي تعمل فيه الجرافات أو انهم يجلسون على الارض قبالتها.

وفي كثير من هذه المظاهرات يشارك افراد واحيانا عشرات من الاسرائيليين، الذين بحسب "هآرتس"، ينتمون الى منظمة "فوضويون ضد الاسوار". ويشارك ايضا نشطاء سلام دوليون. وكتب لافي انه عندما يتظاهر هؤلاء، هناك من يصور ويوثق. واكد ان الانطباع الذي يسود لدى مشاهدتها هو ان الفلسطينيين يعودون الى اساليب النضال التي سادت في الانتفاضة الاولى، التي اندلعت في نهاية العام 1987. "لكن الجيش الاسرائيلي يمضي قدما"، كتب لافي، "واطلاق قنابل الغاز المسيل للدموع على مجموعات من النساء المسنات او طالبات ثانوية هو مشهد شائع، كما ان اطلاق الاعيرة المطاطية نحو المواطنين الذين يحاولون الهرب منها هو مشهد متكرر. وفي احدى المرات – الشاذة، حسبما هو معلوم – تم اطلاق الرصاص الحي باتجاه المتظاهرين مما أسفر عن سقوط ثلاثة قتلى فلسطينيين، بينهم طفل في الحادية عشرة من عمره". وفيما ادعى ناطق عسكري اسرائيلي انه "وقع خطأ في بِدو، فقدان سيطرة"، اكد لافي ان حسبما هو معلوم فانه لم تتم محاكمة احد على مقتل ثلاثة فلسطينيين من جراء "فقدان السيطرة" هذا. واضاف ان عدد الجرحى في المواجهات مع قوات الاحتلال في هذه القرى بلغ المئات.

ثلاثة مركبات لـ"الانتفاضة الجديدة"

يرى لافي أن نمط النضال في "الانتفاضة الجديدة" غير المسلحة يحتوي على ثلاثة مركبات. هذه المركبات هي: الفلسطينيون من أهالي القرى التي تتعرض للاعتداءات الاسرائيلية؛ التوجه الى المحكمة العليا الاسرائيلية ضد بناء الجدار؛ نشطاء السلام الاسرائيليون والدوليون. وكتب لافي ان هناك ادعاء يقول بأن الانعطاف الى هذا المسار النضالي بدأ في 26 كانون الأول الماضي، عندما أصيب في قرية مسحة متظاهر اسرائيلي ينتمي الى "الفوضويون" يدعى غيل نعماتي. وقال احد النشطاء الاسرائيليين الذي يشارك في عدد من المظاهرات ان "ما جرى في مسحة والضجة التي ثارت في اعقاب ذلك هزّ الفلسطينيين. لقد ادركوا ان عليهم تنظيم أنفسهم من أجل النضال ضد الجدار وان هذا الشكل من النضال هو ذو تأثير". فيما يذكر آخرون البحث الذي جرى في محكمة العدل الدولية في لاهاي، "حيث فعلت السلطة الفلسطينية خلاله كل شيء من أجل اخراج الشعب في نشاطات احتجاجية ضد الجدار".

1. الفلسطينون أهالي القرى

يزعم لافي ان دور السلطة الفلسطينية في المظاهرات الاحتجاجية في قرى شمال غرب القدس "ضئيل للغاية". فقد نشأت "الانتفاضة الجديدة" من الاسفل، برأيه. وقال احد المواطنين الفلسطينيين من خربثا "لقد اطلقنا على ذلك اسم انتفاضة الجدار. لان الجدار هو الذي ايقظنا. ولو ان الجدار لم يصل الينا ولم تنهب اراضينا، لواصلنا حياتنا بهدوء".

النضال الجديد، الشعبي والخالي من الاسلحة النارية، بحسب مواطن فلسطيني من قرية بدرس، التي تم ابعاد الجدار عن اراضيها على اثر احتجاج الاهالي وضغط مارسه دبلوماسيون اجانب، يكمن في "ان نضالنا ليس ضد اليهود ولا الاسرائيليين، وحتى انه ليس ضد الجنود، وانما هو ضد الاحتلال. ولكن الاحتلال هو مشكلة كبيرة ولا يستطيع الفلسطينيون مواجهته لوحدهم. انهم بحاجة الى مساعدة الدول العربية وحكومات العالم. ومن اجل الحصول على ذلك يتوجب عليهم اتباع اساليب نضال يعتبرها العالم شرعية. ونحن نشعر بازدياد الدعم والاهتمام لما يجري هنا من كافة انحاء العالم. في الماضي كنا نظهر على هامش نشرات الاخبار، حتى في الاعلام العربي، والان عدنا لنتصدر العناوين".

واضاف هذا المواطن من بدرس ان "علينا ان نسمح بمشاركة كل فئات الشعب الفلسطيني في هذا النضال: نساء، اولاد ومسنين. وهؤلاء غير قادرين على المشاركة في نضال عنيف. ولكن في هذا النضال يمكنهم المشاركة. ثم ان هذا الامر يوحّد شعبنا. كذلك فاننا نعلم بان النضال غير العنيف يجعل الاسرائيليين يتوترون".

وقال مواطن من خربثا، وصفه التقرير بانه احد النشطاء المركزيين في قريته، "لقد رأينا ان مشاركة الاولاد والشيوخ في المظاهرات يجعل ردود فعل الجنود اكثر اعتدالا. اذ انه على الجنود ان يبدوا اخلاقيين امام العالم. وهذا ايضا اسلوب جيد لنواجه خوفنا من الجيش. فعندما يرى الرجال جنديا بحوزته بندقية إم.16. يرتجفون خوفا، لكن في اللحظة التي يأتي فيها الجنود من دون سلاح فان الرجال يشعرون بانه لن يمسهم بسوء".

2. نشطاء سلام اسرائيليون

اعتبر لافي ان احد ابرز ملامح "أسلوب النضال الجديد هو التعاون الاسرائيلي-الفلسطيني". وقال ان الفلسطينيين يوضحون في كل مناسبة ان لديهم مصلحة في هذا التعاون. ويعود ذلك الى الرغبة في التأثير على الرأي العام الاسرائيلي ولكن بالاساس لان مجرد وجود هؤلاء النشطاء يجعل رد فعل الجنود اكثر اعتدالا. ونقل التقرير عن احد النشطاء قوله ان وجوده وجماعته يجعل الجانب الفلسطيني ايضا اكثر اعتدالا: "وجودنا يسهم بشكل كبير في عدم استخدام العنف. ونحن نضغط كثيرا بهذا الاتجاه في الاجتماعات التي نعقدها قبل المظاهرات للتنسيق فيما بيننا. صحيح انه عندما يقذف احد الاولاد حجرا فاننا لا نتوقف ونبدأ في كيل المواعظ الاخلاقية له، لكن هناك (من الفلسطينيين) من يقول له "خلص، خلص". وهناك شعور لدينا بانهم يفون بوعدهم لنا ولا يريدون تشكيل خطر علينا".

واشار لافي الى ان سلطات الجيش الاسرائيلي ترى هذا التطور بشكل مغاير. وقال ناطق عسكري ان "نفرا من الاسرائيليين والاجانب يقومون باعمال استفزازية ويلهبون مشاعر الفلسطينيين وهو ما يجعل المظاهرات اعمال شغب عنيفة". وقال ضابط اسرائيلي يحمل رتبة عالية ان "الخط الاحمر بالنسبة لنا هو عندما يحاول المتظاهرون الاقتراب من الجرافات او قذف الحجارة على الجنود. عندها تصبح الامور اعمال شغب". واضاف ان "التعليمات الصادرة للقوات المتواجدة في الموقع واضحة: الوسيلة الاولى هي استخدام قنابل صوتية وقنابل غاز مسيل للدموع. واذا لم يثمر ذلك فاننا نوصي باعتقال المحرضين وتقديم شكوى ضدهم الى الشرطة، لان هذا يساعد في كثير من الاحيان على فض المظاهرة. واذا لم ينجح هذا ايضا وبقي الجنود يتلقون الحجارة، ونحن نرى ان الحجر يشكل خطرا على الحياة، نبدأ باطلاق الاعيرة المطاطية التي يجب ان تكون مصوبة نحو احد المحرضين الذين لم نتمكن من اعتقاله"!!

لكن لافي أكد على انه "من خلال مشاهدة الافلام التي توثق هذه المظاهرات يظهر ان ثمة فجوة كبيرة بين التعليمات الواردة اعلاه وبين ما يتم تطبيقه في الواقع. اذ انه مرة تلو الاخرى يتم اطلاق النار بكثافة، من قبل عدد كبير من الجنود، باتجاه المتظاهرين عامة الذين يقفون على بعد عشرات او مئات الامتار. وهناك امر واحد مؤكد وهو ان اطلاق النار لا يتم باتجاه "محرض" واحد. وفيما يتعلق بقذف الحجارة فانه من الصعب الحكم من الذي بدأ: اطلاق الاعيرة النارية ام قذف الحجارة".

يصف لافي الشاب يوني بولاك (21 عاما) على انه الزعيم الاسرائيلي للنضال ضد الجدار. وكتب انه في احدى الليالي هاتفه بولاك وقال له: "ما دفعني الى الاتصال بك هو انه خلال ايام معدودة وقعت حادثتان كاد يقتل فيهما اسرائيليان، ايتي ليفينسكي وانا. واعتقد انه اذا كان هناك شيء يقدر على وقف هذا التدهور فهو النشر في وسائل الاعلام. والشعور هو ان الجنود لا يتقيدون بالتعليمات وهم يطلقون الاعيرة النارية والغاز المسيل للدموع بحرية نحو الارجل ونحو الرأس ايضا. لقد سقط ثلاثة قتلى في بِدو، واخذ يقترب اليوم الذي سيسقط فيه قتيل اسرائيلي. بالطبع، ان يقتل اسرائيلي ليس اسوأ من ان يقتل فلسطيني ولكن هذا يجسد استخدام القوة.

"في كل مظاهرة أتحدث للجنود من خلال مكبر للصوت واقول لهم ان هذه مظاهرة هادئة ومشتركة للفلسطينيين، الاسرائيليين والاجانب، فيما تعوي الرصاصات بالقرب من أذني. وقد اعتقدنا مرة ان الكاميرات ستردعهم، بعد ذلك اعتقدنا ان تواجد اسرائيليين سيردع، والان لا شيء يردع الجنود. أؤكد لك ان احدا ما سيقتل هنا".

وسأله لافي: لعل الوقت قد حان لتجلس قليلا في بيتك؟

بولاك: "انا انسان سياسي واشارك في مظاهرات ولا يجوز ان يكون رد الدولة بان علي الجلوس في البيت او اطلاق النار علي. وحتى اذا كان الجيش على قناعة بان ما نقوم به هو استفزاز فانه في دولة دمقراطية مسموح القيام باستفزاز من دون ان يطلقوا عليك النار". واضاف بولاك ردا على سؤال: "واضح اني اخاف كثيرا. ولهذا السبب اتصل بك. لكن هذا لا يعني اننا سنتوقف عن التظاهر. سنواصل ، لكني لا اعتقد ان ذلك سببا لأن يموت احد منا"..

3. المسار القضائي

رأى لافي ان جزءا من اللعبة في إطار القانون دفع اهالي القرى المعرضة لمسار الجدار الى التوجه للمحكمة العليا الاسرائيلية، واستصدار اوامر منها لوقف العمل في الجدار او لازاحة مسار الجدار عن اراضي هذه القرى. وقال لافي ان غالبية الدعاوى القضائية باسم اهالي القرى الفلسطينية قدمها الى القضاء المحامي محمد دحلة. وقال دحلة ان "70% من مسار الجدار في قرى شمال غرب القدس الذي قدمت ضده دعاوى تم اصدار امر احترازي يقضي بمنع اجراء اعمال فيه. و15% اخرى سمحت المحكمة للدولة بتنفيذ اعمال مع استمرار المداولات في القضية وفي حال قبول الدعوى من قبل المحكمة فانه سيتم اعادة الوضع الى ما كان عليه. وهناك 15% من مسار الجدار رفضت فيها المحكمة الدعوى".

يشار الى انه في عدد من الحالات توجه دحلة الى المحكمة باسم قرى فلسطينية وسكان بلدات يهودية، يؤيدون ازاحة الجدار ليكون على "الخط الاخضر". فقد انضم 30 مواطنا اسرائيليا من "مفسيريت" في القدس الغربية إلى التماس اهالي قرية بيت سوريك ضد مسار الجدار الذي ينهب اراضيهم وطالبوا بازاحة المسار ليكون على "الخط الاخضر". كما وقع 600 مواطن من "مفسيريت" على عريضة تطالب بازاحة مسار الجدار الى "الخط الاخضر" وشارك 50 منهم في مظاهرة أهالي بيت سوريك ضد الجدار.

تطور آخر في هذا السياق هو ارفاق تصاريح مشفوعة بالقسم الى التماس ضد مسار الجدار زود بها دحلة "مجلس السلام والامن" الاسرائيلي والذي يضم ضباطا متقاعدين يحملون رتبًا عسكرية رفيعة جدا. وقام هؤلاء بجولات عند مسار الجدار وأكدوا، بحسب التصريحات المرفقة بالالتماس، ان مسار الجدار لا يخدم مصالح امنية اسرائيلية بتاتا.

وكتب لافي ان "النضال من اجل كسب الرأي العام الاسرائيلي لم ينجح حتى الآن. ثلاث سنوات ونصف السنة مرت على الانتفاضة، وربما 37 عاما من الاحتلال، جعلت الجمهور الاسرائيلي ومؤسساته يصابون بالعمى حيال ما يحدث في الجانب الآخر. ورغم ان الجيش الاسرائيلي لا يتعامل مع المتظاهرين على انهم عصابات مسلحة، غير انه يفرق المحتجين بالقوة كمن يقول لهم ان اعمال الاحتجاج غير العنيفة هي ايضا بدون فائدة. وتتغاضى وسائل الاعلام عادة، ولان النضال يومي وخطر فان عدد الاسرائيليين الذين يشاركون فيه لا يتعدى العشرات. بين حين وآخر ينضم الى المظاهرات نشطاء من حركتي تعايش وكتلة السلام".

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس, لافي, حرس الحدود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات