المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

العنوان الصارخ: "مساواة في التربية، ليست عندنا!"، ليس من بنات أفكاري أو نسج يراعي، أو ما يرد في مخيّلتي الشرقية الرحبة، بل هو عنوان لدراسة جادّة وضعتها الباحثة الإسرائيلية د. دفنه جولان عجنون، كما ورد ذلك في المجلة العبرية "هيد هحينوخ" (صدى التربية) عدد كانون ثاني 2005. الدراسة هذه ظهرت في كتاب "عدم المساواة في التربية" الصادر عن دار النشر "بابل" وهي نتاج ممارستها الميدانية في مهمتها: مسؤولة عن تقليص الفجوات في وزارة المعارف بين عامي 1999 – 2001 م، وكاتب هذا المقال هو الصحافي أريه ديان.

القاريء العربي لهذه الدراسة لا يُصاب بخيبة أمل، خاصة إذا كان له إطلاع على ما يدور في الوسط العربي في مجال التربية والتعليم، جرّاء الممارسات السلطوية القمعية والملاحقات السياسية، والتعيينات الحمائلية للمقرّبين من الجهاز والسُّلطة، في ظل مندوب المخابرات الذي يقبع في الدائرة العربية، وإن أوصت لجنة دوفرات بإبعاد هذا المندوب عن الجهاز وطلبت نقله إلى قسم القوى البشرية.

خطوط عريضة

الخطوط العريضة التي تشير إليها الباحثة هي التالية:

جهاز المعارف في إسرائيل لا رغبة لديه في تقليص الفجوات التربوية.
وزارة المعارف جسم يفتقر إلى الذاكرة التاريخية.
هل موظفو الوزارة في العاصمة يوافقون على أن يتعلّم أولادهم كما في ديمونا وبئر السبع ورهط!؟
يوسي سريد خسر المعركة (عندما تسلم حقيبة التربية والتعليم الوزارية) لأنه كان مشغولاّ في حربه مع حزب "شاس".
التمييز ليس بين اليهودي والعربي وحسب، بل وبين اليهود أنفسهم.
قاموس وزارة المعارف هو قاموس عسكري!!

مقتطفات عينية

تقول الباحثة في مستهل حديثها: "معظم الموظفين في وزارة المعارف الذين تحدّثت معهم حول جسر الفجوات، رفعوا أيديهم مُسْتَسْلمين ولسان حالهم يقول: الفجوات التربوية ستبقى دائمًا وسيكون هناك الأقوياء والأقل قوة".

ومنذ الخطوات الأولى في مجال عملها، قال لها المسؤولون عنها: "مهمتها مستشارة لوزير المعارف ولرئيس السكرتارية التربوية في كل ما يتعلق بجسر الهوات وعدم المساواة في جهاز التربية والتعليم". ثم قالوا لها فيما بعد بأنّها ستركّز كذلك عمل لجنة الخبراء من خارج جهاز المعارف، حيث سيُطلب منها إعداد اقتراحات في مجال العمل التربوي، ومن ثم فاجأوها بقولهم حين نتكلّم عن تقليص الفجوات، فنحن لا نعني بذلك الفجوات القائمة بين اليهود والعرب، لأنه لدينا خطة خماسية لذلك، لأن المسؤول عن تقليص الفجوات في الوزارة، هو المسؤول عن تقليصها عن اليهود فقط، بين الأحياء الفقيرة والغنية، بين الضواحي والمركز!

بعد أن وافقت الوزارة على التنازل عن الشرط الذي يكرّس التمييز، وبعد أن تم الاتفاق معها جليًّا أن هذه اللجنة التي ستركزها تقترح سياسة عامّة لتقليص الفجوات بين اليهود واليهود وكذلك بين العرب واليهود، وكان هذا إبان انتقال رئاسة الحكومة من بنيامين نتنياهو إلى إيهود باراك وتسنّم يوسي سريد منصب وزير المعارف بدل إسحاق ليفي، فإن الوزير سريد (الجديد آنذاك) وَعَدَ بتقليص الفجوات، بلغته البليغة، فكان حديثه عن ثورة في مجال التربية وأعطى المجال للتعبير الحرّ عن الآراء في باب انعدام العدالة والمساواة الضاربة أطنابها في الدولة التي تخلد عدم المساواة! إلاّ أن الباحثة تضيف قائلة: "إن الوزير عمل القليل لأنه كان مشغولاً في حربه مع الحزب الديني (شاس)، ولذلك خسر المعركة الحقيقية في مجال التربية الفعلية، وقد تحدّث مطولا عن نفسه ولم يُصغ حتى للمستشارين الذين أحضرهم معه"!

الأشهر الثلاثة الأولى في عملها، قضتها د. دفنه في لقاءات تعارف مع موظفي الوزارة وفي زيارات ميدانية لمختلف المدارس في أرجاء البلاد: "وكلّما تعمقت أكثر ازدَدْت استغرابًا وذهولاً. فبعد زيارات لي في ديمونا وبئر السبع أو رهط، كنت أتساءل: هل يقبل الموظفون القابعون في الوزارة في القدس بأن يتعلّم أبناؤهم في نفس الظروف التي يتعلّم فيها طلاب المدن الآنفة الذكر"؟

وعود في خبر كان

تقول: "زرت مدرسة بدوية في النقب، قابلت ناشطي الجمعية الإسرائيلية المهتمّة بيهود الحبشة، فازداد ذهولي وقشعريرتي: الصدمة الكبرى الأولى التي واجهتني حين زُرت مدرسة قبيلة العزازمة، في إحدى القرى غير المعترف بها في النقب: كل شيء هناك غريب بدءًا بالظروف الطبيعية، مرورًًا بمسافات عشرات الكيلومترات التي يضطر التلاميذ إلى قطعها يوميًا كي يصلوا إلى المدرسة وانتهاءً بالضائقة الكبرى التي يواجهها المدير والمعلمون في كل درس ودرس، وأكثر ما أذهلني بالذات كان الاستقبال الذي أعدّوه لنا، نحن بعثة كبار مسؤولي الوزارة في القدس، فبدل أن يصبّوا جام غضبهم علينا، فقد استقبلونا استقبالاً حارًا، دون أي لهجة عتاب. قالوا بأن الوعود التي قُطعت لهم كثيرة لإقامة مدارس جديدة، الوعود تطير مع خبر كان، كلامهم مؤدب، دون غضب، دون حنق أو عتاب أو اتهامات. هنا شعرت بالواقع الاستعماري للعلاقات بين مؤسسات الدولة وهذه المدارس، عندها أيقنت أنه بدون تغيير هذا الواقع فلن نتمكن من تقليص الفجوات".

لا يسألونهم

هذا الواقع المرّ ازداد رسوخًا حين قرّر مدير مدرسة في نتانيا أن يوزّع الطلاب الأثيوبيين على كل الصفوف معلّلاً ذلك بأنه لا يريد إيجاد تجمّعات أثيوبية في مدرسته.

هذا القرار وتعليله أثارا عاصفة صغرى لأن الكثيرين اعتبروا ذلك عنصرية. وتضيف د. دفنه: "قابلت أعضاء الجمعية الإسرائيلية المهتمة بشؤون أثيوبيا، سمعت منهم أشياء أثارت استغرابي في البداية: قد يكون المدير والآخرون يتجاهلوننا ويتجاهلون الجمهور الأثيوبي"!

وتمضي قائلةً: "حين تحدّثنا عن البرامج المعمول بها في الوزارة من أجل تحسين مستوى الطلاب الأثيوبيين، فوجئت ثانية بعد أن قال الموظّفون: لو وُزّعت النقود التي وُظّفت في هذه الخطط على كافة الطلاب الأثيوبيين، لكان بإمكانها أن توفّر معلمًا خصوصيًا مرافقًا لكل واحد منهم"، ثم تقول: "عدنا وسألنا: لماذا تقومون بهذه الأعمال دون أن تستشيرونا أو تعرفوا مواقفنا! فنفس النظرة الاستعمارية للمدرسة البدوية في النقب، تتجلّى هنا مع الأثيوبيين".

دون تاريخ

حاولت الباحثة أن تعرف نتائج عشرات الخطط التي أعلنت عنها الوزارة لتقليص الفجوات في عشرات السنين الأخيرة، فتبيّن لها: "فوجئت بعدم وجود أرشيف في الوزارة يحتوي التقارير المقدّمة سابقًا والخطط التي جُربت. إن وزارة المعارف تفتقر إلى ذاكرة تاريخية، ولا توجد أي وسيلة لمعرفة ما حدث أو ما لم يحدث سابقًا. فهمت من الذين قابلتهم أنه في السنوات الأخيرة تركّزت النشاطات لتقليص الفجوات بما يعرف بـ(مشروع الثلاثين بلدة)، فقد اختاروا هذه البلدات الفقيرة في أرجاء البلاد وحوّلوا إليها الملايين من الشواقل بواسطة مقاولين خصوصيين، لتقليص الفجوات بين هذه البلدات والبلدات الغنيّة. أردت معرفة نتائج هذه الخطة لدى الوزارة وبما أنه لا توجد ذاكرة للوزارة فقد تحدثت مع نائب المدير العام الذي ركّز الاهتمام بهذا المشروع، وفي حديثي معه فوجئت من جديد: لا معطيات لدينا ولا تقديرات!! خمس سنوات بعد إنهاء المشروع الذي كلّف الملايين لا معطيات ولا نتائج لدى الوزارة"!!

عدم مبالاة

حاولت الباحثة إعادة التحكم بأعصابها بعد هذه المفاجآت، فأقامت لجنة خبراء من خارج الوزارة لإعداد خطة شاملة لتقليص الفجوات، أعضاء اللجنة قاموا بواجبهم وقدّموا لها الوثائق التي أعدها كلّ منهم في مجال تخصصّه، لكن هنا حدث التغيير السياسي الذي أدّى إلى إيقاف عمل د. دفنه في الوزارة، ففي البداية استقال الوزير سريد، بعدها جرت انتخابات أدّت إلى استبدال رئيس الحكومة باراك برئيس جديد هو أريئيل شارون.

ليمور ليفنات أصبحت وزيرة المعارف والثقافة، وهذه عيّنت البروفيسور يعقوب كاتس من جامعة بار إيلان ليرأس السكرتارية التربوية، بدل بروفيسور ميشيل ابيطبول.

قبل حدوث هذا التغيير في الوزارة كان هناك قرار يقضي بأن الأبحاث والتوصيات التي أعدّتها لجنة تقليص الفجوات تُنشر رسميًا من قبل الوزارة لتكون أساسًا لسياسة جديدة في هذا المجال. تقول د. دفنه "قابلتُ البروفيسور كاتس وأطلعته على المواد، وهذا أوضح لي: ليست لديّ أية نيّة لنشر هذه التوصيات!! توجهت للوزيرة ليفنات وقالت إنها تتقبّل موقف البروفيسور كاتس. مجموعة أبحاثنا عن عدم المساواة في التربية والتعليم عددها 12، كتبها اثنا عشر متخصصًا في التربية في مجالات مختلفة، تشمل تجديدات وتغييرات، إلا أن الوزيرة والبروفيسور كاتس لم يقبلا هذه التوصيات".

الجهاز يخلّد الطبقية

حاجيت غور، مديرة المركز التربوي للمراقبة في كليّة "سمينار هكيبوتسيم"، تعترض على الحوار القائم في السنوات الأخيرة حول الطريقة المفضلّة لتعليم القراءة، وحاجيت هذه واضعة أحد التقارير تقول فيه: "انعدام العدالة الاجتماعية والفرص المتاحة في التربية، يبدو كذلك في القراءة، وهذا الموضوع هو في صلب الحوار الثقافي والاجتماعي. فليس من العدالة أن يكون احتمال وصول طالب ولد في جنوبي تل أبيب أقلّ من احتمال نظيره المولود في شمال المدينة للوصول إلى الجامعة، وليس من العدالة أن تكون احتمالات الطالبة اليهودية أقوى من احتمالات نظيرتها العربية في الحصول على شهادة البجروت، وليس من العدالة كذلك أن تكون احتمالات الطالب الذكر للوصول إلى المهن الراقية أكثر من احتمالات الطالبة الأنثى". وتضيف: "رسالة الحوار الثقافي هي: أن تسأل، تبحث، ترفع التقرير وتحلّل كيف أن جهاز المعارف يُخلّد الطبقية بين المواطنين عن سابق معرفة أو دونها". وتقول كذلك: "يمكننا تدريس كل طريقة إذا كان هناك وعي ثقافي، لكن دون اعتبار لعدم العدالة الاجتماعية. فكل طريقة متَّبعة تؤطر التلاميذ طبقًا لأصلهم العرقي".

ايلانه يونا من رابطة أصدقاء مدرسة "كيدما" في القدس تقول في تقريرها إنها اعتمدت على مقابلات أجرتها مع معلمي المدرسة وتشير إلى أن طريقة التعليم الخاصة الفاعلة هنا تُتيح للتلاميذ الانفتاح على الحضارة الشرقية وتراث الأهل، دون أن تمس باطّلاعهم على المواد الدراسية الإلزامية طبقًا لمنهج الوزارة.

هامشية مضاعفة

بروفيسور رمزي سليمان، رئيس قسم علم النفس في جامعة حيفا، يُحلّل المناهج التعليمية في المدارس العربية فيستنتج بأن هذه المناهج أُعدَّتْ كي يشعر التلاميذ العرب الفلسطينيين في البلاد بالغربة والبعد عن حضارتهم، كي يتواجد لديهم فراغ يُملأ جزئيًا بنوع هامشي مشوّه من الحضارة الإسرائيلية ذات مميزات حضارة الغيتو، ونتاج ذلك وجود إنسان نصفه إسرائيلي والنصف الآخر فلسطيني يتبنى هامشية مضاعفة كمواطن إسرائيلي وابن للقومية الفلسطينية.

وللخروج من هذه الدّوامة التي يشير إليها بروفيسور رمزي، يقترح د. خالد أبو عصبة، الباحث في معهد بروكديل، المحاضر في موضوع علم الاجتماع التربوي والنشيط في لجنة متابعة قضايا التعليم العربي في البلاد:

"في البداية يجب أن نصل إلى تمثيل مُتساوٍ للعرب في مراكز التخطيط والإدارة في الوزارة، وهذا شرط أساس للمحافظة على المصالح والمميّزات الخاصة للتعليم العربي. ممثلو الأقلية العربية هم الذين يجب عليهم تعيين المضامين التربوية في المواضيع الأدبية، وتعيين القوى البشرية ويجب أن يكونوا مسؤولين عن التخطيط والتنفيذ والمراقبة والتقدير، وهذا يتحقّق فقط إذا أقيمت في وزارة المعارف مديرية تربوية عربية مستقلة، كما هو في التربية الدينية في الوسط اليهودي".

غطرسة

بعد هذه الجولة مع واضعي بعض التقارير نعود للباحثة د. دفنه التي تقول: أردت معرفة دور جهاز المعارف في تعميق الفجوات، فطرحت عدة أسئلة وتحدّيات منها:

هل من يفتقر إلى التيار الكهربائي في خيمته، لا يحق له هذا التيار مع الحاسوب في مدرسته!؟
لماذا تبدو لنا المدارس بهذا الشكل؟
لماذا هذا الازدحام في الصفوف؟
لماذا كانت المديرات اللاتي قابلتهن غاضبات مُحبطات؟
ما معنى اللغة الغريبة التي فُرض استعمالها عليهن؟
لماذا يغيّرون كل سنتين أساليب التدريس في القراءة وكتب التدريس كذلك؟
لماذا كانت مصطلحات وزارة المعارف ذات صبغة عسكرية؟ وحين يشتكي أحدهم الوزارة يجيبونه: "القيادة تفرض علينا تعليمات جديدة طيلة الوقت"!
لماذا كان الانطباع المركزي عن أكبر منظمة في الدولة والوزارة الثانية في أهميتها وحجمها من حيث الميزانية هو: ساحة الحرب؟
لماذا تقع مكاتب الوزارة في بناية الغطرسة "ليف رام"؟
أيمكننا توقّع مساواة والتخطيط لها في القدس المشطورة وفي بناء يُدعى: الغطرسة ومن بين آلاف العاملين فيه فإن العاملين العرب الوحيدين تقريبًا هم من "السُّفرجية" في المقصف؟

الأسوأ بين عالمين

بعد نشر تقرير لجنة دوفرات للإصلاح التربوي الصادر عن مدرسة ليفنات- كاتس، فإن الباحثة د. دفنه تقول إنها لا ترى في هذا التقرير أيّة نقطة انطلاق جوهرية:

"الاتجاه المركزي الذي ييمّم شطره جهاز المعارف في السنوات الأخيرة هو الخصخصة، وهذه كما هو معلوم تزيد عدم المساواة وهي تنتج ليس من جراء نظرة اقتصادية وحسب، إنّما جرّاء اعتبارات قد يكون فيها بعض الصواب، وذلك بنقل خدمات خارج الجهاز للتقليل من قوة البيروقراطية، التي تخنق جهاز المعارف في كثير من الحالات. والمشكلة أنه بعد الخصخصة، ستواصل البيروقراطية مراقبة النشاطات المخصخصة والعوامل الخاصة وجرّاء ذلك سنحصل على خصخصة تزيد عدم المساواة، وكذلك بيروقراطية تخنق جهاز التربية، وهنا نبقى مع الأسوأ بين عالمين".

(*) نمر نمر- كاتب ومرب متقاعد

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات