المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

الممر الواقع في الطابق الأول من البناية الرئيسية لجامعة حيفا كان مليئًا بالعيون. عيون غاصت تحت الحواجب المرفوعة استهجانًا لما قرره رئيس الجامعة، بروفيسور يهودا حيوت. القصة، قبل اسبوعين، بدأت حينما بادر المؤرخ المعروف د. إيلان بابه الى تنظيم يوم دراسي يتناول حرب 1948 برؤية تحليلية بحثية مجددة. لكن، لم يتوقع أحد أن تكون هناك بعض المواضيع التي يُمنع النظر إليها مجدداً، ولو بثمن كتم الأنفاس. يجب، كما يبدو، أن تظل مغطاة بغبار الأمس. حتى القمع يفقد هنا إحدى حاجاته الهامة: الحياء.

أما من يحاول غير ذلك فإن حقه في التفكير والتعبير معرّض لما يلي: توجه د. بابه الى رئيس قسم العلاقات الدولية في كلية العلوم السياسية، د. ميخائيل غروس بطلب تنظيم اليوم الدراسي، لمتابعة وعرض وتحليل الرؤى الأكاديمية في تناول حرب 1948 لدى اسرائيليين وفلسطينيين وعرب بمشاركة عدد من الباحثين والكتّاب: د. أسعد غانم، د. أودي أديب، الكاتب سلمان ناطور والباحث تيدي كاتس (صاحب البحث الشهير عن مجزرة الطنطورة، والذي قامت الجامعة بشطبه رغم أن أستاذه أجازه بعلامة امتياز). رئيس قسم العلاقات الدولية تجاوب معلنًا موافقته على تنظيم اليوم الدراسي. من هنا يبدأ مسلسل مثير (للعجب وغيره)، فقد تدخل عميد مدرسة العلوم الاجتماعية بروفيسور أريه رتنر وأعلن إلغاء اليوم الدراسي.. "فيتو"! قال العميد إن القرار مشترك بينه وبين رئيس الجامعة أيضًا. تسويغ هذه الخطوة المفرطة في "الديمقراطية وحماية الحريات الأكاديمية" تم ايجاده في "إشكالية" مشاركة د. أودي أديب. لماذا؟ لأنه أدين في السبعينيات بـ "علاقات مع العدو السوري" وسُجن. نعم. حسنًا، المَخرج الممكن من هذا الانفتاح الرؤيوي الذي يشار إليه بالبنان كان محاولة إقامة اليوم الدراسي كحصة غير منهجية ضمن قسم العلاقات الدولية. أفهمت الادارة المنظمين أن أي نشاط يحتاج لترخيص. وبما أن الحصة لا تحتاج لذلك فقد ظن المنظمون أنهم اجتازوا "العقبات الديمقراطية". ولكن هيهات.. فالرئيس أصدر أمرًا موقعًا يعلن فيه منع إقامة هذا اليوم الدراسي في أية بقعة من الحرم الجامعي. ولا حتى في أحد المقاهي. لا بل انه أرسل قوة من رجال الأمن الى القاعة التي كان يُفترض أن تضم النشاط، حيث أغلقوها وما كان ينقص سوى ختمها بالشمع الأحمر. هنا اختلط الاستياء والغضب بالتندّر. فالأمثال تصدق أحيانًا. شر البليّة.. رسالة الرئيس سُميت "فرمانا" عثمانيا. البعض تساءل ما إذا كانت القوات الخاصة في الطريق. ومسؤول الأمن قال ردًا على سؤالي إنه "ينفذ الأوامر فقط". صياغة ليست غريبة عن واقعنا.. عدد من المحاضرين لم يخفِ غضبه. وقد نشروا ردودهم في موقع الانترنيت الجامعي الداخلي. د. يوفال يونائي من قسم علم الاجتماع يقول: "إن إلغاء النشاط بأمر من فوق يناقض الروح والحرية الأكاديميتين، حتى لو كانت لدى ادارة الجامعة الصلاحية لذلك. وهو احتمال مهزوز من ناحية قانونية. على أية حال فإن هذا الحظر يناقض الحاجة في انجاز التسوية ومعالجة جروح النزاعات والعداء". بروفيسور ميخا ليشم من قسم علم النفس قال: "إن هذا السلوك لا يُغتفر ويستدعي تفسيرًا مقنعًا من سلطات الجامعة. أخشى أن العديد من زملائنا ومن الصحفيين سيتساءلون بدهشة عن سمعة الجامعة، ألم يكن من الحكمة إجازة اليوم الدراسي وترك المسؤولية عنه لمنظميه، اذا كانت هناك حاجة الى ذلك أصلا؟". واختتم بكلمات قاسية: "في كل الأحوال سنظل في هذا الوحل الذي يغطي وجوهنا". بروفيسور يوسي غوطمان يتهم رئيس الجامعة بـ "المساس بسمعة جامعة حيفا كمؤسسة أكاديمية منفتحة وحرة". وفسر موقفه كالتالي: "المؤسسة الاكاديمية تقوم على مبدأ حرية التفكير وحرية الرأي، على الأقل طالما لا تتناقضان مع القانون. وممنوع أن يقوم صاحب وظيفة في الجامعة، مهما كانت درجته، باستغلال مكانته لوضع حواجز أمام هذا المبدأ، حتى لو كانت الأفكار المطروحة غير مقبولة عليه". د. ايلان بابه المبادر لليوم الدراسي الذي شطبته "رقابة الأكاديمية"، ويا لها من توليفة خطيرة، يؤكد أن هذه الحادثة ليست وحيدة. بل ان "هذا هو الواقع اليومي في الحرم الجامعي، الذي يعكس التدهور العام في في حقوق المواطن والانسان في إسرائيل". بابه يربط المسألة بالسياق الاسرائيلي الأوسع الذي لا يزال أبرز ما فيه هو الاحتلال. يقول: "إطلاق النار على الصحفيين وقتل ناشطي حقوق الانسان في المناطق المحتلة من جهة، وسلطة الارهاب والتخويف في الجامعة من جهة أخرى تشكلان جزءا من نفس الظاهرة". وهو يتحدى الصامتين من بين زملائه المحاضرين: "طالما واصلوا صمتهم على تدمير الحياة الأكاديمية في المناطق المحتلة، فلا يمكن للجامعات في اسرائيل أن تكون جزءًا من العالم المتنور والمتقدم، الذي تطمح للانضواء تحت لوائه. إن العديد من الزملاء يستصعبون التعبير عن تضامنهم، كل واحد وواحدة لأسبابه. يبدو أنهم لم يذوّتوا بعد العبرة التاريخية من الماضي. اليوم أنا، وغدًا سيأتي دورهم. العديدون منهم جاءوا من عائلات عانت على جلدها من كتم الاصوات التدريجي الذي رافق صعود النازية والفاشية والدكتاتوريات في امريكا اللاتينية. إنهم يعيشون حالة من الانكار الذاتي، وكأن هذا لن يحدث لهم". هذه القضية المركبة بل الخطيرة التي تطال أساسيات الخطاب والممارسة الأكاديميين تتحول الى ما يلي من خلال سطور (سطر) الرد الرسمي للناطقة بلسان الجامعة: "اليوم الدراسي لم يكن بحسب المعايير الأكاديمية لجامعة حيفا". بمعنى ما، الناطقة محقّة. فمعايير بهذه القامة تغتال نفسها وما تمثّله.

المصطلحات المستخدمة:

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات