المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

هشام نفاع

"لقد كان الأمر تسرّعا من أحد الضبّاط الذي يبدو أنه انضغط".

هكذا أجاب ضابط شاب عند بوابة جدار الفصل العنصري قرب طولكرم، حين سألته عن السبب في إطلاق قنابل الغاز على متظاهرين فلسطينيين، السبت، وقد تجمعوا شرقي الجدار مقابل مظاهرة ائتلاف النساء لأجل السلام غربي الجدار.

فلم تكد المظاهرة المشتركة والمقسومة بالاسلاك الشائكة تبدأ في ساعات الظهر، حتى سُمع دوي القنابل.. توتر إضافي ملأ هذا المكان المتوتر. من بعيد شاهدت أطفالا يتراكضون ولكن بعد قليل هدأ الوضع. ذلك الضابط أضاف أن إطلاق الغاز نفذه "حرس الحدود"، ولم يُخف ابتسامة خفيفة حين قال ذلك. تركته وأنا أفكر بتقرير "لجنة أور" الصادر قبل أقل من أسبوع والذي كشف وأكد السلوك العنيف والعدائي للشرطة عامة و"حرس الحدود" أيضا.

فاللقاء السياسي الاسرائيلي – الفلسطيني كان منظمًا جدًا. ممثلات المجموعة الاسرائيلية غربي الجدار سيطرن على الوضع بشكل لائق ولم يسمحن لأي استفزاز بتخريب ما أرادته المظاهرة: النساء يبنين السلام وليس الجدران. أما لماذا أطلق أفراد "حرس الحدود" الغاز فهو أمر فيه الكثير من التدليل على الحالات التي ساءت فيها أوضاع الى درجة القتل وسفك الدماء، لأن هذه القوات تعوّدت سهولة الضغط على الزناد والاستهتار بسلامة وحياة العربي. وبالطبع، فإن تنصّل الجيش من المسؤولية ورميها على "حرس الحدود" لا يضلل أحدًا. هذه المغسلة الكلامية العسكرية يمكنها أن تخدع الأغبياء فقط. متظاهرات ومتظاهرو يوم السبت ضد جدار الفصل والكراهية، ليسوا أغبياء. لو كانوا كذلك لما كانوا هنا أصلا.

عدد من الأهالي عبروا البوابة المطليّة بالأصفر. غالبيتهم قطعوا المظاهرة بسرعة دون أن يتوقفوا. قلة فقط أجابت على أسئلة صحفية سريعة: كيف ترون هذه المظاهرة؟

"ان شاء الله تتحسن الاحوال".

"منيح منيح. مظاهرتكم منيحة".

"نأمل أن تساعدنا ضد المحسوم والجدار والجيش".

الجيش، عملا بسياسة معروفة سلفًا، لم يسمح للفلسطينيين والاسرائيليين باللقاء. هذه هي العقلية التي تتماشى تمامًا مع الجدران كتجسيد للفصل والقطيعة وكسر أي احتمال للقاء والحوار والحديث. الجدار هو اشتقاق مادي صلب بشع من عقلية الحكومة الاسرائيلية المتربعة اليوم على صدور الجميع. وعلى ضمائر الاسرائيليين بالذات، كما آمل! ولكن الطرفين أصرا على اللقاء، حتى بشكل جزئي. أصلا لقد جاءوا هنا للاعلان، كما قالت إحدى المنظمات الاسرائيليات: "إن كل ما يقال لنا من أنه لا يوجد شريك فلسطيني هو كذب. هناك شركاء. ولكنهم لا يمكن أن يكونوا شركاء لإملاءات الاحتلال وسياسته".

الجيش كما يتبيّن لديه وظيفة واضحة: عليه أن يثبت يوميا أنه لا يوجد شركاء. وإذا وُجد الشريك فلا توجد مشكلة.. إغتيال واحد وانتهى الأمر. هكذا تفرض المؤسسة السياسية – العسكرية (وقد باتت وحدة واحدة) في اسرائيل "نظريتها". بهذه الطريقة يجري العمل لتكريس الاستيطان والجدران والسيطرة والتفوّق العسكري المجنون والمحسوب بدقة، في نفس الوقت.

أمام الاصرار سمح الجيش لمجموعة من (20) امرأة و(3) صحفيين بتجاوز البوابة والتقاء الشركاء الفلسطينيين في الجهة الأخرى. وقد حملن معهن كمية من الحقائب المدرسية كما أعلنّ سابقًا في بيان الدعوة للمظاهرة: "الجدار يمس بشكل خطير بإمكانية أطفال كثيرين في التعليم.. تعبيرًا عن احتجاجنا وعن نضالنا المشترك ضد قمع الأطفال المتواصل، نتبرع بكمية من الحقائب المدرسية مع تمنياتنا لهم بسنة دراسية موفّقة".

على بُعد عشرات الأمتار من بوابة الجدار التقت مجموعتان. دفء ومصافحات وتحيات وانفعال. تختلط الهتافات ضد الاحتلال. يهوديات يشاركن في الهتاف بعربيّة بعضها مكسّر، وعربيات يعرفن (قليلا) كيف يُقال بالعبرية "يسقط الاحتلال". تفقد اللغة الحواجز. لا تعود خاضعة للفصل. تتحوّل الى ما يجب أن تكونه، وسيلة تواصل بين بشر. أتذكر الأمر العسكري بإغلاق المنطقة، الذي أطلعنا عليه الضابط يوسي قبل قليل. انه مكتوب بنفس اللغة العبرية التي يُهتف بها هنا. كأنهما لغتان. ليس من حيث الاستعمال فحسب، بل حتى مسمع ومرأى الكلمات كأنه مختلف.

تبادل للكلمات بين مجموعتي النساء ثم أغانٍ. هذا المكان محاصر بين أسلاك شائكة وكتل اسمنتية، أهو المكان الطبيعي الذي يجب أن تُسمع الأغاني فيه؟ تظل غريبة بعض الشيء. جدران واستيطان وجيش وحرس حدود وقمع واستعلاء وأوامر اغلاق و.. هذا كثير. ولكن ربما يجب الاستدراك والقول: هنا بالضبط ولتلك الأسباب نحتاج أغاني السلام.

احدى السيدات، واسمها منى، تناولني خريطة رسمتها بنفسها لشبكة الجدران التي تقطّع منطقة طولكرم الى (6) أجزاء معزولة، وتدلني على البوابتين الوحيدتين. منى تشرح لي كيف يكذب الجيش: يقولون أنها تفتح لست ساعات يوميًا ولكنها مغلقة باستمرار، وحين تكون مفتوحة يحتاج الواحد الى تصاريح. أنا أسكن في بيت يطل على البوابة، الحركة مشلولة. بعد قليل سأسأل الضابط يوسي عن الأمر وسيتهرّب قائلا: "بيصير منيح"!

"ماذا تقصد" أُلحّ عليه "أهذا جواب رسمي من ضابط؟"

تتغيّر ملامحه نحو العبوس، لكن كلماته لا تتغيّر: "بيصير منيح"!

أكرر: "هل تفتحون البوابة لست ساعات فعلا كما تدّعون؟".

هنا يأتي الأمر بأن: "إبتعد من هنا، لو سمحت!". لطفاء جدًا.

من شهادات أهالي قرية ارتاح المجاورة لمنطقة البوابة يتضح أن سياسة الجيش لا تزال كما هي: تصريحات نحو الخارج بأن البوابات لن تعرقل حركة المواطنين، بل أن هناك أنظمة لفتحها، وممارسة قاسية لا تختلف بشيء عن سياسة الحواجز البشعة على ارض الواقع. بين التصريح وتطبيق عكسه ينكشف الكذب. الكذب العسكري الرسمي.

هناك نهايتان للقصة:

الأولى: لقد أعطى الجيش المجموعتين، الفلسطينية والاسرائيلية، ربع ساعة فقط للقاء في مقاطعة الجدران. حين انتهى الوقت العسكري المقرّر قالت سيدة فلسطينية ألحوا عليها بالاسراع: "طيّب شوي.. نحن بحاجة أن نشعر بلحظة سلام"، ثم ذهبت وهي تتلفّت وتحيي شريكاتها الاسرائيليات.

والنهاية الثانية: حين عادت المجموعة الاسرائيلية الى غرب الحاجز، توجهت الى الضابط متظاهرة جاءت من لوس أنجلوس الأمريكية لتشارك في هذا النشاط. قالت له بشبه صراخ: هل كنت مرة في "أوشفيتس" (معسكر الابادة النازي)؟ ثم أشارت الى الجدار المزدوج الشائك الذي حفرت وسطه قنوات وحفر كبيرة: "هكذا يبدو أوشفيتس، هل تعرف؟!"..

وجه الضابط امتقع. بعد قليل لحق بها مرتبكًا وقال: "لقد كنت في أوشفيتس. ولكن هناك لم يسمحوا للناس بنقل الخُضار والحاجيّات".

"عظيم"، قالت ياعيل. "تسمحون هنا بنقل الباذنجان. هل أنت راضٍ عن أن هذا فقط ما يفرّقنا عن أوشفيتس.. الباذنجان"!

المصطلحات المستخدمة:

حرس الحدود, لجنة أور

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات