المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في الليلة السابقة أشركت صديقي سامي بالسؤال الذي سيظل يبدو عديم الأهمية حتى الصباح التالي: هل أنتعل غدًا "شحويطة" أم حذاء ثقيلا؟ جوابه كان سريعًا كالعفوية: حذاء ثقيل بالطبع. لم أناقش ولم أفكر بل كأنني أطعته. غدًا سأكتشف إنه محقّ.. وسأرى مجددًا أن تفاصيل الحياة البسيطة قد تتداخل في قضايا كبيرة وهامة وحقيقية وخطيرة. أهم بكثير من حذائي ومني.

في الصباح (السبت 26.4.03) كانت مجموعة من العشرات تتجمع في حيفا عند ذلك المركز التجاري الذي يزداد شحوبًا في مركز المدينة. صبايا، شبان، كهول، من عرب ويهود. بعد ساعات قليلة يفترض أن نتجاوز الحدود وصولا إلى منطقة طولكرم المحتلّة، بعد أن ننضم إلى مجموعات أخرى قادمة من القدس والمثلث وتل أبيب وبئر السبع. فاليوم سنسير في المظاهرة التي تنظمها حركات يسارية في اسرائيل بينها ائتلاف النساء لأجل السلام وحركة تعايش وكلاهما حركة عربية - يهودية. ومن الطرف الآخر للحدود (حدود احتلال 1967 الاسرائيلي) ستنطلق مسيرة موازية بدعوة من عدة فصائل وحركات وتنظيمات فلسطينية، في مركزها حزب الشعب الفلسطيني. الهدف المشترك لهذا الجهد العربي اليهودي الفلسطيني الاسرائيلي هو تقوية مواجهة المخطط الاحتلالي الاسرائيلي الجديد المسمى بـ "الجدار الفاصل". وطبعًا، بما أن اللغة مهمة هنا (كما في كل مكان!) فقد اخترنا نحن تسمية مختلفة: إنه جدار وهو فاصل، نعم، ولكن لا يمكن ترك التسميات بمثل هذه الحيادية المريبة وكأن الحديث يدور في سياق يتيم. كلا، إنه جدار الترانسفير، جدار الأبرتهايد، جدار حماية المصالح الاستيطانية للاحتلال.

المتظاهرون يصلون إلى قرية قلنسوة العربية في المثلث. أمامنا استقبال خاص، مطر غزير صاخب ضاجّ ينهمر في هذه النهاية المتأخرة من نيسان. حسنًا، أتممنا بعض التحضيرات ريثما تهدأ السماء ليسمع المشاركات والمشاركون بعض الإرشادات. ولكن عبثًا، فالطقس غاضب، مع أنه يظل جميلا بأعصابه الماطرة الناعمة هذه. الحل هو أن ننتظر في الباصات. عدد من المنظمين تنقلوا من حافلة الى أخرى وتحدثوا عمّا قد ينتظرنا. قوات الجيش قد تحاول كعادتها عرقلة هذا الاحتجاج، وتزداد الخشية من ذلك كون هذه المظاهرة مشتركة. فهذا أكثر ما تكرهه طغمة السياسيين والجنرالات الإسرائيلية، أن يرى العالم فلسطينيين وإسرائيليين يعملون معًا ضد أهداف ومصالح وسياسة الإحتلال. فتلك الطغمة تفضّل وضعًا آخر: قطيعة تامة وحرب دامية وحالة مرسومة بالأبيض والأسود. نحن وهم، هنا وهناك، جيد وسيء، خير وشر. بهذه الطريقة يجري اغتيال الاسئلة والمسائل السياسية ليتحول الامر الى صراع يدور في عوالم الاساطير والافلام. يغيب البشر لتبقى الرموز، وتظل الفرصة سانحة بقوة ليرسم المشهد فقط من يملك القوة. هنا سيظل من السهل صياغة الوقائع بمفاهيم "الإرهاب" إياه، و"ضرورة محاربته الملحّة"، ومزاعم أن الفلسطيني "لا يريد تسوية"، وأن حكومة إسرائيل "مشغولة بالدفاع عن مدنييها".. الى آخر هذا القاموس المخطط بخبث وبدقة، والذي يكفر به هؤلاء الذين يصرون على كسر مؤامرة التخويف والترهيب.

إذن فلنستعد لخطوات استفزازية محتملة من الجنود. لذلك فنحن نحتاج ما يلي: ضبط النفس وعدم الاستجابة للاستفزازات خاصة لأن الجيش قد ينتهز الفرصة (التي لا يحتاجها، أصلا) للبطش بالمسيرة الفلسطينية بالذات. وبالإضافة، فلا بأس في شيء من البصل، فهو السلاح الناجع في وجه الغاز المسيل للدموع، الذي سبق أن استنشقه العديد من الحضور هنا على مدار السنتين الأخيرتين ضمن النشاطات الاحتجاجية العديدة ضد "حرب سلامة المستوطنات" (على غرار "سلامة الجليل"، الاسم الذي أُطلق على العدوان الوحشي على لبنان بقيادة شارون، 1982).

من الواضح للمشاركات والمشاركين في هذا الاحتجاج أن أفضل طريقة لمحاصرة تلك السياسة هي اختراقها، لكسر دائرة المعسكرات المطلقة التي يريدها شارون وعساكره. وانطلقت الباصات جنوبًا حتى قرية إبثان. ومنها مشيًا على الأقدام نحو دير الغصون، إحدى قرى طولكرم. الطريق غير معبّدة وصعبة أصلا، فكم بالحري مع كل هذه الأمطار التي حولتها إلى وحلٍ لزج بالكاد تستطيع تحريك قدميك فيه. بعض المتظاهرين انتعلوا أحذية خفيفة ولم يكن أمامهم سوى الضحك وتبادل النكات على بعضهم ومن أنفسهم في هذه المسيرة التي زادت وزن الأقدام بشكل غير معقول بطبقة سميكة من التراب الرطب المجبول. أنا فطنت بصديقي سامي وبحثت عنه بنظري لأشكره على نصيحته غير المقصودة أمس! فماذا لو أتيت بـ "الشحويطة"؟

بعد قليل سنرى الجدار، سلاح الحصار الجديد الذي يقيمه شارون في الخفاء تقريبًا، مع أنه واضح ويملك حضورًا بارزًا وبشعًا بحيث لا يمكن النجاح في عدم رؤيته. مع ذلك فمن الصعب فهم كل هذا الصمت. فيما يلي بعض الحقائق عن جدار الترانسفير هذا:

في طولكرم يمتد الجدار ليحاصر المنطقة من جميع الجهات تقريبًا. حدود 1967 تمتد من الشمال الى الجنوب لكن هذا المقطع الباطوني المقيت الذي نراه هنا يسير شرق - غرب.. كيف؟ لأنه مثلما فعل جهاز الاحتلال في قلقيلية، يسعى هنا لـ كسر وقطع و"تحريك" حدود 1967 شرقًا، باتجاه عمق الضفة الغربية ونهب مساحات واسعة، وزجّ مناطق فلسطينية بأكملها في مقاطعات معزولة. عمليًا، ما يجري هو تشويه الواقع على الأرض من خلال فرض حقائق ناجزة ستتحول هي نفسها الى قضية جديدة في سيناريوهات التفاوض اللانهائية التي تخططها حكومة اليمين الاسرائيلي. ولكن، مع كل هذا، فمن الخطأ تسمية المخطط بـ "الجدار".. لأن هناك جدرانًا أخرى. إنه جهاز متشابك من الجدران: في منطقة جنين يتواصل فرض واقع ينهب الاحتلال من خلاله المزيد من الأرض الفلسطينية. في القدس تجري عملية مماثلة. ومتوسط ما قد ينهبه هذا المخطط هو ما لا يقل عن 10% من مساحة الضفة الغربية. القضية الأخطر هي ما ينتظر البشر. وهذه أهم من الأرض دومًا وفي كل مكان. ففي المناطق التي يقتحمها جهاز الجدران يتم الإبقاء على حوالي 60 مستوطنة. وهذا يعني الضم الفعلي لها خارج أي تفاوض محتمل. وفي هذه المناطق سيظل العديد من القرى الفلسطينية التي سيتم قطعها عن التواصل مع الضفة الغربية وستعلق بين هذه الجدران وبين حدود 1967.

والمقصود هو قطع الخدمات الصحية عن عيادات ومستشفيات تقع في مراكز المحافظات، والعديد من الخدمات الحياتية الضرورية الأخرى. والاحتمال الخطير هو أن يعمد جهاز الاحتلال الإسرائيلي الى تهجير آلاف بل عشرات آلاف سكان هذه البلدات الفلسطينية شرقًا نحو وسط الضفة. هناك خطر في ممارسة تطهير عرقي، سيكون مصحوبًا باقتراف جرائم بشعة. هذا الأمر جرى التعبير عنه بوضوح هنا، في ما يصح اعتباره الخطاب البديل، الاسرائيلي والفلسطيني، ذلك الذي لا ينتظر الفرج من أمريكا ولا من جميع "مكائد الطرق" التي تلوّح بها..

فحين التقت المسيرتان القادمتان من طرفي الحدود على مشارف دير الغصون وقع تشابك.. تشابك للتحيات والهتافات والمصافحات والابتسامات والشعارات ذات المضمون المشترك، باللغتين العربية والعبرية. وهكذا كانت كلمات المتحدثين. لأن الخطر الذي يهدد به هذا المخطط الاسرائيلي الجديد لن يطال الفلسطينيين فقط. فعواقبه الوخيمة تهدد الجميع، ومن هنا الهتاف "الجدار مصيبه قويّه بتهددنا سويّه"، أو "لا لعقلية الجدار نعم لعقلية الحوار".

حين افترقت المسيرتان استغرق الأمر وقتًا جدياً. فطلبة مدارس دير الغصون الأشقياء الرائعون لا يريدون المغادرة. لقد جاءوا الى هنا وملأ حضورهم وكلماتهم وصراخهم واستهتارهم بالجنود المكان. ولكن الأهم الآن أن يعودوا سالمين. فلهم غد ينتظرهم. غد يجب الانتباه إليه من سهولة البطش البادية على قوات الجيش. ولكن يظل واجب الانتباه ضروري أكثر الى أن هذا الجدار الذي ينشأ بصمت قد يحاصر حاضر وغد أطفال دير الغصون وأخواتها، ويتركهم إما أسرى معتقل كبير أو، الأخطر، مهجّرين مستقبليين ضمن سيناريو يشابه قصة ترانسفير معلن..

طريق العودة كان موحلا أيضًا. نقل الأقدام على طريق كهذه يجعل المشي صعبًا، لكنه يظل ممكنًا. ربما، مثل العديد من المسيرات الصعبة حقًا، تلك التي تفوق المشي. فهي شاقة، منهكة ولكن ممكنة. أهذه هي كل القصة هنا؟ ممكن. ومع بعض الأمل المستمدّ من هذا الصمود الفلسطيني يمكن القول: طبعًا.

(حيفا)

المصطلحات المستخدمة:

المثلث

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات