المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كتب: محمد دراغمة
لم يجد أحد تفسيراً لقيام جندي إسرائيلي بقتل المصور الصحافي نزيه دروزة في نابلس (19/4) سوى أنه لم يرق للقاتل مشهد قيام أحد ما بتصوير وتوثيق ما يقوم به في هذه المدينة المكتوية بنيران الموت والدمار اليومي، فتولى هذا الجندي القناص إسكات كاميرا التصوير، واليد التي تحملها، على طريقته التي نشأ وتربى عليها في مؤسسته.

فقد كان نزيه (44 عاماً)، الذي يعمل مصوراً لدى تلفزيون فلسطين ووكالة الاسوشيتدبرس، واحداً من بين خمسة مصورين وثلاثة رجال إسعاف في الموقع، على مدخل أحد البيوت، عندما أطلق القناص النار عليه، وأصابه بعيار ناري قاتل في عينه اليمنى.

وقال زميله حسن التيتي الذي كان يقف على يساره عندما سقط: كان كل شيء واضحاً أمام الجندي، مجموعة المصورين الذين يرتدون قمصاناً فسفوريه تميزهم عن غيرهم، وإلى جانبهم رجال الإسعاف، بلباسهم الأبيض، وهناك بعيداً كان يظهر راشقو الحجارة، يمطرون بها الجنود، ثم يعودون للاختباء في زقاق فرعي".

وأضاف حسن وقد أخذ منه الإجهاد مأخذه: "طوال الوقت وأنا أفكر في مبرر لقيام الجندي بتوجيه رصاصه إلى نزيه، ولكني للأسف لم أجد سوى حقيقة واحدة وهي أن القتل كان عامداً متعمداً".

وحسب زملاء نزيه فقد كان صرخ على الجندي قائلاً له بالإنجليزية: نحن صحافة، قبل أن يرفع الكاميرا لالتقاط الصورة، ليرد هذا بتصويب سلاحه، وإطلاق العيار القاتل على رأسه. وقد وجد الصحافيون الفلسطينيون في استهداف وقتل زميلهم على هذا النحو المتعمد، فرصة أخرى للتكتل في مواجهة ما يلاقونه من أخطار، خصوصاً وأنه جاء بعد قليل من سقوط زميلهم طارق أيوب مراسل الجزيرة في بغداد في ظروف لا تختلف كثيراً عن سقوط نزيه. فقد تداعى عشرات الصحافيين العاملين لدى مختلف كالات أنباء وشبكات ومحطات تلفزة وصحف عربية وأجنبية إلى مدينة الشهيد لينضموا إلى مودعيه.

وبدا هؤلاء الصحافيون وهم يشيعون نزيه كأنما يشيعون أنفسهم قبالة هذا الموت الذي يتهدد كل واحد منهم من موقعه مصوراً كان أو مراسلاً.

"المصير الذي لاقاه نزيه قد يلاقيه أي منا"، قال قاسم الخطيب مراسل تلفزيون "mbc" الذي حضر وطاقم من المحطة للمشاركة في ودراع زميله وتغطية الحدث.

وكان نزيه، وهو أب لخمسة أطفال، أكبرهم في الحادية عشرة وأصغرهم عمره أربعة شهور، التحق بمهنة التصوير التلفزيوني حديثاً بعد إنشاء تلفزيون فلسطين حيث انضم إلى أسرة التلفزيون وتلقى دورات متخصصة في هذا المجال.

وقبل عامين التحق نزيه بوكالة الاسوشيتدبرس للعمل مصوراً بوظيفة جزئية في نابلس إلى جانب عمله في تلفزيون فلسطين.

وخلال عمله هذا خاض نزيه تجربة صحفية فلسطينية، بكل ما يحفل به العمل الصحافي في فلسطين من كثافة وغنى وخطر أيضاً.

فقد غطى أحداث الانتفاضة في مدينته، التي تعرضت، ولم تزل، لأشد الإجراءات والممارسات الإسرائيلية قسوة ودموية.

فلدى اجتياح قوات الاحتلال للمدينة في نيسان العام الماضي كان نزيه أول من وصل من المصورين إلى قلب البلدة القديمة التي كانت تتعرض حينئذ لعمليات قصف جوي ومدفعي مركز أدى لتدمير مئات المنشآت والبيوت ومصرع عشرات المواطنين فيها.

وقد أخرج نزيه للعالم في ذلك اليوم (في الثامن من نيسان) صوراً استثنائية، أظهرت ما تتعرض له نابلس من قتل وتدمير، مثل صور جثث قتلى متناثرة في الشوارع، وأخرى متكدسة في مسجد، وثالثة لبيوت هدمها لقصف.

وفي اليوم التالي لظهور صور نزيه التي بثتها وكالة الأنباء الأمريكية تداعى عشرات مراسلي الصحف وشبكات التلفزة إلى المدينة.

وقد ساهمت كثافة حضور الصحافيين في ذلك اليوم في إنقاذ مجموعة من الجرحى الذين كان جنود الاحتلال يرفضون السماح بنقلهم من البلدة القديمة إلى مشافي المدينة.

وقبل التحاقه بالعمل الصحافي عاش نزيه حياة فلسطينية عادية، على ما يواجهه العادي في فلسطين من مصاعب غير عادية.

فقد انتمى في سنوات شبابه الأولى إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم إلى حزب العمال الشيوعي الفلسطيني.

وفي العام 79 غادر نزيه إلى الأردن للالتحاق بالجامعة الأردنية في عمان، لكنه اعتقل هناك لنشاطه في حزب العمال وحكم عليه بالسجن سبع سنوات ونصف السنة.

وقد عاد نزيه إلى الوطن في العام 90، وافتتح أستوديو للتصوير في نابلس، بعد أن تعلم المهنة علي يد شقيق له.

وعند تأسيس حزب الاتحاد الوطني الفلسطيني "فدا" التحق نزيه بالحزب كأحد مؤسسي منظمته في نابلس.

ويقول اصدقاء نزيه عنه بأنه كان مليئاً بالطاقة والحيوية والرغبة في العمل.

وقال صديقه الدكتور نزار كايد الذي أمضى وإياه سبع سنوات ونصف السنة في السجن: نزيه طاقة وطنية كبيرة، وعندما أصابه الإحباط من العمل السياسي الفلسطيني وجه كل طاقته للعمل الصحافي فأبدع في مهنته".

وقد وقع نبأ استشهاد نزيه كالصاعقة على أهل نابلس وأسرته.

ولدى تشييع جثمانه، خرج أهالي المدينة، يتقدمهم المحافظ والشخصيات الوطنية والإسلامية للمشاركة في وداعه.

وقال المحافظ محمود العالول: "كان نزيه صحفياً نشيطاً ولهذا أرادوا تغييبه".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات