المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بعد ثلاثة اشهر ونصف من بدء "قسم التحقيق مع رجال الشرطة" (بالعبرية : "ماحش" - وهو قسم في وزارة العدل الاسرائيلية) التحقيق في الشبهات التي نشرتها صحيفة "هآرتس" عن ممارسات التنكيل والتعذيب التي نفذها جنود من حرس الحدود في مدينة الخليل، والتي ادت الى وفاة الفتى الفلسطيني عمران ابو حمدية ابن الـ 17 عاماً، تم في الاسبوع الماضي اعتقال اربعة من افراد شرطة حرس الحدود بشبهة القتل. ومن اقوال محققي "ماحش" في المحكمة ثارت شكوك قوية بأن عملية التنكيل بالفتى ابو حمدية كانت جزءًا من "حملة عقاب" نفذها الجنود في مدينة الخليل في ذلك اليوم - 30 كانون الاول / ديسمبر 2002 - وقاموا خلالها بالتنكيل بشابين فلسطينيين آخرين.


وكان اعتقال الجنود الاربعة قد تسنى بعد ان توجه احدهم، ويدعى بسام وهبة، بمبادرته الشخصية الى "ماحش" حول هذه الحادثة، التي قام الجنود الاربعة خلالها بتحميل عمران في سيارة "الجيب" التي كانوا يستقلونها، وقاموا بالتنكيل به وتعذيبه حتى الموت. وقال محققو "ماحش" ان جنود حرس الحدود هم المسؤولون عن موت الفتى الفلسطيني، رغم ان تشريح الجثة بعد الوفاة لم يساعد على الحسم في ما اذا كان الفتى قد توفي جراء الضرب، ام جراء القائه من سيارة "الجيب" وهي مسافرة.

وكانت قاضية محكمة الصلح في القدس، بلهه كهانا، امرت يوم الجمعة (18/4) بتمديد اعتقال الجنود الاربعة حتى يوم الخميس (24/4)، وهم: بسام وهبة، شاحر بوطبيقة، يناي الزاه ودينيس الخازوف.

ونفى الجنود التهم المنسوبة اليهم، لكن محققي "ماحش" اكدوا ان الجزء الأكبر من ادعاءاتهم تم دحضها، وانه من المتوقع اتمام التحقيق معهم خلال ايام الاعتقال الجديدة.

"التحقيق جار منذ اشهر، لكن التقدم الجدي حصل عندما جاء احد المشتبه بهم، بمبادرته الشخصية، وقال ما قاله"، قال ارئيل هرمان، نائب وهبة، في محاولة منه لاطلاق سراحه.

واثارت تحقيقات "ماحش" شكوكاً حول حادثتين اخريين وقعتا في اليوم نفسه في مدينة الخليل، في منطقة "الفحص" الصناعية، قام الجنود الاسرائيليون خلالها بتحميل شابين فلسطينيين آخرين في سيارة "الجيب"، ثم ضربوهما واذلوهما، وبعد ذلك القوا بهما من السيارة وهي مسافرة. وقد تعرض الشبان الثلاثة الى ضرب مبرح جدًا استدعى نقلهم الى المستشفى لتلقي العلاج.

وعلم ان محققي "ماحش" يحاولون الحصول على شريط فيديو مصور يوثق فيه الجنود اعتداءاتهم واعمالهم التنكيلية. وليس من المعروف ما حصل لهذا الشريط وما هو المصير الذي آل اليه، كما انه ليس معروفًا ما اذا كان الشريط يوثق عملية تعذيب عمران ابو حمدية.

لكن الجهود البذولة للحصول على هذا الشريط تشكل محاولة يائسة لكسر دائرة الصمت والتكتم التي ضربت حول احداث ذلك اليوم.

احد محققي "ماحش"، ارييه تسوك، قال خلال جلسة المحكمة التي نظرت في تمديد الاعتقال: "الحديث يدور عن الخليل، وهنالك مشكلة مع الشهود والجنود. انها كتيبة محمية، وقد سبق ان تم في الماضي ايضا تشويش وعرقلة مجريات قضائية. ثمة بيّنات وقرائن لا نزال نبحث عنها، بيّنات وقرائن جدية وهامة".

ويتبين من الافادات التي جمعها محققو "ماحش" ان الجنود خططوا للقيام بـ "رحلة انتقام" ضد مواطنين فلسطينيين، ردًا على المواجهة المسلحة التي وقعت في "محور المصلين" قبل اسبوعين من ذلك اليوم (أي، يوم 15 تشرين الاول / نوفمبر) والتي اسفرت عن مقتل 12 اسرائيلياً، بينهم اربعة من زملائهم الجنود: الرقيب ثان غاد رحميم، الرقيب ثان تومر نوب، الرقيب اول يشعياهو دافيدوف، والميجر سميح سويدان، ضابط العمليات في الكتيبة. كما اصيب في المواجهة نفسها، التي وقعت على بعد بضع مئات من الامتار عن منطقة "رحلة الانتقام"، قائد شرطة حرس الحدود في الخليل، الكولونيل عزي صياح.

الشاهدان المركزيان القادران على توضيح ما حدث في ذلك اليوم هما الشابان الفلسطينيان الاخران، اللذان وقعا، حسب الشبهات، ضحيتين لحملة الانتقام: علاء سنقرط وحمزة رجبي. وقدم الشابان افادتيهما الى منظمة "بتسيلم"، ثم تحولت الافادتان الى شكويين ضد افراد حرس الحدود قدمتا الى "ماحش"، وتشكلان الآن القاعدة الاساسية لمواد التحقيق. وقال سنقرط (20 عاما)، في افادته الى "بتسيلم" انه يوم 30 كانون الاول / ديسمبر، في حوالي الساعة الثانية ظهرًا، وبينما كان واقفًا بباب معمل الطوب الذي يعمل فيه، سوية مع شقيقيه، لاحظ الثلاثة سيارة "جيب" تابعة لحرس الحدود تقترب منهم. "صعدنا الى سيارتنا، من نوع سوزوكي، وانتظرنا"، قال، "توقفت السيارة بجانبنا، احد افراد الشرطة الذين كانوا يستقلونها نادى على شقيقي بسام وطلب منه النزول من السيارة. تفحص الشرطي بطاقة هويته ثم تركه ونادى علي ّ انا. طلب مني الشرطي الصعود الى سيارة الجيب ثم بدأت السيارة تتحرك. الجنود كانوا يتحدثون باللغة العبرية. احدهم، الذي كان يجلس في المقعد الامامي كان يحمل كاميرا تصوير فيديو موجها اياها عليّ.

"سألتهم باللغة العربية الى اين هم متجهون"، قال سنقرط، "فضربني الشرطي الذي كان يجلس على جانبي بمرفقه على وجهي. زاد خوفي كثيرًا حين دخلت السيارة، بعد حوالي كيلومتر ونصف الكيلومتر، الى ساحة نائية تحيطها الجدران من جميع الجهات. تفحص الجنود المنطقة، وحين توقفت السيارة دفعني الشرطي الذي كان بجانبي على الارض، بينما واصل الشرطي الذي كان يحمل الكاميرا عملية التصوير".

واضاف سنقرط ان الجنود انهالوا علي، بعد ذلك، بالضرب بالعصي وبأعقاب البنادق. وحتى بعد ان سقط على الارض اخذوا يرفسونه. "من خارج الساحة سمعت بعض الاشخاص الذين سمعوا صراخي، يصرخون "الله اكبر، الله اكبر"، وعندما سمعهم الجنود، قفزوا الى السيارة وولوا هاربين". الفلسطينيون الذين كانوا هناك أخذوا سنقرط ونقلوه الى المستشفى، حيث تبين انه اصيب بكسر في الجمجمة، اضافة الى الجروح والكسور العديدة في انحاء جسده.

بعد حوالي ثلاث ساعات من تلك الحادثة، في حوالي السادسة والنصف مساء، وقع الاعتداء على حمزة الرجبي (22 عاماً) من قبل الجنود انفسهم من سيارة "الجيب" نفسها. حمزة قال في الافادة التي قدمها الى "بتسيلم": "سافرت السيارة نحو خمس دقائق، فأنزلني الجنود الأربعة في "الفحص"، على بعد 100 متر عن محطة للغاز. احدهم كان يحمل كاميرا تصوير فيديو".

ووصف الرجبي ايضًا كيف انهال عليه اثنان من الجنود بالضرب بالعصي، مشيرًا الى انه لاحظ غمازة الكاميرا، مما يدل على انها كانت تصور فعلا. وفي مرحلة معينة تركه الجنود ملقى على الارض حتى جاء عدد من الشبان الفلسطينيين ونقلوه الى المستشفى. ويقول انه لا يستطيع السير ويعاني من آلام حادة. وحين تفحص أغراضه تبين له ان مبلغ 150 شيكل كان في بطاقة هويته قد اختفى.

بعد السابعة والنصف بقليل من ذلك المساء نفسه، وصلت سيارة "الجيب" الى مدخل منزل عمران ابو حمدية. كان يقف هناك سوية مع رائد الرجبي، وابن عمه نعيم ابو حمدية. بعد ان تفحص الجنود بطاقات هوية الشبان الثلاثة طلبوا من عمران الصعود الى السيارة.

في هذه المرحلة، وبعد وقوع الحادثتين السابقتين، انتشر في المدينة نبأ سيارة "الجيب" رقم 103 التي يقوم افراد حرس الحدود الذين يستقلونها بالاعتداء على فلسطينيين ثم يتركونهم في المنطقة الصناعية، ولذلك قرر رائد ونعيم الخروج للبحث عن عمران، لنقله الى المستشفى. بعد حوالي نصف ساعة على ذلك، عثرا على جثته ملقاة بجانب محطة "شاهين" لتوزيع حاويات الغاز.

عائلة عمران، اليتيم الأب والإبن الأكبر بين اشقائه الخمسة وكان من المنتظر ان ينهي امتحانات المرحلة الثانوية في الغداة، قامت بدفنه في الخليل. افراد الشرطة وضباط الجيش الذين حضروا الى مستشفى "عاليه" في المدينة، والذي نقل اليه جثمان عمران، لم يصروا على تشريح الجثمان، على الرغم من الشكاوى التي قدمها شهود عيان الى الشرطة في مستوطنة "كريات اربع" في ذلك المساء. فقط بعد بضعة اسابيع تم اخراج الجثمان من القبر بضغط من منظمة "بتسيلم" وبعد تدخل بعض رجال الدين الذين اقنعوا العائلة بالموافقة على التشريح. نتائج التشريح الذي جرى في معهد "ابو كبير" للطب الجنائين تبين ان الوفاة نجمت عن ضربات.

جنود حرس الحدود الاربعة الذين تم اعتقالهم تم التحقيق معهم في الايام التي تلت الحادثة، لكنهم نفوا اية علاقة لهم بها. في الاسابيع التالية، اقتصر التحقيق في القضية على الافادتين اللتين تم جمعهما من رائد الرجبي ونعيم ابو حمدية. في الشهر الأخير اضيفت الى القرائن افادات ادلى بها ضحايا الحادثتين الأخريين. محققو "ماحش" وصفوا الحوادث الثلاث بأنها "كل واحد".

من احاديث اجريت مع ضباط في حرس الحدود يتولد الانطباع بأن قيادة "حرس الحدود" الاسرائيلي تعلم بالقضية جيدًا، وبأنه منذ حصولها يتم شرحها للجنود في منطقتي الخليل وبيت لحم باعتبارها "سلوكًا يجب الامتناع عنه". في منطقة الخليل يجري محققو "ماحش" تحقيقات في 30 شكوى ضد جنود حرس الحدود.

ارتباك في "حرس الحدود"

في قيادة "حرس الحدود" كان الاعتقاد السائد، حتى اعتقال الجنود الاربعة، ان الفتى الفلسطيني عمران ابو حمدية قتل على ايدي سكان من الخليل، وان عائلته حاولت القاء التهمة على "حرس الحدود" "ليتم اعتبار ابنها شهيدًا"..

ومع ذلك، قام قائد "حرس الحدود" النقيب دافيد تسور، بنقل الوحدة التي كانت تخدم في الخليل خلال وقوع الحادث الى منطقة اخرى. وقد ادعى، في احاديث خاصة، ان قراره هذا نجم عن اسباب عملياتية، ولا علاقة له بالحادث.

الآن، في اعقاب اعتقال الاربعة والشبهات بأن كثيرين من جنود الوحدة كانوا متورطين بأعمال تعذيب وتنكيل ضد فلسطينيين، تسود في "حرس الحدود" حالة من الارتباك الشديد.

وتشير تقديرات قادة "حرس الحدود" الى انه اذا ما تأكدت الشبهات فسيضطر تسور الى اجراء سلسلة من التغييرات الحادة "لاجتثاث السلوكيات اللا أخلاقية بين الجنود".

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس, حرس الحدود, بتسيلم

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات