المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في مقهى "سيغر" الكائن في باحة الأوبرا الجديدة بتل أبيب، إستوطنت في الآونة الأخيرة حمامة بيضاء. حاول طاقم العاملين طرد الحمامة وتطفيشها، لكنها أبت الخروج، وأخذت تحوم بين المقاعد داخل المقهى كما لو أن هذا المكان هو بيتها الطبيعي.ذلك هو تقريبا ما يفعله عمرام متسناع حاليا في حزب العمل. هذا ما قلته له عندما جلسنا هناك في بداية الأسبوع الماضي، بغية استكشاف حدود يساريته، فردّ على ذلك بالضحك. ضحك عدة مرات أثناء الحديث. حتى صبيحة اليوم ذاته، كان متسناع لا يزال يراهن على أن حاييم رامون سيعلن في السويعات القريبة عن قرار الإنسحاب من سباق التنافس على زعامة "العمل"، وأنه حتى إذا لم ينسحب، لن تكون هناك جولة ثانية. في اليوم التالي، وجد متسناع نفسه - أثناء المناظرة التلفزيونية - بين تمساحين حقيقين يحاولان ابتلاعه حيا. تظاهر، من جهته، ببرودة الأعصاب وبشيء من التعالي، لكنه، وباستثناء صورته المألوفة كـ "شاب طيب يرتدي قميصا مفتوحا"، لم يفلح تقريبا في إيصال رسالة حقيقية، ملموسة، كما هو مألوف في برامج تلفزيونية من هذا النمط. ولعله كان قد أحسن صنعا لو أنه اكتفى بمشاهدة المتناظرين في بيته، بدلا من المشاركة في الزعيق المتبادل.

متسناع رجل لطيف، جوهري، في السابعة والخمسين من عمره، يخلو من شكليات التسلط، لا يزال يقود سيارته بنفسه، ويشعر بأنه لا يملك أوقاتا "خلاقة" أفضل من أوقات الحديث في السماعة الخلوية. قبل فترة وجيزة اتصل إلى سيارته إسحق بن أهارون البالغ 96 عاما، ليخبره بأنه يسانده. قال له بصوته الجهوري "قل لطاقمك بأن يتصلوا بي، فأنا أريد القدوم للعمل معهم". إغتبط متسناع، فقد كان لا يزال طفلا في "كريات حاييم" عندما كان "بن أهارون" رجلا معروفا في عالم السياسة. لقد رباه والداه - وكان سابقا عضوا في كيبوتس "دبرات" حيث ولد متسناع - بروح قيم "مباي"، وكانا من مؤيدي التيار المركزي في الحزب. وهذا هو موقع متسناع نفسه.

يحاول متسناع التنصل من الدمغة اليسارية التي التصقت به، فهو معني بكسب تأييد "ذلك القسم من الجمهور الإسرائيلي الذي يقع من حيث وجهة نظره في خانة يمين المركز السياسي". لذلك فإنه لمن دواعي سروره إعتباره "وطنيا" بدلا من "يساري". ولم لا، فإن وطنيته أيضا تعتبر يسارية للغاية. فقد صرح متسناع الأسبوع الفائت قائلا "أن تكون وطنيا إسرائيليا، هذا يعني الخروج من الخليل ومن كريات أربع ومن قطاع غزة حتي آخر سنتمتر".

وهو يقترح بديلا حمائميا واضحا لسياسة الحكومة التي أضحت في السنوات الأخيرة سياسة حزبه أيضا. لكنه اتضح لي في خضم الحديث مع متسناع، أن يساريته ليست استفزازية أكثر من يسارية أبا إيبان، على سبيل الإفتراض، ولا تخرج عن نطاق المألوف في "مباي" التاريخي: "الفلسطينيون لا يوفرون أية فرصة لتفويت الفرص"، قال مقتبسا عن آبا إيبان.

يأتي متسناع إلى حلبة السياسة القطرية، حاملا معه نجاحه كرئيس لبلدية حيفا ("إنني أعشق تماما عملي"). ففي السنوات العشر من ولايته كرئيس للبلدية، تمكن من رعاية وتربية الروتين الإسرائيلي المتعدد الثقافات الذي يميز مدينته، بما في ذلك علاقات الثقة المتبادلة مع "الفلسطينيين الإسرائيليين" حسب وصفه لعرب إسرائيل. كذلك فهو يحمل معه إلى السياسة، ماضيه كقائد للمنطقة الوسطى. فقد كان شريكا في قمع الفلسطينيين بقبضة حديدية ("إنهم يشتاقون اليوم إلى عهدي"). ويعارض متسناع بشدة ظاهرة رافضي الخدمة في المناطق الفلسطينية.

سألت متسناع: ما الذي يجعل الجيش يُخرج من صفوفه هذا الكم الكبير من الساسة اليمينيين مثل أرئيل شارون، ورحبعام زئيفي وايفي إيتام، وشاؤول موفاز وبنيامين بن إليعزار أو إفرايم سنيه، بينما لايخرج من الجيش سوى عدد قليل جدا من السياسيين أمثاله؟!

قال متسناع إنه لا يعرف سببا لذلك، لكنه اقترح منطلقا: الجيش لا يرعى أناسا من هذا النوع، وإنما السياسة اليمينية هي التي تجذبهم إليها. في "مجلس السلام والأمن" هناك جنرالات يتبنون آراء مختلفة. متسناع يسعى لإيجاد موضع لنفسه في مكان ما إلى جانب إسحق رابين. تفحصنا مواقفه بالمقارنة مع مواقف إيهود باراك، الذي يساند حاليا بن إليعزار. روى متسناع أنه كان لديه شعور، قبل محادثات كامب ديفيد بوقت قصير، أن باراك "غير ناضج" للتنازلات المطلوبة بغية التوصل إلى تسوية (مع الفلسطينيين). بمعنى أنه غير مهيأ لتقديم التنازلات المطلوبة.

بعبارة أخرى، شك متسناع بأن باراك "يتعمد إفشال عملية السلام". حصل متسناع على إذن من باراك للتحدث مع رؤساء "الوسط المهني" الذين كانوا على صلة بالمفاوضات - رئيس الأركان ونائبه ورئيس هيئة الإستخبارات العسكرية ورئيس جهاز "الشاباك" وعدد من كبار المسؤولين في الجهاز وغيرهم. كانت هذه الأحاديث ثنائية، دون تسجيل أو محضر، وقد تعهد متسناع بعدم الكشف عن فحواها. الإنطباع المتراكم الذي كوّنه متسناع، أظهر أن باراك لم يكن بالفعل مهيئا لتقديم التنازلات المطلوبة. هذا يعني أن الفلسطينيين لا يتحملون وحدهم مسؤولية فشل أوسلو، وإنما "نحن" أيضا، أو على الأدق: باراك. في الواقع - أضاف متسناع قائلا - فإن الإقتراحات المنسوبة لباراك لم تخضع مطلقا لمفاوضات جادة، لأنها طرحت في "زمن الجروح" أو بعد فوات الأوان، بمعنى في موعد قريب جدا من الإنتخابات.

ويقترح متسناع استئناف المفاوضات من النقطة التي توقفت فيها. ويقول، يجب أن تكون هذه المفاوضات دون شروط مسبقة، وما أن ينجح متسناع في إنهاء هذه العبارة خلال حديثه في مناسبات علنية، حتى ينهال عليه الجميع بالسؤال: مع من يقترح التفاوض.. مع عرفات؟ ويحاول متسناع التهرب من السؤال.

عرفات لم يعد ملائما، وفي القريب سوف يتغير الوضع في الشرق الأوسط، ربما ارتباطا بسياق الأحداث في العراق أو ربما في ضوء تبدل السلطة في إسرائيل.

فقيام حكومة جديدة في إسرائيل من شأنه أن يشجع الفلسطينيين أيضا على التخلص من عرفات. متسناع لم يلتق بعد مع عرفات. "لم يكن لدي شأن أو مصلحة بذلك"، حسب قوله. ويبدو عرفات في نظره كـ "كهل مسن" يأبى اللحاق بركب أجداده بصفة من صنع تسوية تاريخية، لكن باستطاعة متسناع أن يتصور مفاوضات مع جيل جديد من القادة، حتى "قبل أن يلتحق عرفات بآبائه وأجداده". متسناع لا يبالي إذا ما تولى عرفات منصب "رئيس"، على أن لا يتمتع بصلاحيات سياسية في إدارة دفة المفاوضات، بل ولا يهم متسناع أن يقدم الإتفاق لعرفات ليضع عليه توقيعه.

في التلفزيون يبدو الأمر أكثر بساطة: فهو مستعد، إذا دعت الحاجة، لإجراء مفاوضات حتى مع عرفات، كما أنه مستعد أيضا للتحادث مع "حماس".

وهو عندما يتحدث عن مفاوضات بدون شروط مسبقة، إنما يقصد أيضا أن المفاوضات ليست مرهونة بوقف الإرهاب، إذ أن شرطا من هذا القبيل سيبقي في أيدي جهات متطرفة احتكار تحديد جدول الأعمال. هذا ما يحدث اليوم، فهو على غرار إسحق رابين، سيجري مفاوضات كما لو أن الإرهاب غير موجود، وسيحارب الإرهاب كما لو أن المفاوضات غير قائمة. هذا ما قاله. ويؤيد متسناع سياسة التصفيات، لكنه يعتقد أن الحرب ضد "المخربين"، والتي أدارها شارون وبن إليعزار وموفاز، أذابت الفوارق بين "المخربين" وباقي السكان، عوضا عن إبرازها والتأكيد عليها. يقول متسناع: "عندما كنت قائدا للمنطقة الوسطى خشيت دوما فرض حظر تجول على نابلس". ويعتقد أن الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء أدركوا اليوم أنه لا وجود لحل عسكري للنزاع. وحسب قوله، فإن ذلك كان رأيه منذ فترة خدمته في الجيش. وهو يقدر أيضا أن معظم الإسرائيليين رغم ما يلاحظ من ميلهم نحو اليمين، مستعدون لتقديم تنازلات بما في ذلك التوصل إلى "تسويات" في القدس. ويرى أن الهدف هو الفصل. وإذا أمكن - الفصل بإتفاق، أما إذا تعذر التوصل لإتفاق فيجب السعي للفصل بدون اتفاق.

يقترح حاييم رامون، في المقابل، التخلي عن مرحلة المفاوضات، وبذلك فهو يضع نفسه إلى يمين متسناع وبطبيعة الحال فإن الفصل الأحادي الجانب سيشمل انسحابا من جانب واحد من قطاع غزة، بما في ذلك تفكيك المستوطنات "حتى آخر سنتمتر"، وتفكيك عدد من المستوطنات في الضفة الغربية. لكن متسناع، وكمخلص لمبادىء "مباي"، قال أنه سيتطلع إلى الحد قدر المستطاع من عدد المستوطنين الذين سيتم إخلاؤهم من الضفة الغربية، وأنه سيحاول الإبقاء على أكبر عدد منهم، وهو بذلك يضع نفسه في خانة بعيدة عن خانة اليسار الإسرائيلي الحقيقي. وأضاف أنه يؤيد ضم "كتل مستوطنات" كبيرة إلى إسرائيل، بما في ذلك الأحياء الإستيطانية الجديدة في منطقة القدس (متسناع قال: "غالبيتها الساحقة"). ورفض الكشف عما إذا كان سيوافق على التخلي عن السيطرة في "جبل الهيكل" (الحرم القدسي الشريف)، لكنه لم يؤكد أيضا بأنه سيصر على الإحتفاظ بالسيادة على الحرم. سألته: كيف يمكن تأييده إذا كان يخفي رأيه في مسألة هامة جدا كهذه المسألة؟ قال متسناع أنه يتحدث في هذه المرحلة كرئيس وزراء تقريبا، ولذلك عليه أن يكون حذرا في أقواله وتصريحاته. يؤيد متسناع فكرة "الوحدة"، بمعنى اقامة ائتلاف موسع، وهو يرفض التوجه أو المفهوم القائل بأن "الوحدة الوطنية" تعرّض السياسة الديمقراطية للخطر، ولذلك فهي مرفوضة بشكل مبدئي. ويقول أنه لن ينضم إلا لحكومة تضع سياسة الفصل في صلب خطوطها العريضة. وفي حال قيض له أن يشكل حكومة، فإنه لن يكون بوسع بنيامين بن إليعزار تولي منصب وزير الدفاع فيها، لأن رئيس الحكومة يجب أن يتولى هذا المنصب أيضا، وفقا لرأي متسناع. في المناظرة التلفزيونية تهرّب متسناع من إعطاء إجابة مباشرة على هذا السؤال. وهو مستعد للإلتزام بتعيين وزير عربي (ويقول: "أمين صندوق بلدية مدينتنا عربي، من كان يصدق ذلك؟!")، لكنه لا يستطيع أن يتصور أن يكون رئيس الحكومة، في يوم من الأيام، عربيا ويقول ("هذه دولة يهودية وليست دولة جميع مواطنيها").

اقترحت عليه الإفتراض بأنني غير موجود هنا منذ سنتين، وأنني منقطع عن قراءة الصحف. وسألت: ما الذي يجري هنا؟ انتقل متسناع على الفور إلى الموضوع "الإجتماعي"، بمعنى إلى الفجوات الآخذة بالتعمق. متسناع يعتبر نفسه اشتراكيا - ديمقراطيا وليس اشتراكيا، ولا متدينا. سألت متسناع إن كان يومن بالله، فقال بصورة عفوية إنه لطالما لم يكن متدينا فإنه بالتالي لا يؤمن بوجود الله. لكنه أسرع للإعراب عن أسفه للتفوه بهذه الكلمات وقال كما لو أنه كان يعلق على شيء سمعه من شخص آخر "هذا تعبير فظ!"، ومع ذلك فإنه لم يتراجع، ولعله أول سياسي رفيع يقر بذلك، ومن هنا فقد يعتبر صدقه وصراحته من الأخطاء المنسوبة له. وهو يفضل "شينوي" على المتدينين المتزمتين ("الحرديم")، لكنه يشجب ويستنكر راية الكراهية التي ترفعها حركة "شينوي"، ويرى فيها حزبا شبه عنصري، وينبّه قائل:ا "قد يطلع علينا غدا حزب مناوىء للعرب أو ضد مثليي الجنس".

والدة متسناع قدمت من برلين، في حين قدم والده من لايبزغ، من هنا قد يصبح متسناع أهم وأرفع "ياكي – ألماني" الأصل في تاريخ السياسة الإسرائيلية.

*

كانت الحمامة لا تزال تحوم وتتجول بين مقاعد المقهى عندما نهض متسناع ليذهب إلى اللقاء التالي. ذهب لوحده، بدون مساعد، بدون متحدث باسمه، وبدون حارس مرافق، ما عدا جهاز الهاتف النقال الملاصق لأذنه.

خلاصة القول:

يقترح متسناع بديلا واضحا لسياسة الليكود، تلك السياسة التي تبناها أيضا حزبه بقيادة بن إليعزار، إلى أن تحول الحزب تماما إلى ظل باهت لحزب الليكود.

خط متسناع، وبالأساس نبرته، يضعانه إلى يمين ميرتس، وهو على ما يبدو لا يشكل في هذه المرحلة خطرا على الليكود. وإذا ما نجح متسناع بالفوز بزعامة حزبه، فإن عليه باديء ذي بدء أن يعيد للحزب هويته السياسية المفقودة.

قد يتسغرق ذلك مدة سنتين أو ثلاث سنوات، غير أن العقلانية السياسية التي يعكسها متسناع قد تبرهن على أن هناك حياة بعد بن إليعزار.. ذلك هو أمل يئس منه الكثيرون.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات