المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

قبل أن يتسبّب سنّ الكنيست الإسرائيلي بصورة نهائية، يوم 18 تموز 2018، "قانون القومية"، الذي يعرّف إسرائيل بأنها "الدولة القومية للشعب اليهودي"، ويمنح أفضلية للغة العبرية على اللغة العربية، وكذلك للاستيطان اليهودي، كما يمنح حصرية تقرير المصير في إسرائيل لليهود فقط، ويعتبر "القدس الموحّدة" عاصمة أبدية لإسرائيل، بتفجير الضجّة الكبيرة

الحالية، التي لا يتوقع لها أن تهدأ قريباً، ولدى التطرّق في سياق كلمة سابقة إلى الخلاف الإسرائيلي الداخلي المندلع بشأنه، عندما كان ما يزال "مشروع قانون" مطروحاً للتداول، أكدنا أنه في كل ما يتعلق بتحديد هوية إسرائيل ووظائفها تتفق الأحزاب الإسرائيلية الأساسية الليكود والعمل و"يوجد مستقبل" و"البيت اليهودي" و"إسرائيل بيتنا" و"الحركة" في برامجها السياسية على تعريف إسرائيل كدولة يهودية، وعلى أن وظائفها العليا مُشتقة من هذا التعريف.

فمثلاً يحدّد حزب الوسط المُعارض "يوجد مستقبل" (علماني) رؤيته لهوية إسرائيل بقوله، في مقدمة برنامجه: "نحن نؤمن بأن إسرائيل أنشئت كدولة قومية للشعب اليهودي. وينبغي لها أن تبقى دولة ذات أغلبية يهودية، وذات حدود آمنة وقابلة للدفاع عنها".

كذلك يُعرّف حزب العمل (مُعارض) في برنامجه الانتخابي الأخير إسرائيل بأنها "دولة الشعب اليهودي، وبناء عليه فإن حزب العمل يعارض عودة لاجئين فلسطينيين إلى داخل تخوم دولة إسرائيل. ويتم حل مشكلة هؤلاء اللاجئين بصورة متفق عليها بمشاركة دول المنطقة والمجتمع الدولي، ولكن ليس من خلال منح حق العودة (للاجئين)".

أمّا حزب "الحركة" (مُعارض) فإن برنامجه الانتخابي يتضمن المبادئ التالية: "1- للشعب الإسرائيلي حق غير قابل للنقض في أن تكون له دولة سيادية في حدود أرض إسرائيل، وطنه القومي، التاريخي، الديني والثقافي؛ 2- الهدف السياسي المركزي لحزب الحركة هو ضمان تثبيت دولة إسرائيل كبيت قومي للشعب اليهودي، دولة ديمقراطية بروح وثيقة الاستقلال، تعيش بسلام وأمن مع جميع جيرانها؛ 3- إن ضمان بقاء إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية يقتضي المحافظة على أغلبية يهودية بين مواطنيها"!.

ومثل هذا التوافق غير منحصر في الأحزاب الإسرائيلية الأساسية ضمن الائتلاف والمعارضة فحسب، بل أيضاً ينسحب على عديد النخب التي تعرّف نفسها بأنها ليبرالية، وتعتقد أن إسرائيل هي فعلاً دولة قومية للشعب اليهودي، ولا حاجة بتاتاً إلى قانون أساس يحدّد هويتها، لأن من شأنه أن يقوّض أسس الصهيونية ذاتها، كما لو أن ما يرد فيه يتناقض مع جوهر العقيدة الصهيونية.

للتمثيل على موقف هذه النخب أوردنا في حينه أيضاً مقتطفات من "مذكرة" قدمها باحثان كبيران من "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" في القدس (عمير فوكس ومردخاي كريمنيتسر) إلى اللجنة الوزارية الإسرائيلية لشؤون سنّ القوانين لدى بدء مناقشة مشروع القانون بوتائر متسارعة (مؤرخة في 2/5/2014. أنظر: موقع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية على الشبكة).

وجرى استهلال هذه المذكرة بالعبارات التالية: على الرغم من موافقتنا بطبيعة الحال على أن إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي، إلاّ إننا نعارض مشروع القانون المُقدّم مؤخراً في هذا الصدد، انطلاقا من أننا نرى فيه مشروع قانون خطراً يمكن أن يخلّ بالتوازن الدقيق والحساس بين المكوّنين الأساسيين في تعريف وطابع الدولة، وهما: اليهودية والديمقراطية. ولا يدور الحديث هنا حول قانون اعتيادي، وإنما حول قانون أساس محصّن يُحدّد هوية الدولة. ومشروع القانون المقترح يخلو من التوازن الضروري بين كون الدولة دولة قومية للشعب اليهودي وبين كونها دولة ديمقراطية، وذلك لأنه يقصي المكوّن الديمقراطي من مكانته المركزية إلى الهامش، بمعنى أن الحديث يدور حول انقلاب تام يغيّر بصورة جذرية النظام الدستوري القائم في دولة إسرائيل منذ قيامها. ويتناول مشروع القانون هوية الدولة وسط التركيز على طابعها اليهودي وتقزيم طابعها الديمقراطي، بل ويتجاهل كلياً أي مضمون في هذا الطابع الديمقراطي، ونحن نرى في ذلك تقويضاً لـ"أسس الصهيونية ذاتها"... ومن هنا فإن مشروع القانون يلحق ضرراً، غير قابل للإصلاح، بالعلاقات بين اليهود والعرب في إسرائيل، وبصورة إسرائيل في العالم، ويجعل الدولة مكاناً غير محتمل لكل من يتبنى وجهة نظر يهودية ليبرالية.

وتؤكد المذكرة معارضتها لهدف مشروع القانون المقترح هذا، كما ورد شرحه في مقدمة القانون والتي ادعت (وهذا أمر لا خلاف بشأنه) أن هناك إجماعاً واسعاً في صفوف الجمهور على تعريف إسرائيل كدولة يهودية. وتلفت إلى أنه في الواقع تؤكد مؤشرات استطلاع الديمقراطية الأخيرة، والتي ينشرها "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية" سنوياً، حقيقة هذا الاتجاه (التعريف)، وأنه ليس هناك ما يدعو للخشية من تماثل مواطني دولة إسرائيل مع تعريفها كدولة يهودية. ومن جهة أخرى، يدعي مقترحو مشروع القانون بأن الحاجة إليه تنبع من "وجود من يسعى إلى إلغاء حق الشعب اليهودي في وطن قومي في بلده، وإلغاء الاعتراف بإسرائيل كدولة قومية للشعب اليهودي". والسؤال: هل يشكل التشريع الإسرائيلي جواباً إزاء أفكار وتطلعات شعوب وقوميات أخرى؟ وهل يمكن القول بصورة جادة إنه قد نشأت حاجة كهذه في الفترة الأخيرة؟ فمنذ إقامة الدولة وحتى الآن قبلت شعوب المنطقة بحق الشعب اليهودي في دولة، واعترفت بإسرائيل كدولة يهودية. فهل سيغير أصحاب الرأي المذكور موقفهم بعد سن مثل هذا القانون؟ فضلاً عن ذلك، ينبغي الإجابة باستقامة عن سؤال هل سيؤدي سنّ مثل هذا القانون إلى تقوية وتعزيز مكانة إسرائيل في العالم كدولة قومية للشعب اليهودي، أم أن ذلك سيضعف هذه المكانة؟.
وفي هذا الخصوص تقول: في اعتقادنا أن سنّ هذا القانون سيشكل رافعة في أيدي القوى المعادية لإسرائيل للادعاء ضد شرعيتها كدولة يهودية. فمشروع القانون لا يعزّز فقط الطابع اليهودي للدولة، وإنما يوجه رسالة واضحة من انعدام الثقة، ورسالة تطرف وأصولية. وإن التكريس الدستوري لأمر بدهي ("يهودية إسرائيل") إنما يدعو فقط إلى إعادة التفكير في هذه الأسس والبديهيات، بل وإلى تقويضها.

عند هذا الحدّ لا بُدّ من استعادة تأكيدنا أن هذه المقتطفات تدلّ لا على معارضة القانون من ناحية مبدئية أو أخلاقيـة، وإنما فقط من ناحية ما قد يستثيره من ردات فعل في العالم. كما تدل على أن هذا التوجّه يعتبر من ناحية جوهره "يمينياً معتدلاً"، نظراً إلى أنه من المفترض به أن يخدم المصلحة اليهودية البحتة وسط "إعطاء امتيازات مشروطة" في الحقوق للمواطنين الفلسطينيين في الداخل، وإلى أنه لا يقوم على أساس قيم عالمية ومتساوية، ترتكز إلى الاعتراف بالحقوق القومية الجماعية لهؤلاء الفلسطينيين.

ولعلّ الأنكى من ذلك، ما يمكن قراءته بين السطور السالفة، وهو أن إسرائيل ليست بحاجة قطّ إلى نص دستوري لتمييز اليهود للأفضل، ولإقامة مستوطنات وبلدات جماهيرية لليهود فقط، وغير ذلك، فهذا هو بالضبط ما فعلته الدولة بواسطة سياسة التمييز العنصري العامة التي انتهجتها حكوماتها المتعاقبة حتى الآن، إنما "على نار هادئـة" ومن دون أن تجاهر بذلك عياناً بياناً، كي لا تُضبط وهي متلبسة بهذا التمييز.

ومن نافل القول إن جلّ ما ذُكر أعلاه عكس نفسه، ببريق ساطع، في معظم النقاش الإسرائيلي الداخلي الذي أعقب سنّ القانون بصورة نهائية.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات