المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تواصل المحكمة الإسرائيلية العليا مداولاتها للنظر في التماسات قدمتها إليها منظمات حقوقية إسرائيلية ضد "قانون التسوية" وتُطالب من خلالها بإصدار قرار يلغي هذا القانون باعتباره غير دستوري، لتناقضه مع نصوص وأحكام قوانين أساس إسرائيلية ومع نصوص وأحكام القانون الدولي ذي الشأن.

 

"قانون التسوية" هو قانون خاص سنّه الكنيست الإسرائيلي مؤخرا لتمكين الدولة من مصادرة أراض في الضفة الغربية، إذ يشرعن مصادرة أراض فلسطينية خاصة أقيمت عليها مستوطنات إسرائيلية أو مبان استيطانية وانتزاع ملكية أصحابها الشرعيين، وهي ملكية خاصة، ونقلها إلى أيدي الدولة، مقابل منح أصحاب الأراضي الفلسطينيين أراضي بديلة أو تعويضاً ماليا بنسبة تصل إلى 125%، حسب تقديرات المخمنين.

تتواصل هذه المداولات في ظل نقاش واسع وحاد يجري في إسرائيل على خلفية رفض المستشار القانوني للحكومة، أفيحاي مندلبليت، تمثيل الحكومة والدفاع عنها وعن الكنيست (وعن القانون) أمام المحكمة العليا، في إثر خلوصه إلى رأي مهني يقول إن هذا القانون غير دستوري ويتناقض مع أحكام القانون الدولي ـ وهي من المرات النادرة جدا جدا، منذ قيام دولة إسرائيل، التي يرفض فيها المستشار القانوني للحكومة تمثيل الحكومة في قضية هي طرف فيها أمام المحكمة، الأمر الذي استدعى لجوء الحكومة إلى محام من القطاع الخاص والتعاقد معه ليتولى مهمة تمثيلها والدفاع عنها وعن القانون أمام المحكمة. وهو ما جرى بإذن خاص من مندلبليت نفسه أيضا.

ويتركز النقاش العام في إسرائيل، على هذه الخلفية، في نقطتين مركزيتين: الأولى ـ ما هي دلالات موقف المستشار القانوني للحكومة وما تأثيراته، وخصوصا على مجريات المداولات في المحكمة العليا وعلى مواقف القضاة التسعة أعضاء الهيئة القضائية التي تنظر في الالتماسات، ثم على النتيجة القضائية التي ستتوصل إليها المحكمة بالتالي؟ والثانية ـ ما هي دلالات استعانة الدولة بمحام من القطاع الخاص وتوكيله بمهمة الدفاع عن الحكومة وما هي انعكاسات مثل هذه الخطوة وآثارها المستقبلية على العلاقة بين الحكومة و(مؤسسة) مستشارها القانوني؟ وهذا على المستوى المبدئي. لكن ثمة مستوى عملي، أيضا، يخوض فيه النقاش العام الدائر حول الموضوع، وهو: هوية هذا المحامي من القطاع الخاص تحديدا. فالمحامي الذي وقع اختيار الدولة (الحكومة والكنيست) عليه لتمثيلها، بضغط شديد جدا من وزيرة العدل أييلت شاكيد (حزب "البيت اليهودي")، هو هرئيل أرنون، أحد أبرز المحامين الخبراء في قضايا الأراضي، الاستيطان، القانون الإداري والقانون الدستوري. وهو مستوطن معروف بانتماءاته ومواقفه اليمينية المتطرفة. لكن صحيفة "هآرتس" كشفت (8/5/2018) أن أرنون هذا يعكف هذه الأيام على بناء بيت له في مستوطنة "إليعازر" في منطقة غوش عتصيون. وتجري عملية البناء هذه "بصورة غير قانونية" لأنها تجري خلافا لمخطط البناء والتنظيم في المنطقة وبما يشكل خرقا لها. وأوضح تقرير "هآرتس" أن البيت المقصود يقام على أرض تم الاستيلاء عليها "لأغراض عسكرية" وأضافت أن الإدارة المدنية "أقرت بأن البيت مقام خلافا للقانون".

معارضة مندلبليت رسالة قوية إلى المحكمة

ثمة ما يشبه الاجماع في إسرائيل، سواء في صفوف المعارضة السياسية (والبرلمانية) أو حتى في صفوف الائتلاف الحكومي، على أن موقف المستشار القانوني للحكومة المعارض للقانون والرافض تمثيل الحكومة والكنيست في المحكمة والدفاع عن القانون أمامها ـ يشكل (هذا الموقف) رسالة واضحة، صريحة وقوية إلى المحكمة العليا كهيئة قضائية تنظر في الالتماس، كما إلى قضاتها التسعة أعضاء الهيئة القضائية العينية، مجتمعين وكل واحد منهم على حدة. وهو ما يجعل فرص قبول المحكمة الالتماسات ضد "قانون التسوية" كبيرة، إذ ترجح أوساط واسعة مختلفة أن تصدر المحكمة العليا قرارا يقضي بإلغاء هذا القانون وشطبه من سجل القوانين الإسرائيلية.

فمن المعروف أن قضاة المحاكم عامة في إسرائيل يولون اهتماما فائقا لموقف المستشار القانوني للحكومة ويقيمون وزنا كبيرا جدا لآرائه المهنية عادة وإجمالا، لكن خصوصا في القضايا الحساسة التي تتعلق بقضايا الخارجية والعلاقات الدولية والأمن (بما فيه الاستيطان!). وكثيرا جدا ما يجد قضاة المحاكم الإسرائيلية، وفي مقدمتها المحكمة العليا، صعوبة وحرجا كبيرين في معارضة مواقف المستشار القانوني للحكومة ـ أو ممثليه أمامها ـ بل غالبا جدا ما يتبنون مواقفه ويتخذون قراراتهم بروحها، على الأقل!

محامي الدولة يدعو المحكمة إلى تجاهل القانون الدولي!

في الجلسة التي عقدتها المحكمة العليا، بتركيبتها الموسعة (9 قضاة)، للنظر في الالتماسات ضد "قانون التسوية"، أمس الأول الأحد، دعا المحامي هرئيل أرنون، محامي الدفاع عن الحكومة والكنيست والقانون، المحكمة إلى تجاهل القانون الدولي وعدم اعتماد أحكامه مرجعية لدى نظرها في هذه الالتماسات، بل حصر مرجعيتها القانونية في القانون الإسرائيلي فقط!!

وقال أرنون إنه لا يجوز إلغاء القانون الحالي بالاستناد إلى أحكام القانون الدولي، وإنما بالاستناد إلى أحكام القانون الإسرائيلي فقط. وقال: "إذا ما قبلت المحكمة الادعاء المركزي بشأن القانون الدولي ـ حسب طعونات الملتمسين ـ فسيكون هذا دعما ليس لانقلاب قضائي فقط، بل لانقلاب سلطوي أيضا"! وأضاف: "حين تقوم المحكمة العليا بإلغاء قوانين لتناقضها مع قوانين أساس إسرائيلية، فهي إنما تعبر عن إرادة المجتمع الإسرائيلي. وهذا هو السبب الوحيد، الوحيد تماما، الذي يبرر إلغاء قوانين". أما القانون الدولي ـ برأي محامي الدفاع عن الحكومة ـ "فينبغي أن يبقى خارج هذه المداولات وخارج إطار البحث، وإلا لكان الأمر بمثابة خروج عن الصلاحيات"!!

أما المستشار القانوني للكنيست، إيال يانون، فقال أمام المحكمة إن "قانون التسوية وُلد جراء الأداء الإشكالي جدا من جانب حكومات إسرائيل المتعاقبة"! وأضاف: "من الواضح أن القانون استثنائي جدا وعليه أن يتجاوز إشكاليات وعقبات غير قليلة".

ورغم اعتراف أرنون بأن "قانون التسوية" هذا "ليس متكاملا، إذ ثمة من يتأذى بسببه" (!)، إلا أنه أصر على أنه "قانون متوازن يعبر عن تحمل المسؤولية السلطوية"!
وعارض أرنون، بالطبع، موقف المستشار القانوني للحكومة، مندلبليت، معتبرا أن "الدولة كانت تتحدث، حتى اليوم، بصوتين اثنين ـ فقد ساعدت في تحضير الأرض وتجهيزها، في إنشاء البنى التحتية اللازمة، في التمويل وفي توسيع المستوطنات وزيادة أعداد المستوطنين، رغم أن هذه الخطوات والإجراءات جميعها كانت غير قانونية بدرجات مختلفة، استنادا إلى القانون الدولي"!! وأضاف: "هذه الإجراءات ولّدت واقعا تعيش فيه آلاف العائلات في حالة بينية لا تتيح لها مواصلة حياتها بصورة عادية وطبيعية"!

الضم الرسمي وخطر المحاكمات الجنائية الدولية

ما تقدّم دعا أستاذ القانون المعروف مردخاي كريمنيتسر إلى التحذير (في "هآرتس"، 3/6/2018) من أن قبول المحكمة العليا الإسرائيلية بادعاء المحامي أرنون المذكور سيعني "أن أراضي الضفة الغربية قد أصبحت جزاء من أراضي دولة إسرائيل"، بمعنى إعلان ضم هذه المناطق إلى إسرائيل، رسميا ونهائيا.
وأوضح كريمنيتسر أن الحكومة الإسرائيلية "تعتمد هذا الخط الدفاعي" بالرغم من "الثمن السياسي الباهظ المترتب عليه"، ناهيك عن أنها تفعل ذلك "رغم إدراكها بأن الفعل الذي يجيزه القانون (الإسرائيلي) يتناقض مع القانون الدولي، وفقا لتفسيرات المحكمة العليا الإسرائيلية".

وذكّر كريمنيتسر بأن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة فضلت وتفضّل إبقاء مسألة "مكانة الضفة الغربية" سؤالا مفتوحا وملفوفا بالضبابية، علما بأنه سؤال مطروح باستمرار على جدول النقاش العام في إسرائيل: هل هي أراض خاضعة لسيطرة عسكرية ويسري عليها القانون الدولي المطبَّق على مثل هذه المناطق في العالم عادة، أم هي منطقة تابعة لدولة إسرائيل وجزء منها؟ فالموقف الرسمي الذي تطرحه السلطات الإسرائيلية على المجتمع الدولي فيما يتصل بهذا السؤال يعتمد التظاهر بأنّ إسرائيل تتصرف في هذه المناطق باعتبارها "مناطق مُدارة تحت حكم عسكري"، بينما الحقيقة أنها تتصرف فيها، فعليا وعلى أرض الواقع، باعتبارها جزءا من دولة إسرائيل وباعتبار إسرائيل هي صاحبة الملكية والسيادة عليها، إذ "تسعى إلى تحقيق مصالح إسرائيلية خالصة في هذه المناطق على حساب مصالح الفلسطينيين ومن خلال تغيير الوضع الميداني على الأرض من أساسه، في إطار سياسة الضم الزاحف". غير أن ما يمنع إسرائيل من تنفيذ الضم الفعلي والرسمي هو إدراكها بأن هذا الفعل يتعارض مع القانون الدولي ومن شأنه توريطها في وضع معقد جدا، دوليا.

أما القانون الحالي، الجديد ("قانون التسوية")، فيشذّ عن السياسة الإسرائيلية المذكورة والمعتمدة منذ عقود، إذ يحقق سياسة الضم من خلال التطبيق المباشر لقانون سنّه الكنيست على الأراضي في الضفة الغربية وعلى حقوق الملكية فيها. ويعتبر كريمنيتسر أن هذه الخطوة الإسرائيلية الرسمية "تكشف أمام الجميع حقيقة سياسة الضم الإسرائيلية، تدحض الادعاءات التي تسوقها الدولة لتبرير مشروع الاستيطان في الضفة الغربية وتعرّض مكانة إسرائيل الدولية للخطر". ويضيف: "والأخطر من هذا كله، أن هذه الخطوة قد تسوق قادة الدولة إلى كرسي المتهمين أمام المحكمة الجنائية الدولية، إذ يوفر هذا القانون أدلة وبراهين علنية وقوية على أن إسرائيل نقلت وما زالت تنقل أعدادا كبيرة من مواطنيها إلى المناطق التي تسيطر عليها، خلافا للقانون الدولي الجنائي وأحكامه".

في تعليقه على مسألة تمثيل الدولة في المداولات أمام المحكمة العليا حول دستورية هذا القانون، أشار كريمنيتسر إلى حقيقة أنه "من النادر جدا تعبير المستشار القانوني للحكومة، بصورة صريحة وحادة، عن معارضته قانونا سنه الكنيست، إلى درجة رفضه الدفاع عن قانون كهذا أمام المحكمة العليا"، لكنّ "الأكثر ندرة" ـ أضاف كريمنيتسر ـ "تمثيل الحكومة في المحكمة بواسطة محام من القطاع الخاص"، معتبرا أن الإذن الخاص الذي أصدره المستشار القانوني للحكومة، مندلبليت، لتوكيل محام خاص بمهمة تمثيل الحكومة والدفاع عنها في المحكمة "قد يصبح عادة شائعة تؤدي إلى تدمير مؤسسة المستشار القانوني للحكومة وانهياره"، لأن الحكومة لن تتردد بعد اليوم في القفز عن مستشارها القانوني وتجاوزه إذا لم يجد موقفه، القانوني المهني، قبولا واستحسانا لدى الحكومة وكلما عارض مواقفها أو رفض ممارساتها "حتى وإن كانت أكثرها لامعقولية ولا شرعية".

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات