المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تعزّز نزعات استحضار الخطاب الديني ومنح العمليات العسكرية تفسيراً توراتياً!

(*) اسم الكتاب: "القائد الرباني- تقرطة الجيش الإسرائيلي"
(*) المؤلف: ياغيل ليفي (عضو الهيئة التدريسية في الجامعة الإسرائيلية المفتوحة، وباحث في العلاقة بين الجيش والمجتمع والسياسة، ومتخصص في العلاقة بين سياسات الجيش وتركيبته الاجتماعية)
(*) الناشر: عام عوفيد والكلية الأكاديمية سابير، 2015
(*) عدد الصفحات: 448

ازدياد نسبة المتدينين في الجيش الإسرائيلي و"جوهر" طموحات قيادتهم الدينية

يعزو مؤلف هذا الكتاب انخفاض القيمة الرمزية لمحفزات الخدمة العسكرية في أوساط الطبقة الوسطى الأشكنازية، التي احتل مكانها الجندي المتدين، للفصل التدريجي بين الجندية والمواطنة، بمعنى الفصل بين الإسهام في الخدمة العسكرية، والوصول إلى مواطنة متميزة.

ويذكر المؤلف أربعة عوامل مركزية ساهمت في هذا الفصل وعززته: 

العامل الأول، تشكل المجتمع الإسرائيلي منذ الثمانينيات كمجتمع سوق بفعل الانكشاف على العولمة. فقد رافقت العولمة تغيرات بنيوية في الاقتصاد الإسرائيلي وفقاً للرؤية النيو- ليبرالية. وضعفت في ظل هذا الخطاب قيم الرسمية، والجماعية، والطلائعية التي تمثل قيم الخطاب الجمهوراني، فاللبرلة زادت من حدة التناقض بين مطالبة الدولة مواطنيها التضحية بحياتهم في الحرب، وبين خطاب الحقوق الفردية والتوق لحياة طبيعية.

أما العامل الثاني، فهو انتشار الخطاب الإثنو- قومي على حساب ضعف خطاب المواطنة الجمهورانية. فقيم الخطاب الإثنو- قومي تمثل البنية التحتية التربوية الصلبة التي عليها أسست العسكريتارية الإسرائيلية منذ نهاية سنوات السبعين، والتي تعززت بفعل نتائج حرب 67. فحتى يتم الحفاظ على هذه النتائج جندت السياسة العسكريتارية العلمانية للسيطرة على المواقع المقدسة. وهذه السيطرة أدت بدورها لازدهار القيم اليهودية الدينية في المجتمع الإسرائيلي. إن قيم الخطاب الإثنو- قومي، وعلى عكس القيم الجمهورانية، تعتبر الدولة توسيعاً لليهودية كرابطة دم، وليست كياناً أداتياً منفصلاً عنها. لهذا، فإن مؤسسة المواطنة ليست قائمة على الحقوق والواجبات الفردية المشتقة من عضوية الفرد الرسمية في الدولة، وإنما على الانتماء الأوّلي للجماعة، الذي تمثل اليهودية هويته العضوية، وحقيقة الانتماء للجماعة اليهودية تمنح الفرد مكانة ليست مرتبطة بإسهامه التاريخي أو الآني إن كان في الجيش أو في غيره.

والعامل الثالث، هو انخفاض قيمة الخدمة العسكرية بفعل الشعور بانخفاض التهديدات الوجودية للجماعة، الأمر الذي بدأ مع توقيع اتفاقية السلام مع مصر.

والعامل الرابع، تعزيز قدرة بعض الجماعات كالحريديم والمواطنين الفلسطينيين على تحصيل بعض الحقوق بمعزل عن الخدمة العسكرية.

يعتبر المؤلف هذه العوامل الخلفية التي مهدت لإقامة المعاهد الدينية التحضيرية للخدمة العسكرية، والتي شكلت الأداة الأبرز في تقرطة الجيش. لقد مثلت فكرة الإمساك بزمام الأمور في الدولة من قبل الجمهور الديني القومي موجّهاً له لإقامة المعاهد الدينية. هذا بالإضافة لسعيه إلى فرملة عملية العلمنة التي يتعرض لها الشباب المتدين القومي داخل الجيش. ومثلت المعاهد التمهيدية، كمسار تجنيد، انتقال الاتجاهات الدينية القومية من التأثير على الجيش من خارج الوحدات القتالية، أو خارج الجيش، كما فعلت حركة "غوش إيمونيم"، إلى التأثير داخله وفي قضايا خلافية في المجتمع الإسرائيلي، لا سيما في الثالوث (توراة إسرائيل، شعب إسرائيل، أرض إسرائيل).

أقر الكنيست في العام 2008 قانون المعاهد التمهيدية للخدمة العسكرية، الذي حدد نظام الاعتراف بالمعاهد الجديدة من خلال وزارة التربية والتعليم، التي وفقاً للقانون ستموّلها الوزارة إلى جانب وزارة الدفاع.

ويعتبر هذا القانون مأسسة لمكانة هذه المعاهد، واعترافاً بدورها بصفتها وسيطاً بين الجيش والمجندين المتدينين، بل وإقراراً رسمياً بشرعية تدخل الرابانيم (الحاخامات) في قرارات المؤسسة العسكرية. وبذلك يكون الجيش قد سلم بتآكل استقلاليته المهنية لصالح رجال الدين، وزاد من قوة الشبكات الاجتماعية الدينية بالتأثير على القيادة العسكرية.

ويورد المؤلف نتائج دراسة أجريت في العقد الأول من العام 2000، وتُظهر أن نسبة الملتحقين بالوحدات القتالية من أبناء هذه المعاهد، تتراوح ما بين 70 حتى 90 في المئة، وهي نسبة عالية قياساً بالفئات الأخرى في المجتمع التي تصل نسبتها حتى 40%.

كما ارتفع عدد الجنود المتدينين الذين يلتحقون بوحدات النخبة الخاصة التي كانت في الماضي معقلاً علمانياً. وفي ظل الأعوام ما بين 2005 - 2007، والتي يمكن من خلالها تبيان أثر قيام الجيش بإخلاء المستوطنات من قطاع غزة على مستوى استعداد المتدينين للالتحاق بالوحدات القتالية، أظهرت المعطيات ازدياداً ملحوظاً في نسبة الملتحقين بقوات المشاة، حيث ارتفعت نسبتهم من 26% إلى 31%.

ويعتقد المؤلف بأن الازدياد غير المتوقع، مرده الدافع للتأثير على الجيش والسياسة في إسرائيل للحيلولة دون انسحابات أخرى في الضفة. وتؤكد المعطيات أن قدسية الجيش ما زالت تنبع من هذه المهمة برغم الانسحاب الذي تم في غزة. كما أن ثلث خريجي الكلية العسكرية (بهاد 1) من ضباط الصف هم متدينون. ويشكل خريجو المدارس والكليات الدينية على اختلافها 10% من القوة القتالية في الجيش. أما المستوطنون فيشكلون منذ العام 2008 خُمس الوحدات القتالية، وفي العام 2013 شكل المستوطنون خُمس خريجي دورات قادة الوحدات. وفي بعض الوحدات، خصوصاً المشاة والمدرعات، وصلت نسبة المتدينين عام 2010 لا سيما وحدة "جولاني" إلى ثلث ضباط الوحدة، نصفهم من سكان المستوطنات. وفي فترات معينة كان سبعة من أصل ثمانية من كبار قادة الوحدة متدينين. كما زادت تدريجياً نسبة المتدينين في قيادة وحدات النخبة، مثل وحدة "شلداغ" التي وصلت نسبتهم بين قادتها إلى الثلث.

ولقد زادت نسبة المتدينين في الجيش من طموحات قيادتهم الدينية، وتجاوزت أهدافهم الأهداف المتواضعة التي وضعوها لأنفسهم في الماضي، كبلورة هوية الجندي المتدين، والحفاظ على طهارة المعسكر. ويعتبر الراب "إيلي سدان" أكثر القيادات طموحاً، حيث منح المهام العسكرية معنى وتفسيرا دينيا، وطالب الجنود المتدينون من طلابه بإخضاع مهامهم العسكرية المهنية لموقف وتفسير الشريعة اليهودية. وتُرجم هذا التوجه في الكثير من المحكّات العملية داخل الجيش، ولم تعد الاعتبارات الأمنية المهنية المقرر الوحيد في صياغة الأهداف والمهام العسكرية، وكيفت القيادة العسكرية نفسها لهذا التوجه، وارتضت مشاركة الجهات الدينية من خارج المؤسسة لوضع الحلول في حال التعارض بين المهمة العسكرية والشريعة. وترجمة لتوجهات الراب "سدان"، قام أحد أتباعه وهو "عوفر فينتر"، قائد وحدة "جفعاتي" أثناء الحرب على غزة عام 2014، بتعميم توجيهاته القتالية على الجنود، واحتوت على تفسير ديني للحرب وأهدافها. فالحرب كما حددتها القيادة العسكرية كان هدفها منع إطلاق الصواريخ من غزة، بينما "عوفر فينتر"، كتب لجنوده بأنهم: خارجون لمحاربة عدو "يهين ويكفر برب حروب إسرائيل".

بقدر ما احتل المتدينون القوميون مواقع قيادية في الوحدات القتالية، وزاد عدد المستوطنين فيها، أصبحت مهام الجيش في الضفة الغربية ليست فرض النظام، وإنما "توفير الأمن للمستوطنين". فتَحْتَ عنوان فرض النظام الذي يريده الجيش يتطلب منه أيضاً منع الاعتداءات على الفلسطينيين وأملاكهم، لكن "روح القائد" المستمدة من توجيهات الراب، تفرض على الجنود وخصوصاً وحدة "جفعاتي" في الخليل، العمل في حدود مهمة "توفير الأمن للمستوطنين" فقط. والفلسطيني الذي لا تشمله الحماية، كثيراً ما يقوم الجيش بحماية المستوطنين أثناء اعتدائهم على حياته وأملاكه، باعتبارهم إياه عملاً صهيونياً مباركاً شرعياً، بل ويشاركون في بعض الأحيان في هذه الاعتداءات.

لا يعير الجيش الإسرائيلي شكاوى الفلسطينيين ضد المستوطنين أي اهتمام. ففي الأعوام 2000 و2001 قدمت منظمة "بتسيلم" 57 شكوى للادعاء العسكري العام ضد جنود شاركوا في الاعتداءات على الفلسطينيين. ويظهر من رد الادعاء بأنه قام بفتح تحقيق في أربع حالات فقط، وفي حالتين منها تم إغلاق التحقيق.

يبين المؤلف انحياز الجيش لصالح المستوطنين على حساب الفلسطينيين في عدد من دوائر انتشاره في الضفة. ففي الدائرة الأولى، مأسس حمل المستوطنين السلاح، ليس بصفته سلاحاً شرعياً مرخصاً، وإنما بتحويلهم لجزء من وحدات الجيش المسؤولة عن حماية المستوطنات، دون أن يكونوا خاضعين لقيادته العسكرية، رغم أنهم يتلقون ميزانيتهم من وزارة الدفاع. وأقام المستوطنون مليشيات مسلحة ازدادت استقلاليتها في مقابل الجيش الرسمي، ودفع الفلسطينيون ثمنها بأرواحهم. ففي الأعوام ما بين 1987 لغاية 2001 قتل المستوطنون ومواطنون إسرائيليون 46 فلسطينياً، والتكتيك الذي يستخدمه المستوطنون والجنود المتدينون في علاقتهم مع الجيش يأخذ أشكالاً عديدة رسمية وغير رسمية، منها رفض الأوامر أو رفضها جزئياً، التباطؤ في تنفيذ المهام، تعاون الجنود مع المستوطنين بخلاف أوامر الجيش، الاحتجاج، تسريب المعلومات بشأن فعاليات سيقوم بها الجيش ضد الاستيطان. والهدف هو الحيلولة دون تنفيذ إخلاء أو انسحابات أخرى للمستوطنات في الضفة.

ويستخلص المؤلف بأنه من غير الصحيح تعميم ما جرى في غزة على الضفة الغربية، وبأن الانسحابات ستتم بنفس السهولة كما جرى في غزة، لأن السؤال ليس: كيف يمكن أن يتصرف الجنود المتدينون ووحدات الجيش في حال الانسحاب؟ وإنما: هل سيسمحون بمناقشة مثل هذا القرار أصلاً؟ وهل سيتيحون للجيش إمكانية تنفيذه أو مناقشته دون أن يضع أمام المستوى السياسي بأن الثمن قد يكون وحدة المؤسسة العسكرية؟.

ويكتب المؤلف بهذا الشأن بأنه: "في الجيش تشكل جيشان، الجيش الرسمي الخاضع لقرار المستوى السياسي عبر قيادته العليا، وبجانب هذا الجيش ينتشر في الضفة جيش غير رسمي، يتحول تدريجياً إلى مليشيا وقوة تقوم فعلياً بتصميم واقع سياسي غير رسمي" (ص 228).

فرضيات الكتاب- مراجعة نقديـة

على الرغم من أهمية ما توصل إليه الكتاب من استنتاجات تتعلق بصعوبة قيام الجيش الإسرائيلي مستقبلاً بتكرار الانسحاب من غزة، في مناطق الضفة الغربية، بعد أن تحول إلى أداة بيد المستوطنين، متأثراً بشكل كبير برجال الدين من خارج المؤسسة العسكرية، إلا أن المؤلف اختار أن ينطلق من فرضيات خاطئة، وهي فرضيات مضمنة بالنص، تنطلق من تعريف الدولة كـَ "دولة يهودية" و"ديمقراطية". فهذا التعريف هو الناظم لعلاقة الدين بالجيش أو سواه من مؤسسات الدولة. ولما كان المؤلف اختار تجاوز هذا المدخل المبدئي، فقد مهد بذلك عبر أدوات نظرية ومفاهيمية حددها لدراسته، قادته لمقدمات خاطئة، ناقشت عملياً واقع جيش يمر في عملية تديُّن وتقرطة بافتراض مسبق أن هذه التحولات تجري في ظل نظام ديمقراطي وليس نظام إثنوقراطي، أو كأنه يقول بأن جيش أمة- الدين كان بالإمكان أن يتطور في اتجاهات أخرى بغير هذا الاتجاه، لولا مروره بهذا المسار السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي الذي استعرضه المؤلف على مدار فصول الكتاب بالتفصيل.

إن أمة- الدين وإن عبّرت عن ذاتها بنص عماليّ علماني، عندما تلتقي في الواقع السياسي بالرسمية ومتطلباتها الدنيوية، يعود النص الديني الذي يشكل مكوناً أساسياً في الخطاب والهوية الصهيونية، إلى الاستحواذ على مجمل مركبات الهوية والمؤسسات الرسمية التي يشدها نحو متطلبات الشريعة.

إن اعتبار المؤلف إشكالية تدين الجيش إشكالية سياسية اجتماعية، وليست إشكالية بنيوية فكرية، دفع به لأن يركز النقاش على العوامل الخارجية الموضوعية، واستثنى العوامل الذاتية الأيديولوجية الكامنة في الخطاب الصهيوني.

إن نقاش التعبير المؤسسي للخطاب الصهيوني دون بحث الخطاب نفسه مهد له لتأسيس جداله على فرضية خفية مُضَمَّنَة في النص. ونعتقد أنها فرضية خاطئة، مفادها: في إسرائيل خطابان متناقضان يتصارعان على تشكيل قيم المجتمع والسياسة والدولة، بما فيها قيم المؤسسة العسكرية موضوع الكتاب. وهما خطاب ديمقراطي ليبرالي علماني تقدمي منفتح على القيم الإنسانية، وخطاب ديني ظلامي، قومي عنصري. الأول مثلته الصهيونية العمالية التي أقامت الدولة حتى العام 67، ومثلت الجانب الأخلاقي للمشروع الصهيوني. أما الثاني، فتمثله الصهيونية الدينية التي أقامت دولة المستوطنين التي حرفت المشروع عن مساره الصحيح بما فيها المؤسسة العسكرية.

والحقيقة أننا، ورغم ما نراه على السطح من جدل حاد، أمام نصين ينتميان للخطاب الصهيوني ذاته، فالخطاب كما يُعرّفه عبد الواسع الحميري هو عبارة عن البنية الذهنية المجردة التي تسكن وعي الأفراد وتبرمجه، فيما النص هو عبارة عن التجسيد الفعلي لتلك البنية، أو هو السياق التداولي والإنتاجي لها.

وبالتالي، فإن حديث المؤلف عن خطاب جمهوراني مثل المواطنة الإسرائيلية في مقابل خطاب مثل صيغة المواطنة الإثنو- قومية، التي تعتبر الدولة توسيعاً لرابطة الدم اليهودية، على عكس الصيغة الجمهورانية التي تعتبرها أداة منفصلة عنها، إنما هو حديث عن خطاب صهيوني واحد يتمظهر بنصين يحملان في أدق مكوناتهما الإرث التاريخي لإشكالية أمة- الدين، التي لم تستطع الصهيونية حل تعارضاتها، فما كان إلا أن ابتلع الدين الأمة مجدداً وأصبح حدود هويتها.

إن الحديث عن مواطنة جمهورانية ما هو إلا افتراض نظري متخيل غير قائم في الواقع. فلا وجود للمواطنة خارج حدود اليهودية في إسرائيل. وإذا كان هناك متغير في تعريف الحدود، فقد جرى في إطار اليهودية نفسها باتجاه أصولي راديكالي، حيث أصبحت الحدود الأرثوذكسية الحريدية هي الأكثر اعتمادا في تعريف هوية المؤسسة. وما يشهده الجيش من تقرطة هو تعبير عن توغل الدين القائم أصلاً في النصين العمالي الأشكنازي (العلماني) وفي النص الديني القومي منذ اليوم الأول للدولة الصهيونية، وتوغل الدين كدين ليس توغلاً حديثاً، لا على المؤسسة العسكرية، ولا على أي جانب من جوانب الحياة السياسية والاجتماعية في إسرائيل. وربما قد يكون الجديد هو التوغل الأيديولوجي للدين، أو صيغته السياسية المحددة كما تراها النخب الاستيطانية الدينية التي تحدد من خلالها العلاقة الواجب إقامتها بين أضلع المثلث- شعب إسرائيل، توراة إسرائيل، وأرض إسرائيل.

إن استحضار الخطاب الديني، ومنح العمليات العسكرية تفسيراً توراتياً لم يجر، كما يصف المؤلف، في الفترة الأخيرة فقط. فلقد سبق "عوفر فينتر"، قائد وحدة "جفعاتي" في الحرب على غزة إلى ذلك، بعشرات السنين، قادة عسكريون وسياسيون ينتمون للصهيونية العمالية (العلمانية)، التي يحرص المؤلف على إظهارها بأنها النقيض الإيجابي للخطاب الديني القومي. ففي العدوان الثلاثي على مصر عام 56 وحرب حزيران عام 67 استحضرت في الخطاب السياسي والإعلامي، بما فيها صحف اليسار الصهيوني، المُثل والأبطال والمفردات الدينية المسيانية كـَ "الشمشونيم" و"فتية صهيون" و"فتية الرب" في وصف الجنود الإسرائيليين. وحلّ "الجندي المخلص" في اليوتوبيا الصهيونية مكان "الطلائعي"، وتحوّلت الطلائعية إلى مسيانية الدولة والجيش فيها أداة لتحقيق الخلاص.

لقد أنشأت الحروب في السياسة والأدب والخطاب الشعبي مزجاً مركباً بين العسكري والديني، وأعادت إحياء الدين في الخطاب الصهيوني بإسقاط معاكس. فلم يعد الدين يمنح الشرعية للجيش، وإنما اكتسب الدين معنى جديدا من الحرب، ففعل ديني من الماضي كنزول التوراة في جبل سيناء، يتقدس بأثر رجعي بواسطة فعل عسكري، إنزال المظليين في الحاضر.

إن أبلغ تعبير سياسي عن وهم المسافة، التي يدّعيها المؤلف، بين نصي الخطاب الصهيوني، هو تنقل القادة المؤسسين أو المركزيين للأحزاب، دون حرج، أو دون أن تسبق ذلك تحولات أيديولوجية بين المعسكرين، كشارون وبيريس وتسيبي ليفني وغيرهم.

كذلك لم يتطرق الكتاب إلى القضاء العسكري بصفته ذراعاً من أذرع المؤسسة العسكرية، التي تشرعن ممارسات الاحتلال، كمصادرة الأراضي، وهدم البيوت، والاعتقال الإداري وغيرها. ولم يجر فحصا لمدى تأثر هذه المؤسسة وادعائها العام والتي يشغلها ضباط من الجيش بعملية التقرطة الجارية في وحداته، كما لم يبين المؤلف حجم تمثيل المستوطنين والمتدينين القوميين فيها، وتأثير رجال الدين المدنيين على القضاة والمدعين العامين.
____________________________
(*) أسير سياسي من فلسطينيي الداخل. تصدر قريبا عن "مركز مدار" ترجمته العربية لرواية "نبيلة" للكاتب الإسرائيلي من أصل عراقي سامي ميخائيل. نُشر القسم الأول من هذه القراءة في العدد السابق من "المشهد" الصادر في 20/9/2016

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات