المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

تكشف لغة المحاكم الإسرائيلية، بجميع مواقع تراتبيّتها، أنها منحازة في الصميم إلى الموقف الحكومي الساعي إلى تهجير قرية أم الحيران مسلوبة الاعتراف في النقب. وإذا كانت قضية القرية تدرّجت في المحاكم المختلفة: الصلح، المركزية والعليا، فقد كان محكومًا عليها سلفًا بالتهجير، لأن السلطة القضائية لم تخرج عن رؤية السلطة التنفيذية في الفرضيات والمبادئ الأولى، على الرغم من لغة شبه التفهّم والدعوة لتعويض سخيّ للمتضررين (على جريمة بحجم ترانسفير).

امتدّ البحث القضائي في هذا الملف سنوات طويلة، تقع ما بين العام 2002 حين اتخذت الحكومة الإسرائيليّة القرار العنصريّ بهدم قرية عتير- أم الحيران، وتهجير أهلها البالغ عددهم أكثر من 1000 نسمة، وبناء بلدة حيران اليهوديّة على أنقاض القرية العربيّة، وبين صدور قرار المحكمة العليا في أيّار 2015 بالمصادقة النهائية على سياسة الحكومة.

وردت في القرار النهائي إسهابات القضاة التي بثّت نوعًا من التعاطف التصريحي النّسبي مع أهل القرية والإقرار بأنهم ليسوا سارقين نهبوا الأرض (كما تكذب الحكومة حتى اليوم)، بل تم نقلهم بقرار رسمي إلى حيث يقطنون. ولكن هذا الكلام بُتر دومًا باستدراك: ولكن. وبعد الضريبة الكلامية عاد القضاة جميعًا إلى الرواية المهيمنة والزعم بأن من يملك الأرض هو الدولة ومن حقها متى شاءت وقف الترتيب القاضي بإسكان أهل القرية هناك. أما حقيقة أن هؤلاء المواطنين يقيمون هناك منذ عشرات السنين، فهي مجرّد تفصيل تقنيّ على مائدة صنّاع العدل القانوني في إسرائيل.

وفقًا لمنشورات "عدالة"، المركز القانوني لحماية حقوق الأقلية العربية في إسرائيل، الذي مثّل أهل القرية وتولّى تمثيل نضالهم القضائي: "ثبت بالوثائق الرسميّة أن الدولة هي التي أمرت في العام 1956 بنقل أهالي القرية إلى هذه الأرض بعد تهجيرهم من قريتهم الأصليّة "خربة زوبالة" في العام 1948، التي ضمت لاحقًا إلى كيبوتس شوفال. كذلك ادّعت الحكومات الإسرائيليّة أن المنطقة غير معدّة للسكن بحسب الخرائط الهيكليّة – لكننا أثبتنا أن المخطط يعد الأرض لإقامة بيوت ووحدات سكنيّة... إنما لليهود فقط".

وحين عاد "عدالة" لاحقًا وطلب من المحكمة العليا إعادة البتّ بقرارها أمام هيئة قضائيّة موسّعة، رأت المحكمة أن القضيّة "ليست في غاية الخصوصيّة ليتم البتّ بها مجددًا". لا خصوصية وفقًا لضمائر قاضيات وقضاة محكمة إسرائيل العليا لقضية تتألف من جريمة ترانسفير بحق ألف مواطن لأنهم عرب، لهدف إقامة بيوتٍ ليهود مكانها. لا خصوصية في هذا! الحقيقة أنه يصعب العثور على قضية بكلّ هذه الحدّة من حيث طغيان الأيديولوجية القومجية العنصرية على كافة معايير الحكم، التنفيذية والقضائية معًا. القضاة هنا تمسكوا بمعيار الصهيونية الأساس: "احتلال البلاد"، وتنازلوا بالكامل عن وظيفتهم كقضاة. هذه ليست مجرد دعوى لمواطنين على سلطة أمام محكمة حول حق ملكيّة أرض، لأنه لو كانت كذلك لأخذ القضاة بالاعتبار أنهم أمام قرية عمرها أكثر من نصف قرن (إسرائيل تكبرها بثماني سنين فقط) ومن غير المعقول القول: لقد أحضروكم إلى هنا ويمكن إزاحتكم كأمتعة أو كومة حجارة؛ بل هي فصل جديد من المواجهة القومية على الأرض، وفيها تتفنّن سلطة في غاية القوّة والنفوذ والدهاء في التنكيل بمواطنين مستضعفين، وتلعب المحكمة فيها دورًا منافقًا.

استطرادات في النص الأيديولوجي

وفقًا لقضاة المحكمة أيضًا، لا يمكن نقض الاعتراف بحقيقة أن القرية تأسست عام 1956 بموافقة الحاكم العسكريّ الإسرائيليّ، بل بقرار مسبق منه، لأنه مَن قام كممثل للدولة بنقلهم إليها من أرضهم الأصليّة بُعيد النكبة. ولكن في كل مرّة يضطر القضاة للاعتراف بهذه الحقيقة، تراهم يتحرّكون كشارع التفافي نحو مستوطنة، وهم يرمّمون رواية السلطة التنفيذية ويرتقونها ويدعّمونها بواسطة وصفها صاحبة الحق في تقرير مصير أرض أهل أم الحيران. ليست هذه نصوص قانونية يضعها قضاة، بل استطرادات في النص الأيديولوجي الذي يحكم البلاد ويحتكم إليه حكّامها، وقضاتها، في كل ملف عنوانه الأرض.

أما تحذير عدالة من أن القرار "يُعطي الشرعيّة للسياسات الاستعماريّة المتجذّرة في أيديولوجيا التمييز، المصادرة والفصل العنصريّ، التي تُنتهج ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل (...) وأن أهالي قرية عتير أم الحيران يتمسّكون بحقّهم الوجوديّ والأخلاقي والشرعيّ باستمرار حياتهم في بيوتهم وقريتهم"، فهو لم يؤثر في السمع المُرهَف لرُوّاد العدالة الإسرائيلية. الأمر نفسه بالنسبة إلى "الأسئلة الجوهريّة التي تتهرب سلطات الدولة من الإجابة عليها: لماذا لا يتم إدراج القرية ضمن المخطط الهيكلي الجديد للمنطقة؟ لماذا يجب هدم البيوت (وتعويضهم جزئيًا) في بلدة حورة (المجاورة) فقط؟ هل يحق للدولة اقتلاع العرب لصالح بناء بيوت جديدة لليهود على جزء من الأرض، وإقامة مراعٍ للمواشي على جزء آخر منها؟ هل يتماشى التخطيط مع المبادئ الأساسيّة للقانون الإسرائيلي والقانون الإنساني الدولي؟".

لم تبرح المحكمة مساحة البيروقراطيّة الإجرائية رافضةً بمنهجية واضحة أن تدخل إلى الحيّز المبدئي، ولتتمترس في أسئلة مثل: هل كان اتفاق نقل السكان إلى مكانهم الحالي نهائيًا أم يحق للدولة التراجع عنه؟ هل وُضع المخطط الجديد وفقًا لقواعد القانون الإجرائي؟ أما اقتلاع بشر من قرية يسكنونها منذ 60 عامًا، فهو تفصيل يمكن رميه من على درَج حصن العدل.

الدعوى التي قدّمها "عدالة" باسم أهل القرية للمطالبة بربطها بشبكة المياه، وقرار المحكمة فيها، كشف مسبقًا عمليًا وُجهة السلطة القضائية المنحازة. منطقيًا: حتى لو رفضت الدولة الاعتراف للسكان بامتلاك الأرض التي يقيمون عليها منذ ستة عقود، فلا مبرر ولا أساس قانونيا لحرمانهم من حنفية ماء. لكن المحكمة رفضت إلزام الدولة بتلبية هذا الحق الأساس (ماء شرب!). المحكمة التي ترفع مفردة "العدل" في تعريفها اكتفت بوجود "شخص يقدّم لأهالي القرية خدمة توصيل وبيع المياه بكميات كافية". قرار المحكمة هذا غير القابل للتبرير مهما حكّ القضاة جباههم وشدّدوا من صرامة ملامحهم، هو قرار يثير الشبهات، لأنه في المنظور التاريخي ينسجم مع مخطط تهجير القرية الذي انسجمت فيه المحكمة بسفور كامل بدور ختم مطاطي. هذه فعلا سلطة قضاء بـ أل التعريف: سلطة القضاء على حق ووجود أهل أم الحيران.

هذه نتائج برافر

توسيعًا للسياق، يجب رؤية قضية أم الحيران كجزء من كلّ؛ إنها واحدة من 35 قرية خطّطت الحكومة/ات الإسرائيلية لهدمها بموجب مشروع برافر سيء الصيت؛ المخطط الحكومي الذي كانت تجري محاولة صياغته كقانون - وهو أبعد ما يكون عن روح القانون والعدالة - سعى لمصادرة مئات آلاف الدونمات من أرض عرب النقب وبالتالي تهجير عشرات القرى.

مصادرة الأرض، تاريخيًا، هي اسم حركي إسرائيلي للقمع والاضطهاد والعنصرية ضد العرب الباقين في وطنهم. والتهجير هو الإسم الحركي الجامع لقضية ونكبة الشعب الفلسطيني بأكمله. وحين يجتمع هذا وذاك يصبح الأمر حربًا حكومية إسرائيلية شاملة على الوجود وفضاءات المستقبل والتطوّر.

في مقابلة سابقة مع شيخ قرية العراقيب التي هدمتها الحكومة مئة وعّدة مرات وأصرّ أهلها على البقاء، المناضل أبو عزيز صياح الطوري، عرّف المشروع بدقّة: "نرفض دعاية تطوير النقب، هدف برافر سلب الأراضي بالاحتيال. جميعنا مستهدفون. كل العرب في البلاد. لا فرق بين مسلم ومسيحي ودرزي، كلنا عرب في النهاية".

جرائم الهدم الإسرائيلية في الشهر الأخير طالت قرية حرفيش في الجليل، مدينة قلنسوة في المثلث، وأخيرًا أم الحيران في النقب. هذه الأخيرة ترافقت مع جريمة قتل المعلم الشهيد يعقوب أبو القيعان برصاص البوليس. السلوك الوحشي لعناصر البوليس الإسرائيلي يثير دومًا التساؤل: ماذا يفكرون عن العربي؟ أين هم سياسياً؟ هل يضعون معتقداتهم جانباً أو يتركونها في البيت حين يرتدون الزيّ الأمني والدروع الواقية والخوذات ويحملون بنادق قذف الغاز وسائر الأسلحة؟ وهل هذا ممكن أصلا؟ هنا تعود إلى الذاكرة ما كتبته "لجنة أور" في تقريرها عن التحقيق في هبّة أكتوبر 2000: "هناك حاجة لإحداث انقلاب مفاهيمي في تعامل الشرطة مع المجتمع العربي (...) من المهم العمل على اجتثاث الآراء المُسبقة السلبية التي وُجدت حتى عند ضباط شرطة قدامى يحظون بالتقدير نحو المجتمع العربي. يجب أن يكون الهدف تذويت الإدراك عند أفراد الشرطة، بأن الجمهور العربي عامة ليس عدواً لهم ولا يجب التعامل معه على أنه عدو". في موقع آخر كتبت عن "ثقافة الكذب" المتفشية في الجهاز.

هل تغيّر شيء منذ توصيات هذه اللجنة برئاسة قاضي المحكمة العليا قبل أكثر من عقد؟

سلوك الشرطة هنا لا يدلّ أبداً على تحسّن في حالة المريض. بل بالعكس.

تاريخ من التهجير

تعميقًا للسياق، عدتُ إلى كتاب المؤرخ الفلسطيني نور مصالحة الذي يلخّص عنوانه المسألة برمّتها: "أرضٌ أكثر وعرب أقل" (1997).

في فصلٍ تناول مفهوم "التهويد" كتب: "ارتبطت السياسة الإسرائيلية للاستيلاء على الأرض ارتباطًا وثيقًا بالتفكير الرسمي، بهدف إحلال أغلبية يهودية كبيرة مكان السكان العرب في إقليمي النقب والجليل معًا". وهو يقتبس الباحث يتسحاق عوديد في مقال بعنوان "أرض البدو مهددة بالمصادرة" (1964) لإظهار العمق التاريخي لهذه السياسة. يكتب عوديد: "إن العناصر القوية في حكومة حزب العمل حريصة على إبعاد البدو عن النقب... ومنذ أربعة أعوام، رعى موشيه دايان، وزير الزراعة في ذلك الوقت – وربما أشدّ مساندي ترحيل البدو إلى الشمال – خطة لنقلهم إلى قلب البلاد (في جوار الرملة)".

مصالحة يتوقف عند تلك الفترة، النصف الأول للستينيات، بوصفها بلورت سياسات لاحقة لعشرات السنين. وقد أصاب: "عندما تطرق دايان علنًا أول مرة إلى خطة لترحيل بدو النقب، تلقى الجميع التأكيد أن تنفيذ الترحيل سيكون اختياريًا كليًا. ازدياد الميل إلى ممارسة الضغط، وهو الذي يمكن أن نلاحظه منذ ذلك الحين، يبين أنه بدأ التشديد على الإكراه، بطريقة أو بأخرى (...) لم ينقل عرب النقب إلى داخل البلاد، إنما تم إجلاؤهم تحت الضغط عن معظم أراضيهم في السنوات التالية، إلى أشباه مدن جديدة في النقب نفسه. في نهاية سنة 1976، كانت السلطات الإسرائيلية قد ازالت 31 بلدة للبدو، وكانت تخطط لإجلاء 54 بلدة اخرى".

هذه المعطيات التاريخية توفّر منظورًا هامًا لفهم ما تتعرّض له أم الحيران اليوم. وتكشف أيضًا أن السياسة تتجاوز الحيّز الإجرائي عن علاقة قانونية بين مواطنين وبين أرض واستخدامها وتخطيطها، وكأن قومية هؤلاء المواطنين غير ذات صلة، كما يحاول مسؤولون، وأحيانًا خبراء، إسرائيليون منافقون تصوير الأمر للرأي العام. لأن العدوان على أم الحيران في العام 2017 يرتبط بتسلسل تاريخي واضح ووثيق بسياسة إسرائيل الرسمية للتخلص من هؤلاء المواطنين، إما بترحيلهم أو بمحاصرتهم في تجمعات مكتظة فقيرة ومهمّشة، لأنها لا ترى فيهم أبناء للمكان. هم بالنسبة إليها غرباء أو همّ يجب التخلّص منه.

مصالحة تناول أيضًا العصابة التي أقامتها الحكومة الإسرائيلية "في محاولة للتعجيل بإجلاء بدو النقب عن أراضيهم واعادة توطينهم القسري، [إذ] شُكلت سنة 1976 قوة مسلحة خاصة، عرفت باسم الدورية الخضراء، "لتحديد مكان" الذين يعتقد أنهم يعتدون على أراضي الدولة، أي خارج المناطق التي يسمح لبدو النقب بدخولها "ولإجلائهم عنها بسرعة". وشكلت "الدورية الخضراء" قوة مساندة لهيئة المحميات الطبيعية التابعة لوزارة الزراعة ولهيئة إدارة الأراضي في إسرائيل. إن ما تفعله هذه الدورية هو في الحقيقة إبعاد عائلات البدو عن أرض النقب وتوجيهها نحو المدن الست التي تخطط. الدورية الخضراء تصادر الحيوانات وتضرب النساء والأطفال وتدمر البيوت، وهي تمارس الضغط أيضا على اليهود في المناطق المجاورة للتعاون على إبعاد البدو عن أراضيهم (...) شردت عشرات العائلات البدوية، بعد أن جُرفت بيوتها المبنية من الصفيح أو خيامها أو أحرقت وفي داخلها في كثير من الأحيان أمتعة شاغليها، صودرت قطعان الحيوانات أو شتتت؛ استخدم إطلاق الرصاص وقنابل الدخان لإخراج الناس من بيوتهم؛ دمرت السدود؛ اقتلعت أشجار الفواكه والزيتون، وحرثت الأرض بما فيها من محاصيل. (...) ويتذكر شموئيل طوليدانو، وهو مستشار سابق لرئيس الحكومة في الشؤون العربية، أنه سمع عشرات القصص المرعبة التي سجلت على شرائط من أفراد تعرضوا للمضايقة وضربوا وأجلوا بوحشية عن بيوتهم، من دون إجراءات قانونية، واستمرت سياسة حكومة إسرائيل القائمة على إجبار بدو النقب على الانتقال من أراضيهم إلى المدن التي كانت تخطط حتى اوائل التسعينيات. كانت أهداف هذه السياسة هي حصر البدو في أضيق بقعة ممكنة، بحيث يصبح الانتقال إلى المدن الخيار القانوني الوحيد المفتوح أمامهم".

هذه الوحشية هي ما تمارسه الحكومة اليوم أيضًا، وهي ما كان يمكنها أن تستمر لولا الموقف المتواطئ لقاضيات وقضاة في المحكمة العليا التي تتصرّف، بدلا من حصن للعدل، كذراع قضائيّ الطابع للقبضة الحديدية المستخدمة على امتداد عقود ضد أهل النقب العرب.

المصطلحات المستخدمة:

كيبوتس, الصهيونية, المثلث, لجنة أور, انقلاب

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات