المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

طرح عضو الكنيست ميكي زوهر من حزب الليكود، مؤخرا، مشروع قانون يقضي بإرغام المحال التجارية على الإغلاق في يوم السبت، وبأن تتوقف المواصلات العامة عن العمل. ويبدو أن مشروع القانون هذا موجه أساسا ضد مدينة تل أبيب، النابضة والصاخبة، التي لا تتوقف فيها الحركة.

وقال زوهر إن تل أبيب "تتصرف كأنها دولة قائمة بحد ذاتها، والناس لا يدركون ذلك، فهي ليست جزءا من دولة إسرائيل، وإنما هي شيء ما منفصل تماما".

لم يكن زوهر أول من وصف تل أبيب بأنها دولة، إذ أن مصطلح "دولة تل أبيب" منتشر في إسرائيل ويتردد منذ سنوات طويلة. وتزايد الشعور بالفصل بين تل أبيب وباقي المناطق في إسرائيل في الشهور الماضية، وخاصة في أعقاب الهبة الفلسطينية. وبرغم وقوع عدد قليل من العمليات فيها، إلا أن هذه المدينة تعتبر ملاذا أخيرا، وتوجد لذلك أسباب سياسية واقتصادية.

فعلى الصعيد السياسي، وبرغم سيطرة حزب الليكود على الحكم في إسرائيل خلال السنوات السبع الماضية، إلا أن شعبيته ضعيفة في تل أبيب. ففي الانتخابات العامة الأخيرة، التي جرت في آذار الماضي، حصلت أحزاب المعارضة على الغالبية العظمى من أصوات سكان المدينة. فـ"المعسكر الصهيوني" حصل على 34% من الأصوات، و"حزب يش عتيد (يوجد مستقبل)" حصل على 13%، وحزب ميرتس اليساري الصهيوني حصل على 12%، بينما حزب الليكود الحاكم لم يحصل سوى على 18% من الأصوات في هذه المدينة.

عصب اقتصادي

أبرز المؤشرات على الفصل بين تل أبيب وباقي المناطق يتعلق بالناحية الاقتصادية. إذ أن مستوى معيشة السكان في تل أبيب أعلى من أي مكان آخر في إسرائيل. ومعدل الأجور فيها، وفقا لمعطيات العام 2013، بلغ 11855 شيكلا، وهو أعلى بـ2800 شيكل من معدل الأجور العام في إسرائيل. في المقابل، فإن معدل إنفاق العائلة في تل أبيب يبلغ 15710 شواكل، أي أعلى بـ1200 شيكل من المعدل القطري.

ووفقا لمعطيات العام 2013، فإن معدل تكلفة استئجار بيت مؤلف من ثلاث غرف في تل أبيب بلغ 4500 شيكل، بينما المعدل القطري 3000 شيكل. ويبلغ معدل إيجار شقة مؤلفة من خمس غرف في تل أبيب حوالي 6500 شيكل، مقابل حوالي 4000 شيكل في سائر أنحاء إسرائيل. ويبلغ معدل أسعار الشقق في تل أبيب حوالي 498ر2 مليون شيكل، بينما في القدس حوالي 756ر1 مليون، وحيفا حوالي 043ر1 مليون شيكل، والمعدل القطري 368ر1 مليون شيكل.

وفي العام 2014، تخلف 13% من سكان تل أبيب عن تسديد الحسابات للمؤسسات العامة، مثل الضريبة البلدية وحسابات الماء والكهرباء، بينما كانت هذه النسبة 24% على الصعيد القطري. وتخلى 21% من سكان تل أبيب عن علاج الأسنان أو علاجات طبية أخرى، بينما تخلى عن هذه العلاجات 42% من المحتاجين إليها على الصعيد القطري. وتخلى 27% من سكان تل أبيب عن التدفئة أو التبريد بينما كانت هذه النسبة 41% قطريا.

وأفادت دراسة أن الناتج للفرد في تل أبيب أعلى بثلاث مرات من الناتج للفرد في أنحاء إسرائيل. ورغم أنه يسكن في تل أبيب 2ر5% من سكان إسرائيل، إلا أن 2ر15% من المستخدمين في الدولة يعملون في هذه المدينة، كما أن 7ر16% من الناتج الإسرائيلي يأتي منها.

وقال إيتان بار زئيف، مدير عام شركة "بيغ" التي تبني وتدير مراكز تجارية في أنحاء إسرائيل، لصحيفة "ذي ماركر" التي نشرت تقريرا مطولا حول "دولة تل أبيب" يوم الجمعة الماضي، إنه "ليت إسرائيل تكون شبيهة بدولة تل أبيب. فعندما نتحدث عن القوة الشرائية، لا توجد مقارنة بين غوش دان (أي تل أبيب والمدن الملاصقة بها) ومناطق أخرى. والازدحام في غوش دان جذاب بالنسبة للمستأجرين وأصحاب الحوانيت. وإذا نفذوا ما يريده عضو الكنيست زوهر في يوم السبت، ستجد غوش دان في البلدات العربية في أيام السبت. فدولة تل أبيب تعمل في أيام السبت، وإذا أغلقت المحال التجارية يوم السبت، سيجد السكان طريقة لإنفاق المال. وكما قال أحدهم: سنجد أنفسنا بحافلات مكتظة نسير في أيام السبت نحو البلدات العربية. وهذا أمر رائع بالنسبة لي، لأنه توجد عدة مراكز تجارية في الوسط (العربي)، لكن هذا لا يناقض حقيقة أن دولة لا ينبغي أن تدار بهذا الشكل".

وأشار بار زئيف إلى أن نسبة السكان العرب والحريديم ضئيلة. فهاتان المجموعتان السكانيتان تعتبران من أفقر الشرائح الاجتماعية في إسرائيل "ودمجهما في الاقتصاد الإسرائيلي هو أحد أبرز التحديات".

مليون شخص يدخلون إلى تل أبيب يوميا

يرى البعض أن تحسين الوضع الاقتصادي في إسرائيل يكمن في أن تصبح باقي المناطق مشابهة لتل أبيب. لكن هذا الأمر ليس بسيطا على ضوء حقيقة أن هذه المدينة، ومن عدة نواح، تكتسب قوتها من الدولة كلها. ولذلك، يرى خبراء أن تقوية الاقتصاد الإسرائيلي مرتبط بتحويل القوة الاقتصادية من تل أبيب إلى خارجها.

وقالت المصممة البيئية وباحثة الثقافة والحضارة في المسار الأكاديمي لكلية الإدارة، البروفسور كرميلا يعقوبي فولك، وهي من سكان تل أبيب، إن "المدن والبلدات في أطراف الدولة هي التي تقوم بصيانة تل أبيب. ونحن لسنا الوحيدين الذين ننفق المال في هذه المدينة. هناك أناس كثيرون يأتون للعمل هنا، ولتبذير مالهم هنا وصيانة الثقافة الموجودة هنا. وتوجد حالة غير طبيعية في التعامل معهم. فالمدينة تجذب إليها أشخاصا من الأطراف، ويوجد شعور لدى سكان المدينة بأنهم ليسوا بحاجة إليهم، لكن في الحقيقة هم بحاجة إليهم. يوجد شعور بأن المدينة يمكنها أن تحيا بصورة مستقلة، وهذا ليس صحيحا. فالدولة تستثمر هنا موارد كبيرة وتوجد هنا مؤسسات حكومية كثيرة. توجد مقرات لوزارات ومحاكم وقواعد عسكرية ومؤسسات أكاديمية وثقافية تحصل على الكثير من المال".

وتدعم المعطيات الرسمية أقوال فولك، إذ أن 63% من بين 407 آلاف شخص يعملون في تل أبيب لا يقيمون في المدينة. وإذا أضيف إلى ذلك أولئك الذين يأتون إلى تل أبيب من أجل استهلاك الثقافة وخدمات أخرى، يتبين أن حوالي 700 ألف شخص يسكنون خارج المدينة ويأتون إليها يوميا. ولذلك فإن قسما كبيرا من المستهلكين، الذين يشترون الملابس والطعام والشراب في تل أبيب، هم سكان مدن وبلدات أخرى ويأتون إلى المدينة من أجل العمل أو الترفيه وقضاء وقت الفراغ فيها.

إضافة إلى ذلك، تتميز تل أبيب بوجود نسبة عالية (78%) من سكانها الذين لم يولدوا فيها، ما يعني أن نسبة هجرة الإسرائيليين إليها مرتفعة. وأشار مدير عام التسويق في شبكة حوانيت الملابس "كاسترو"، غادي دايخوفسكي، إلى أنه "يدخل مليون شخص إلى المدينة يوميا، وهم الذين يشترون فيها. وبالنسبة لي، فإن قصة ’دولة تل أبيب’ موجودة في المخيلة أكثر مما هي موجودة في الواقع. وبالنسبة لمن يسكن في الأطراف فإن بيتاح تيكفا هي تل أبيب أيضا (لأنهما متلاصقتان). والمكان الوحيد الذي يوجد فيه الفرق الحقيقي هو في الليل، عندها تدرك الفرق بين تل أبيب والأطراف".

من الجهة الأخرى، فإنه توجد بين ضواحي تل أبيب فروق وفجوات اقتصادية، وأحيانا تكون أكبر من الفجوات الاقتصادية بين تل أبيب والمناطق الأخرى في إسرائيل. "ولو تعاملنا مع تل أبيب على أنها دولة، لوجدنا فيها سلسلة طويلة من المناطق التي لا توجد بينها علاقة"، بحسب "ذي ماركر". فالفجوات كبيرة بين الضواحي الغنية في شمال المدينة وتلك الفقيرة في جنوبها، كما أن حال يافا تختلف عن حال تل أبيب بشكل عام، من النواحي الاقتصادية والثقافية والاستهلاكية. ومن هذه الناحية، فإن انعدام المساواة السائد في إسرائيل موجود في تل أبيب أيضا.

وقال أفي كاتس، مؤسس شبكة أكشاك "كوفيكس" التي تبيع القهوة بأسعار رخيصة نسبيا، إنه "في مدن مثل بات يام (في جنوب تل أبيب)، يوجد تأثير كبير لتاريخ قبض المخصصات والرواتب من حيث المشتريات. واذهب إلى مجمع تجاري في بات يام في 28 الشهر (يوم دفع مخصصات تأمين الشيخوخة) وسترى أنها مزدحمة. ويتحول أولئك الذين يتلقون المخصصات إلى علية القوم ليومين. وإذا كانت ذروة المبيعات في بات يام في أيام دفع مخصصات التأمين الوطني، فإنه في ريشون لتسيون وبيتاح تيكفا ونتانيا نرى هذه الظواهر في أيام قبض الرواتب".

وأردف كاتس أنه "في مقابل ذلك، لا يوجد تأثير لهذه التواريخ في تل أبيب، والمبيعات ثابتة". ولفت إلى أن تسويق البضائع في معظم المدن الإسرائيلية يجري من خلال الصحف المحلية، التي بإمكان أصحاب المصالح التجارية نشر إعلاناتهم فيها بسعر معقول، ليس أكثر من 2500 شيكل. لكن في تل أبيب لا يوجد أمر كهذا، إذ توجد فيها صحيفة محلية واحدة، هي "يديعوت تل أبيب"، وتتراوح أسعار الإعلانات فيها ما بين 12 – 18 ألف شيكل، أي أكثر من الإيجار الشهري للحانوت.

مدينة عالمية

تل أبيب لا تقارن نفسها بالمدن الأخرى في إسرائيل، مثل حيفا أو بئر السبع، ولا تتنافس معها. وينظر سكانها ونخبها إلى المدينة على أنها جزء من المدن العالمية، مثل برلين وأمستردام، وهذه الأمور تشكل المقياس للمقارنة بمستوى الحياة والبنية التحتية والثقافة وحياة الليل.

ووفقا لمدير عام شبكة وساطة العقارات "ريمكس"، برنارد ريسكين، فإن "تل أبيب هي مدينة لا تشبه أي أمر آخر، ويوجد فيها تجمع كبير من الشبان حتى مرحلة الزواج، وعدد كبير من المتقاعدين أو الذين على وشك التقاعد. وتوجد في المدينة نسبة عالية من المستأجرين، ونسبة عالية من الأشخاص الذين يشترون شققا بهدف الاستثمار. ومن يأتي إلى المدينة يصاب بصدمة من الأسعار المرتفعة. وهذا شبيه بأوروبا".

وينظر المحاضر في قسم الجغرافيا في جامعة بن غوريون في بئر السبع، البروفسور أورن يفتحئيل، إلى حسنات ومساوئ تل أبيب من هذه الزاوية "العالمية". وقال إن "تعبير ’دولة تل أبيب’ هو تعبير ثقافي أكثر من أي شيء آخر. وهو تعبير يحاول أن يعكس أحيانا خطابا مستخفا. وهو يأتي من جهة قوى صهيونية كبيرة، ترى منذ سنوات الأربعين خطرا في التجمع السكاني الكبير في تل أبيب، وهو خطر الثقافة التي تتطور في المدن العالمية. فالصهيونية في أساسها معادية للمدن. والكثير من دول المهاجرين – المستوطنين، مثل أستراليا، هي كذلك. ومنذ البداية كان تعبير ’دولة تل أبيب’ تعبيرا تحقيريا. وفي العشرين عاما الأخيرة ازدادت قوة تل أبيب وتحولت إلى قوة اقتصادية هائلة، وتعززت قوة هذا التعبير".

ورأى يفتحئيل أنه "يوجد نفاق هنا، لأن تل أبيب هي الإنجاز الأكبر للصهيونية. وهي حققت حلم تحول اليهود إلى شعب طبيعي. وهذه مدينة لديها مميزات مدن أخرى في حوض المتوسط، مثل روما واسطنبول. وهذا جزء من تحول عالمي، يتجه فيه العالم نحو المدينة أكثر فأكثر ويدخل إلى المدن الكبرى. وفي إطار هذا التحول، فإن ما كان تعبيرا تحقيريا حتى اليوم أصبح تعبيرا إيجابيا، ومن هنا ينبع الصراع على الثقافة".

وأضاف يفتحئيل أنه "من الناحية الاقتصادية، قوة تل أبيب ستزداد وحسب في السنوات المقبلة. والاقتصاد العالمي آخذ بالتعزز ونقطة الالتقاء هي المدن الكبرى مثل تل أبيب. وهذا التحول قوي بشكل خاص في إسرائيل، لأنها واحدة من أكثر الدول العالمية. لكن في موازاة ذلك، فإنه على المستوى الثقافي تل أبيب هي مثال للسلوك المتعدد الأفكار والمتسامح، وهي مدينة تقود حركة ديمقراطية – اجتماعية، وتل أبيب هي قلب الرأسمالية الإسرائيلية، وهي أيضا محرك الفجوات الاجتماعية في إسرائيل. ورأس المال الكبير الذي يتجمع في تل أبيب يعمل من أجل زيادة هذه الفجوات فيها، والسؤال هو كيف ندير جهاز الضرائب والإسكان من أجل مواجهة هذا التحول".

وأوضح يفتحئيل أن "تل أبيب هي التي تدفع سوق العقارات الإسرائيلية. ويصل إليها مستثمرون من العالم كله، وهي تجذب السوق معها إلى أعلى. ويوجد فيها تجمع غير مسؤول من العقارات والنشاط الاقتصادي، من دون محاولة الاعتناء بهذا الأمر. ونشأ وضع فيه تل أبيب، كرمز للرأسمالية التي تمتنع الدولة عن إدارته، تخلق مشاكل".

ورأى أنه "يجب محاولة صنع متروبولين آخر في إسرائيل، صنع دولة متروبولين حيفا مثلا. وهذه هي المسؤولية الاقتصادية التي تخونها الدولة. وجزء من نتيجة ذلك هو النقص الاصطناعي في العقارات. والثمن يدفعه الجيل الذي يحتاج إلى رواتب 13 – 14 عاما من أجل شراء شقة. والدولة تتملص من المسؤولية في هذا المجال وتخلق ثراء لا يمكن استيعابه في وسط البلاد، ولا تضع أنظمة لإحداث التوازن. وكان بالإمكان بناء متروبولين في بئر السبع، في الناصرة وفي كرميئيل. وتوجد نماذج لذلك في العالم".

وخلص يفتحئيل إلى أنه "من جهة، هناك النموذج الفرنسي والبريطاني لمدينة واحدة قوية وهائلة. ومن الجهة الثانية، هناك دول مثل الدنمارك والسويد واسبانيا وأستراليا، التي يوجد فيها عدة متروبولينات. وعلينا أن نحاذر كي لا نكون مثل بريطانيا ولندن، بوجود مدينة تكون الأقوى في العالم. فهذا نموذج لا نريد تقليده. وليس صدفة أن بريطانيا شبيهة بإسرائيل من حيث الفجوات الاجتماعية فيها. وبدلا من ذلك ينبغي تبني نموذج مثل النموذج الألماني، الذي تهتم فيه الدولة طوال الوقت بقوة جذب متروبولينات أخرى. ويجب تحقيق ذلك بواسطة البناء المكثف في مدن أخرى وتحسين المواصلات".

من جانبها، قالت البروفسور فولك إن الفرق بين تل أبيب ومدن كبرى أخرى في العالم هو "الشعور الموجود في البلاد، بأن حدود الدولة تضغط نحو الداخل. فباريس هي متروبولين يؤثر على كل محيطه، لكن هناك تنقلات لأشخاص نحو مناطق أخرى. والأفراد يذهبون إلى جنوب فرنسا، مثلا، من أجل الحصول على جودة حياة وغلاء معيشة أقل. وفي إسرائيل، الأطراف سياسية، أطراف عند الحدود وانعدام الأمن ما يدفع الأفراد إلى وسط البلاد، وهذا جزء من المشكلة. ولذلك يوجد شعور هنا بأن السكن في الأطراف هو تضحية. واليوم، عندما تسكن في القدس فإنك تشعر أنك لست آمنا. ولهذا السبب بالذات ينبغي تعزيز أماكن مهملة في وسط البلاد، مثل الرملة واللد وبات يام".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات