المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

في نهاية تموز 2015 طرح حزب العمل الإسرائيلي صيغة سياسية جديدة، رأت تحليلات متطابقة أنها تشف عن تحوّل في موقف هذا الحزب في ما يتعلق بالاتفاق المستقبلي مع الفلسطينيين.

وأكدت هذه الصيغة أن القدس لن تُقسّم أبداً، وتبنت مطلب عدم طرد أي يهودي يهودياً آخر من منزله إذا "كان يسكنه بإذن قانوني وموافقة من قبل الدولة" والذي برز بعد "خطة الانفصال" التي شملت إخلاء مستوطنات قطاع غزة (2005).

ورأت أوساط مقربة من رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن هذه الصيغة من شأنها أن تؤدي إلى "وجود تقارب بين التيار المركزي المعتدل في الليكود الذي يؤيد لفظياً حل الدولتين لشعبين، ونواة حزب العمل التي لم تعد تنظر إلى المستوطنات بوصفها عائقاً في وجه السلام بل باعتبارها عنصراً يجب دمجه في أي اتفاق" (الصحف العبرية، 29/7/2015).
ويشير هذا التحوّل إلى ماهية بنية خريطة إسرائيل الحزبية في الوقت الراهن.

قبل ذلك نُشر في إسرائيل "استطلاع مركز مولاد السنوي" للعام 2015، الذي أجراه مركز "مولاد ـ لتجديد الديمقراطية في إسرائيل" عقب الانتخابات الأخيرة للكنيست التي جرت في آذار 2015.

وبحسب معدي الاستطلاع أظهرت النتائج "صورة غير عادية ومثيرة" فيما يتعلق بتحليل هذه البنية تتمثل، أساساً، في أن نتنياهو بالرغم من أنه مني بفشل ذريع ومطبق في مختلف المجالات تقريبا، فإنه فاز في الانتخابات وتغلب على منافسه الأساسي إسحاق هيرتسوغ (زعيم "المعسكر الصهيوني") بفارق كبير.

وترجع نتائج الاستطلاع ذلك إلى فشل معسكر الوسط ـ اليسار الإسرائيلي التام في عرض رؤية سياسية ـ أمنية مستقلة، متجددة وواضحة أمام الجمهور الواسع. في المقابل، يبين الاستطلاع أن معسكر اليمين حقق نجاحا ملحوظا في نقل وإيصال رسائله السياسية ـ الأمنية إلى الجمهور حتى بدت هذه الرسائل صادقة وموثوقا بها "حتى بين معارضي نتنياهو الأشداء"!

وثمة مثال آخر ينمذج على إخفاق معسكر الوسط ـ اليسار الإسرائيلي يتجسّد في حقيقة أن الرئيس الفلسطيني "أبو مازن يبدو في نظر غالبية الجمهور الإسرائيلي، شخصية غير موثوق بها".

وحينما سئل المشاركون في الاستطلاع عما إذا كان رئيس السلطة الفلسطينية يمثل، في نظرهم، شريكا، أجابت غالبيتهم الساحقة بالنفي. ثم عرضت أمامهم، على الفور، سلسلة من الخطوات التي يمكن لأبو مازن اتخاذها بغية تعزيز صدقيته وموثوقيته في نظرهم، ثم سئلوا "أي هذه الخطوات كان من شأنها أن تثبت إمكانية الاعتماد عليه والوثوق به؟". وظهرت "المفاجأة" هنا، إذ تبين من إجابات المستطلعة آراؤهم أن "جزءا كبيرا من الخطوات التي أشاروا إليها بوصفها ضرورية من أجل اعتبار أبو مازن شريكا ـ مثل المعارضة العلنية لاستخدام العنف أو التعاون مع الجيش لمنع العمليات ـ هي خطوات وإجراءات يعتمدها ويطبقها منذ زمن طويل". (من الخطوات الأخرى التي أشار إليها المشاركون في الاستطلاع بوصفها "مطلوبة وضرورية" من القيادة الفلسطينية لكي يتم اعتبارها شريكا في عملية التسوية السياسية: محاربة الإرهاب، الاعتراف بدولة إسرائيل كدولة يهودية والتنازل العلني عن حق العودة).

في المقابل، تبدو فاعلية اليمين ونجاعته الإعلامية واضحتين تماما في كل واحد من أسئلة الاستطلاع. وتستحق إشارة خاصة، هنا، مطالبة نتنياهو بالاعتراف الفلسطيني الرسمي والصريح بإسرائيل كدولة يهودية، وهو المطلب الذي ظهر للمرة الأولى سنة 2009 ويعتبره المواطنون اليوم عائقا مركزيا أمام التوصل إلى اتفاق سياسي. والواقع، أن هذا المطلب يفتقر إلى أية قيمة حقيقية، إذ لم يكن في أي يوم مضى عنصرا من عناصر الحوار والتفاوض بين الطرفين ولم يُعرض في إطار المفاوضات ثم اتفاقيتي السلام مع مصر والأردن. وعلى الرغم من هذا، فقد ترسخ هذا المطلب بصورة عميقة ومثيرة جدا في الوعي الإسرائيلي العام.

ومن بين النتائج الأخرى التي توضح جيدا موازين القوى الداخلية هي تلك الخاصة بموقف الجمهور كله، بوجه عام ـ من اليسار واليمين على حد سواء ـ حيال "عملية الجرف الصامد" (الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة من 8 تموز حتى 26 آب 2014). فمن جهة أولى، تقرّ غالبية الجمهور الإسرائيلي أن هذه الحرب لم تجلب أي تحسن في وضع إسرائيل الأمني. ومن جهة أخرى، ترى أغلبية كبيرة أنه على الرغم من عدم تحقيق هذه الحرب أهدافها فإن شنّها كان مجديا.

بكلمات أخرى، معنى هذا أنه حتى حينما يشن اليمين حملة عسكرية فاشلة لا تحقق أهدافها ويدرك الجمهور عدم جدواها، تخفق المعارضة في تأطير الحدث في خانة الفشل والإخفاق. وبدلا من ذلك تختار المعارضة توفير الدعم التام لأي من خطوات الحكومة ولا تضع أمامها أي تحدٍّ في السياق الأمني، حتى حيال الإخفاقات المدوية.

غير أنه إلى جانب هذا الوضع التعيس على الصعيدين الفكري والإعلامي، تُظهر نتائج الاستطلاع بعض الأسباب التي تدعو برأي معديـه إلى التفاؤل أيضاً.

أول هذه الأسباب أن الوضع الراهن ليس نتاج محاولة فاشلة إنما نتاج العجز وعدم الفعل. ويؤكد معدو الاستطلاع أنه إذا ما استطاع معارضو اليمين تشخيص وتحديد نقاط الضعف بدرجة عالية من الدقة، ثم شرعوا بالعمل على إصلاحها، سيكون بوسعهم تعزيز موقعهم كبديل جدي لتولي السلطة وإدارة شؤون الدولة. ولهذا الغرض ثمة بنية تحتية مهنية متوفرة تتمثل في عدد من المجموعات التي نشطت خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة قوامها قادة بارزون سابقون في الأجهزة الأمنية وقفوا أمام عدسات التصوير محذرين الجمهور من توجهات نتنياهو ونزعاته الأمنية المدمرة. لكن هؤلاء شدّدوا في الوقت نفسه على أن الموقف الجماهيري المتجذر غير قابل للتغيير في غضون أسبوعين في ذروة معركة انتخابية، بل يتطلب الأمر سيرورة عميقة وطويلة المدى يتعين أن تسبق انطلاق المعركة الانتخابية بوقت طويل جدا.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات