المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
تجويع الأسرى: "ضبط السعرات الحرارية وسيلة لإنتاج أجساد مطيعة". (وكالات)
  • تقارير، وثائق، تغطيات خاصة
  • 16
  • وليد حباس

منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، يشهد الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية تدهوراً حاداً في نوعية وكمية الطعام المقدم لهم، إلى درجة وصفتها المنظمات الحقوقية الإسرائيلية بأنها "تجويع ممنهج". أحد المعتقلين الإداريين في سجن النقب، على سبيل المثال، هبط وزنه من 130 كغم إلى نحو 60 كغم في شهور قليلة، فيما أفاد محامون بأنهم التقوا أسرى انخفض وزنهم إلى أقل من 49 كغم. لا تشير سياسات التجويع بحق الأسرى الفلسطينيين إلى مجرد ردة فعل انتقامية على هجوم 7 أكتوبر، وانما ترتقي إلى أداة لتفكيك الحركة الأسيرة تنظيمياً، إذ أن خفض كميات الطعام إلى ما دون الحاجات الفيزيولوجية يساهم في تفكك الجماعة، وينتج أفراداً منهكين، يغلبون "صراع البقاء" الفردي على النضال الجمعي، وبالتالي يسهل إخضاعهم سياسياً.

طعام الأسرى بعد 7 أكتوبر

منذ 7 أكتوبر شهدت أوضاع الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية تدهوراً حاداً. وتشير التقارير إلى أنّ آلاف الأسرى يعيشون في ظروف اتسمت بالجوع الشديد وسوء التغذية، بعد أن وضعت مصلحة السجون "قائمة طعام/ menu" جديدة مخصصة للسجون في حقبة ما بعد 7 أكتوبر، ولكنها فقيرة جدا. أدّى هذا التغيير في نوعية وكمية الطعام إلى فقدان وزن كبير لدى الأسرى، وظهور حالات ضعف جسدي شديد وإغماءات متكررة، الأمر الذي يعكس مستويات غير مسبوقة من التجويع الممنهج داخل السجون.

ما بات يطلق عليه داخل إسرائيل بـ "حمية بن غفير" تقوم على تقديم ما مقداره 2,300 سعرة حرارية يومياً للأسير الفلسطيني. وتشمل:

  1. الفطور: حتى 4.5 شرائح خبز + بيضة أو طحينة أو حمص + حبة بندورة أو خيارة.
  2. الغداء: 150–160 غرام كربوهيدرات + 100 غرام بروتين (حبوب، تونا، صدر دجاج، بيض) + خضار.
  3. العشاء: خبز + مادة للدهن (حمص/ طحينة/ لبنة) + خضار.

بيد أن هذه القائمة المعلنة بعد 7 أكتوبر تعاني من ثلاث إشكاليات: أولا، الإنسان الطبيعي يحتاج إلى أكثر من 2,500 سعرة حرارية يومياً. ثانيا، هذه القائمة موحدة، ولا تأخذ بالحسبان المرضى أو الأعمار الكبيرة والذين يحتاجون إلى قائمة طعام مختلفة. ثالثاً، وهذا هو الأهم، هو أن هذه القائمة هي "قائمة المعلن"، بينما أن الأسرى لا يحصلون على هذه التنوع من الطعام يومياً. وقد أشارت العديد من التقارير إلى الفجوة الكبيرة بين ما تعلنه إدارة السجون (وما تقدمه من تقارير إلى المحاكم أو المنظمات الدولية) وبين ما يحصل عليه الأسير فعليا.

صرّح العديد من الأسرى المفرج عنهم بأنهم واجهوا جوعاً دائماً وطعاماً سيئاً جداً منذ 7 أكتوبر. وقد وثقت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية هذه الشهادات بشكل علمي، وقدمت التماساً إلى المحكمة العليا تشير فيه إلى أن الأسرى في السجون يعانون من سوء تغذية حاد، جوع مستمر، فقدان وزن كبير، وحرمان من الحق في شراء الطعام من الكانتينا أو الطبخ الذاتي.

قرار المحكمة وتعنت مصلحة السجون

في نيسان 2024 تقدّمت جمعيتان حقوقيتان إسرائيليتان (جمعية حقوق المواطن ومنظمة "غيشاه") بالتماس إلى المحكمة العليا الإسرائيلية ضد وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ومصلحة السجون، متهمتَين إياهما بتخفيض حصص الطعام عمداً إلى مستويات تُلامس التجويع.

في 7 أيلول 2025 أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية حكماً يعتبر مثالاً فجّاً على كيفية تحويل تجويع منهجي إلى مجرد "خلل إداري". فرغم شهادات صادمة وردت في الالتماس، اختارت المحكمة أن تُفرغ سياسة التجويع الممنهج من معناها، مكتفية بعبارات ضبابية من قبيل: هناك "مؤشرات لا تضمن الكفاية..." أو "هناك "سياقات تثير الشك". بهذه اللغة، شطبت المحكمة مصطلح التجويع من القاموس القانوني، واستبدلته بتعابير مرنة لا تُحمّل الدولة أي مسؤولية. فبدل توصيف الواقع كجريمة ممنهجة، أعادت صياغته كقصور إداري يمكن إصلاحه عبر "تعزيز الرقابة"، من دون أي مساس بالسياسة التي خفّضت الطعام أصلاً إلى الحد الأدنى.

والأخطر أنّ المحكمة منحت شرعية صريحة للتمييز الغذائي بين الأسرى السياسيين الفلسطينيين والأسرى الجنائيين، معتبرة أنه "مسموح" أن يتلقى الأولون غذاءً أقل رداءة وكميّة، رغم أن القانون نفسه يفرض توفير تغذية كافية ومتساوية للجميع. لم تُسجّل المحكمة أي اعتراض جوهري على سياسة بن غفير، ولم تعتبرها انتهاكاً إنسانياً، بل تعاملت معها كسياسة أمنية مشروعة تستحق فقط بعض "الضبط".

هذا الجدل القانوني والسياسي يرافقه خطاب رسمي يربط التضييق على الأسرى بعمليات الثأر أو "العقاب الضروري" بعد 7 أكتوبر، بينما توثّق المنظمات الدولية والمحلية أن التجويع ليس حدثاً طارئاً أو ردّ فعل عاطفي، بل استمرار لسياسات سابقة جرى تكثيفها: تقليص زيارات الصليب الأحمر، زيادة العزل، منع الفواكه والخضار الطازجة، تقنين المياه الساخنة، والاعتماد على "التجويع البطيء" كأداة ضغط يومية.

التجويع كأداة لإعادة تشكيل السياسة داخل السجن

لا يبدو التجويع في السجون الإسرائيلية أداة عقابية، بل تكنولوجيا حكم تهدف إلى إعادة صياغة العلاقات داخل الحركة الأسيرة وتفكيك بنيتها السياسية والتنظيمية. فالسلطة العقابية في السجون الإسرائيلية في ظل ولاية بن غفير تتحول من الإيذاء الجسدي المباشر إلى التحكم اليومي في شروط الحياة: الطعام، النوم، الحركة، الرعاية الصحية. هنا يصبح ضبط السعرات الحرارية وسيلة لإنتاج "أجساد مطيعة"، تُقاد عبر الحرمان أكثر مما تُقاد عبر الضرب أو التعذيب المباشر.

فالأسرى الذين شكّلوا لعقود كتلة سياسية متماسكة تشمل تنظيمات، لجانا وظيفية، تعليما ذاتيا، إضرابات جماعية، يُدفعون اليوم إلى مستوى الاحتياجات الأولية، أي التفكير في الخبز. وفق هرم ماسلو، فإن إبقاء الأسرى في مستوى "الحاجات الفيزيولوجية" يراد منه إجبارهم على التخلي عن مستويات أعلى من الحياة الاجتماعية مثل الكرامة، التطوّر المعرفي، وصنع القرار الجماعي. يصبح الزمن داخل السجن زمناً غريزياً أذ تدفع إدارة السجون الإسرائيلية إلى تفكيك وحدة الحركة الأسيرة عبر دفع الأسير، كفرد، إلى الانشغال بأسئلة غريزية: كيف أجد سعرات إضافية؟ هل أشارك وجبتي مع الآخرين؟ من يسيطر على توزيع الطعام؟

الأخطر أن ندرة الغذاء تُنتج تدرجات اجتماعية جديدة داخل السجن. حين تُوزَّع الوجبات بشكل غير متساوٍ، أو تُستخدم كمكافأة على "حسن السلوك"، يصبح الطعام عملة سياسية، فيتقوّى الفرد على حساب الجماعة، ويتراجع الانضباط التنظيمي أمام حسابات النجاة الفردية. في هذا السياق، يعلمنا ميشيل فوكو بأن السجن ليس مكاناً لمعاقبة الجسد فقط، بل لإعادة تربيته. هنا يتم تحويل الطعام إلى أداة للضبط. هذه الإدارة الدقيقة للجسد تهدف لإنتاج ذات منهكة، مُنهارة، عاجزة عن التفكير السياسي. يصبح التجويع شكلاً من "تهذيب" الأسرى وإعادة إنتاجهم وفق معايير ورؤى جديدة تشرف عليها وزارة بن غفير.

فمنذ السابع من أكتوبر، يُعامل الأسير الفلسطيني بوصفه "حياة عارية"، حيث يُترك ليضعف ويمرض من دون أن يُقتل فعلياً. من هنا، تحولت سياسات التجويع والإطعام في السجون الإسرائيلية إلى جزء من مشروع متكامل لإعادة تشكيل السياسة داخل السجون، ولتحويل الحركة الأسيرة من كتلة سياسية فاعلة إلى أفراد متفككين يبحثون عن سعرات حرارية بدلاً من التفكير الجماعي.

الطعام أداة لإعادة توزيع موازين القوى بين الأسرى!

لا تتعلق سياسات التجويع داخل السجون الإسرائيلية فقط بكمية الطعام، وإنما جوهرها يقوم في أساليب توزيع الطعام داخل أقسام الأسرى. بعد أن حظرت إسرائيل التنظيمات السياسية داخل السجون، ومنعت وجود ممثلين للأسرى، أو هياكل تنظيمية تدير حياتهم الداخلية، تحولت كل غرفة داخل السجن إلى "وحدة" واحدة في تنافس مع باقي الغرف.  والتفاوت في توزيع الطعام داخل السجون الإسرائيلية، حيث يحصل الأقوى على أكثر مما خصّص له، ويستغل الموزعون موقعهم لاقتطاع جزء من الحصص، بينما يُترك الآخرون للجوع، ما هي إلى نتيجة مباشرة لسياسات التجويع التي تحول الغذاء إلى أداة لإعادة تشكيل السياسة الداخلية.

عندما يصبح الطعام مورداً نادراً، لا يعود مجرد حاجة بيولوجية، بل يتحوّل إلى رأس مال اجتماعي ينتج تفاوتاً في القوة، ويُعيد رسم حدود النفوذ والهيمنة بين الأسرى. بهذا المعنى، يتحول توزيع الطعام إلى بيئة تنافسية بالمفهوم الدارويني (البقاء للأقوى) ويتم استبدال التضامن بـ "الصراع الحيواني" على الطعام، وتتحول الاحتياجات الأساسية إلى محرك لانقسامات يومية. وما يجعل هذا الأمر جزءاً من استراتيجية أوسع هو الدور النشط لإدارة السجون ووحدات الاستخبارات في الإشراف على هذا النظام، ومراقبة ديناميات التوزيع، والتلاعب بها عند الحاجة. فبدل تصحيح الخلل، تُبقي الإدارة على هذا التفاوت لأنها تدرك أنه يُنتج بنية داخلية هشّة، ويُضعف التنظيم الجماعي، ويفرض على الأسرى الانشغال بالبقاء على حساب العمل السياسي.

وكخلاصة مؤلمة، تكشف سياسات التجويع بعد 7 أكتوبر عن تحوّل عميق في أدوات السيطرة داخل السجون الإسرائيلية، حيث بات الطعام (وليس الضرب أو العزل) هو الوسيط المركزي لإعادة هندسة علاقة السلطة السجنية بالأسرى. فخفض الحصص، وتوحيد القوائم، وترك الفجوة واسعة بين "قائمة الطعام المعلنة" وما يُقدم فعلياً، بالإضافة إلى نظام توزيع الطعام، كلها تؤسس لنظام يستهدف تفكيك الجماعة وتحويلها إلى أفراد متنافسين غارقين في صراع البقاء. وبشرعنة المحكمة لهذه السياسات، اكتمل انتقال التجويع من كونه خرقاً إنسانياً إلى كونه بنية حكم تُعيد تشكيل السياسة داخل السجن، وتحوّل الحركة الأسيرة من فاعل جماعي منظم إلى ذوات منهكة، يسهل إخضاعها والتحكم في مساراتها اليومية.

المصطلحات المستخدمة:

مصلحة السجون

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات