في أواسط شهر أيلول، اجتمعت في الكنيست لجنة الداخلية وحماية البيئة لكي تبحث موضوعاً ذا تسمية تحتاج إلى وقفة، إذ كانت "إقصاء المجتمع اليهودي من مناقصات سلطة أراضي إسرائيل في النقب والجليل". رئيس اللجنة عضو الكنيست إسحاق كرويزر قال مفتتحاً: "إننا نشهد إقصاءً للمجتمع اليهودي من المناطق القروية والحضرية، ونحن ملتزمون بتغيير الواقع. لن نتراجع حتى نشهد تغييراً حقيقياً".
هذا التوصيف جاء كطلقة للبدء بسلسلة من الادعاءات التي تصوّر المواطنين اليهود في دور ضحية المميّز ضدهم فيما العرب أصحاب امتياز وحظوة. هذا علماً بأنه يكفي متابعة الجاري يومياً في مجال الأرض والتخطيط والسكن في النقب خصوصا حتى يصبح كل هذا البحث البرلماني الرفيع في ضوء مختلف تماماً. مثال أخير: هدمت السلطات الإسرائيلية نحو 40 منزلاً في قرية "السر" غير المعترف بها رسمياً. وهذا بعد أسبوع واحد فقط من هدم نحو 30 منزلاً في القرية نفسها.
لجنة الداخلية وحماية البيئة أقرت بنفسها أن جلستها كانت "صاخبة". ووصفت كيف أن رئيس اللجنة كرويزر، من حزب "عوتسما يهوديت" بزعامة الوزير إيتمار بن غفير، هاجم بشدة هيئات التخطيط في البلاد، زاعماً أنها تقوم بإجراء ما لم يتردد في تسميته "ترانسفير هادئ" يمنع اليهود من الاستيطان في النقب والجليل. وأشار إلى ظاهرتين رئيستين، تشكلان على حد قوله دليلا على "الإقصاء الممنهج لليهود".
وفقاً لكروزير فإن سلطة أراضي إسرائيل تقوم بتسويق الأراضي في البلدات العربية "للسكان المحليين" فقط، مما يُقصي اليهود من المنافسة على تلك الأراضي. وفي المقابل، ففي المناقصات المخصصة للتجمعات اليهودية، يُخصّص جزء صغير من المناقصة للسكان المحليين، بينما تُتاح بقية الأراضي للجميع. وقال كرويزر: "هذا الواقع يُولّد تمييزاً صارخاً"!
"استغراب" من فارق أسعار الأرض بين أغنى البلدات وأفقرها!
رئيس اللجنة حاول الظهور بمظهر المذهول من أن الفوارق كبيرة في أسعار الأراضي بين البلدات اليهودية وبين البلدات العربية المجاورة، ورأى أنها تُميّز بين اليهود والعرب، معلقاً: "كيف يُعقل أن تكلف الأراضي في عومر أسعاراً معينة، بينما تكون أسعار الأراضي في حورة واللقية المجاورتين أرخص بمئات الآلاف؟ معنى ذلك هو الترانسفير والإقصاء لليهود تحت رعاية هيئات التخطيط التابعة للدولة، وقد حان الوقت لتغيير ذلك".
لم يأخذ بالاعتبار بالمرة طبعاً أن أسعار الاراضي تختلف بين عومر الغنية القوية اقتصاديا وبين بلدة يهودية أفقر منها أيضا، وليس فقط عربية، في الأطراف الشمالية أو الجنوبية. فأفضل التكتيكات لتشويه الوقائع هو استلال ما يروق للزعم مما في الواقع وتجاهل سائر الصورة الكبرى. لذا يجدر التوقف لإجراء مقارنة:
بلدة عومر تقع في العنقود التاسع المرتفع الاجتماعي – الاقتصادي (حسب التصنيف الاجتماعي الاقتصادي لمكتب الإحصاء الإسرائيلي) بينما تقع بلدة اللقية في العنقود الأول، في القاع. ماذا يعني هذا بالأرقام من حيث القوة الاقتصادية والفقر؟ مكتب الإحصاء المركزي يصنّف البلدات في سلّم اجتماعي– اقتصادي من 1 إلى 10: حيث أن البلدات في الدرجة رقم واحد أكثر فقرا وذات مستويات تعليم منخفضة وبطالة مرتفعة، وبنى تحتية ضعيفة. أما الأعلى أي رقم 10 فهي بلدات غنية جداً، مع دخل مرتفع، تعليم عالٍ، بطالة شبه معدومة وخدمات متقدمة.
عومر (العنقود 9) تعتبر من بين أغنى 10% من البلدات في إسرائيل، بينما اللقية (العنقود 1) من بين أفقر 10% من البلدات في إسرائيل. أي بعبارة أخرى: عومر تمثل قمة الهرم الاقتصادي (قريبة من بلدات مثل سافيون وقيسارية). واللقية تمثل قاعدة الهرم الاقتصادي (مع بلدات عربية، وعربية بدوية أخرى في النقب).
كذلك، ففي العام 2021، بلغ الراتب المتوسط الشهري للموظف في عومر حوالي 18,024 شيكل؛ في التصنيف الاجتماعي - الاقتصادي للعام 2021، حصلت عومر على 9 من 10 في مقياس الرفاه الاجتماعي-الاقتصادي؛ في تصنيف البلديات من ناحية "القوة المالية" (مدى قدرة البلدية على إدارة مواردها)، عومر تظهر في القائمة كبلدية قوية في التصنيفات المالية. بينما في اللقية بالكاد يصل متوسط الدخل الشهري للرجال 6,772 شيكلا، وللنساء: 4,668 شيكلا. نسبة الفقر في اللقية تُقدّر بحوالي 50% من العائلات وفق تقرير من السنوات الأخيرة لمؤسسة التأمين الوطني.
لا يتردد اليمين العنصري في إدارة ظهره، مؤقتاً، لعقائده في الاقتصاد والسوق الحرة وما تفرضه من أسعار وقيم مادية، حين يكون الهدف استهداف أقلية منكوبة بالعنصرية. فجأة تغيّب كل الحمولة للتصويب على من يحدّد كعدو.
رئيس اللجنة كرويزر المستغرب من فارق أسعار الأراضي في موقعين بفارق 9 عناقيد اقتصادية، واصل إطلاق انتقاداته، حيث هاجم وزارتي الإسكان والداخلية، وقال إن الأحزاب الحريدية التي شغلت هاتين الوزارتين لسنوات "سمحت بحدوث هذا الفشل". وفي ختام كلامه، دعا هيئات التخطيط إلى تغيير سياساتها فوراً "لضمان استيطان جميع مواطني الدولة على قدم المساواة في النقب والجليل"، مهدداً بأنه ينوي مواصلة متابعة الموضوع حتى إيجاد حل مناسب لهذه المشكلة، التي بحسب رأيه "تلحق الضرر بالنسيج الاجتماعي والمتانة الوطنية لدولة إسرائيل"، مضيفا بديماغوغية: "نحن في معركة جماعية من أجل آخر يهودي يُطفئ النور في الجليل".
محو تام "للخط الأخضر" وما يعنيه حتى وفقا للقانون الإسرائيلي
سادت الجلسة أجواء أكثر عبثية مما سلف حيث جرى النقاش وكأنه ليس هناك حدود يقرّها القانون الإسرائيلي نفسه، وليس الدولي فقط، بين حدود إسرائيل المعترف بها دولياً، وبين المناطق الفلسطينية المحتلة العام 67 ومنها الضفة الغربية والقدس الشرقية. وهكذا فقد أدلى عضو الكنيست أريئيل كالنير بدلوه المليء بالاستغراب، كسابقه، قائلا إنه في "بنيامين ويهودا والسامرة يتم إنشاء بلدات بشكل عام، ولكن في النقب والجليل لا يتم إنشاء بلدات منذ عقود، على الرغم من أن الجليل والنقب يتمتعان بمزيد من الإجماع مقارنة بيهودا والسامرة". وهو ما لا يستند لأي واقع طبعا، ناهيك عن أن ما يبنى في الضفة والقدس هي مستوطنات وليست بلدات عادية. لكن هذه فروق قابلة للإلغاء طبعا لدى تيار التوسّع بلا حدود.
يوناتان أحِيا، المدير العام لمنظمة "أرتسينو"، التي تعرف نفسها كناشطة في مجال الاستيطان داخل إسرائيل، قال إن الاستيطان اليهودي في الجليل هو "الجبهة الثامنة لدولة إسرائيل"، قاصداً جبهات الحرب طبعاً، وإن الجليل "أرض محتلة من قبل الحركة الإسلامية، وقد حان الوقت للدولة والوزارات لأن تستيقظ". فيما قالت يونا أدموني، من حركة "ريغافيم" الشبيهة بسابقتها من حيث نشاطها وأهدافها، إن "خطط زيادة عرض الشقق تُشرّع البناء غير القانوني في تجمعات الأقليات" على حد مفرداتها. وأشارت إلى أنه "في الواقع، هناك 42 خطة لزيادة معروض الشقق في الشمال، معظمها في تجمعات الأقليات".
وادّعت من تم تعريفها في هذه الاحتفالية الاستيطانية على أنها الناشطة الاجتماعية أوسنات زوهر، أن المناقصات المخصصة لجنود الاحتياط غير كافية: "هذا عدد سخيف من قطع الأراضي وبأسعار مستحيلة - في موشاف دور، تم الإعلان عن مناقصة لمعاقي جيش الدفاع الإسرائيلي مقابل 5 ملايين شيكل لكل نصف دونم، وفي بوريا عيليت، 1.2 مليون شيكل ناهيك عن ضريبة القيمة المضافة ونفقات التطوير". ووفقا لها فإن هذا يُقارن بأسعار قطع الأراضي في البلدات العربية التي تُسوَّق بسعر 80 ألف شيكل لنصف دونم في وادي الحمام، و44 ألف شيكل في البعينة نجيدات وأخرى". وكجميع من سبقها في حالة الاستغراب، فقد استغربت هي بدورها قائلة: "هل تُدركون أننا نخسر مساحات كاملة من الأرض؟ هذا تمييز ضد الجيل اليهودي الشاب".
يغئال مالكا، من جمعية "الأغلبية اليهودية"، والمكتوب يُقرأ من عنوانه، أشار إلى البلدات على الخريطة، وقال: "لم يتبق لليهود مكان يعيشون فيه اليوم. ثمانية ملايين يهودي يناضلون من أجل ثلث البلاد، بينما يستطيع مليون عربي العيش حيثما يشاؤون. لا يستطيع اليهودي الترشح لمناقصة بقيمة 130 ألف شيكل في رهط. أما البدوي الذي ليس من المؤكد أنه يخدم في الجيش، فيحصل على سعر أقل بنسبة 10% من جاره اليهودي في ليهافيم والذي يخدم في الاحتياط".
خطة حكومية متشعبة ذات نبرة "تأديبية" للعرب في النقب
في رده على هذه المزاعم، أوضح غيل بالولو، المخمن الرئيسي الحكومي، أنه يتحمل مسؤولية تخمين قيمة الأراضي المُحدَّدة. وقال: "عندما نُقَيِّم، نعكِس قيمة الأرض. نفحص المعاملات باستخدام أدوات احترافية ونُحدِّد قيمة الأرض. جميع التقييمات تخضع للمراجعة، ويمكن الحصول على هذه التقييمات. في غوش مسغاف، تتراوح أسعار الأراضي بين 3.5 و4.5 مليون شيكل، وتُحدَّد قيمة الأرض بناءً على ذلك. وفي حورة وتل السبع، تم إجراء مناقصات، ولكن ليس بناءً على تقييم".
وقالت ياعيل الحرار من مكتب رئيس الحكومة إنها لا تستطيع التعليق على ما تم تحديده خلال ولاية يوسي شيلي (مدير عام مكتب رئيس الحكومة سابقا)، وأن المكتب يعمل حاليا على صياغة خطوات سياسية للمستقبل. فيما أوضحت هيلا بلوترايخ، مديرة لواء الشمال في سلطة أراضي إسرائيل، أن سلطة أراضي إسرائيل تعمل بشكل عام على تنفيذ قرار حكومي بشأن المناطق ذات الأولوية وقرار حكومي بشأن تفضيل جنود الاحتياط. وأضافت: "لا يوجد أي اتفاق في مناطقنا لا يتم تنفيذه وفقاً لهذه القرارات". كما أشارت إلى أنه سيتم قريباً "إطلاق مناقصة تتضمن 700 وحدة سكنية لجنود الاحتياط في لواء الشمال".
هذه التوجهات التي تتفوق فيها التشويهات على الاستغرابات، تتزامن مع خطة حكومية جديدة تستهدف عرب النقب تحديداً، تحت مسمى: "تشكيل فرق وزارية وبناء خطة لمواجهة التحديات مع المجتمع البدوي في النقب"، استمراراً لقرارات عدة سابقة أصدرتها الحكومة، ومما تنص عليه في مقدمتها، حرفياً:
تشكيل فرق وزارية تقوم بتقديم توصيات لخطط عمل في مجالات اختصاصها. التوصيات ستُرفع لكل من الوزارات المشتركة، وستشمل أهدافاً، خطوات، مؤشرات نتائج، ميزانيات متوقعة، وآليات متابعة للتنفيذ.
فرق لفحص الروابط بين المجتمع البدوي في النقب وبين يهودا والسامرة وقطاع غزة، وسيرورة الفلسطنة.
فريق وزاري يُعنى بإعداد خطة للتعامل مع التحديات الناجمة عن العلاقات بين البدو في النقب والمجتمع الفلسطيني بشكل أوسع، بما في ذلك:
-
ظاهرة تعدد الزوجات في أوساط فلسطينيي النقب؛
-
البناء غير المرخّص في البلدات البدوية (بما فيها "غير المعترف بها")؛
-
التحوّل المتزايد للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية لسكان النقب البدو مع سكان الضفة الغربية وقطاع غزة؛
-
التعاون بين منظمات إسلامية فلسطينية وسكان بدو في النقب؛
-
محاولات جهات معادية لإسرائيل عبر بنى تحتية فلسطينية رسمية وغير رسمية لاستغلال المجتمع البدوي في النقب؛
-
أنماط النشاط الإجرامي والجنائي المتقاطعة مع البنى التحتية الفلسطينية.
هذه الخطة الرسمية التي تشارك فيها شبكة واسعة من أعلى هرم السلطة، تبدو كما لو أنها تمثل السقف الجديد الذي تتفاعل تحته أذرع اليمين الاستيطاني على جانبي الحدود، وسيتم استعراضها بشكل واسع في حلقة ثانية ذات صلة بهذا التقرير.
المصطلحات المستخدمة:
التأمين الوطني, لجنة الداخلية وحماية البيئة, جيش الدفاع الإسرائيلي, الكنيست, رئيس الحكومة