المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

أصبح "الخط الأخضر" حدا فاصلا أساسيا يستخدم في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. لقد أدى القبول بهذا المصطلح إلى نتائج سياسية خطيرة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أهمها أنه حطم الإطار القانوني الدولي لخطة التقسيم ورسّخ قبولا فلسطينيا لحدود تم إيجادها من خلال الأعمال المسلحة. ولا يسمح القانون الدولي بالاستيلاء على الأرض بالقوة، وهذا مبدأ ورد مرارا في عديد من قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالمشكلة الفلسطينية.

بقلم إيهاب أبو غوش
من أجل فهم حقيقي لطبيعة "الخط الأخضر" في السياسة المعاصرة وفي سياق قانوني لا بد للمرء أولا من الانغماس قليلا في استذكار تاريخي.

في عام 1949 دخلت دولة إسرائيل الأمم المتحدة شرط قبولها قراري الأمم المتحدة 181 و194. لقد منح القرار 181، خطة الأمم المتحدة للتقسيم في عام 1947، قد منح الدولة اليهودية التي سيتم بمقتضاه إنشاؤها 57% من الأرض (رغم أن اليهود آنذاك كانوا يشكلون 33% فقط من سكان فلسطين) وعندما عارضت الدول العربية تقسيم الأرض، التي كانوا يعتبرونها ملكا لهم وحدهم، بدأت حرب عام 1948.

في أعقاب تلك الحرب أصبحت الميلشيا الصهيونية مسيطرة على رقعة توسعت وامتدت لتبلغ 77% من الأرض، وشرد مئات آلاف اللاجئين الفلسطينيين من ديارهم. والـ 23% الباقية من فلسطين الانتدابية أصبحت تحت سيطرة مصر والأردن. خطوط الهدنة هذه هي ما نشير إليه اليوم بـ"الخط الأخضر". ليس هناك في القانون الدولي ما يشير إلى هذا الحد على أنه خط حدودي ("خط أزرق")، فقد رسم الخط الأخضر في اتفاقات رودس 1949 بوصفه خط هدنة بين إسرائيل والدول العربية.

مع ذلك فقد أصبح "الخط الأخضر" حدا فاصلا أساسيا يستخدم في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. لقد أدى القبول بهذا المصطلح إلى نتائج سياسية خطيرة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، أهمها أنه حطم الإطار القانوني الدولي لخطة التقسيم ورسّخ قبولا فلسطينيا لحدود تم إيجادها من خلال الأعمال المسلحة. ولا يسمح القانون الدولي بالاستيلاء على الأرض بالقوة، وهذا مبدأ ورد مرارا في عديد من قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالمشكلة الفلسطينية.

أنظر مثلا في اتفاقات السلام بين إسرائيل والدولتين العربيتين الأخريين: الاتفاقات بين مصر وإسرائيل في عام 1979، وبين الأردن وإسرائيل عام 1994 كانت تستند إلى "الخط الأزرق"، وهو الحدود بين فلسطين التاريخية الانتدابية وبين كل من تينك الدولتين العربيتين المجاورتين. وحتى انسحاب إسرائيل من لبنان عام 2000 فقد تحقق إلى حد كبير وفق قرار مجلس الأمن 425 المستند أيضا إلى حدود دولية "زرقاء".

وللمقارنة فإن اتفاقات أوسلو لعام 1993 دعت إلى انسحاب إسرائيلي على مراحل من المراكز السكانية في الأراضي التي احتلت عام 1967 وهي التي يحدها "الخط الأخضر". ثمة وثيقة واحدة فقط في القانون الدولي تضع "حدودا زرقاء" للدولتين اليهودية والفلسطينية وهذه هي القرار 181 ، ولم يعد لذلك التحديد أي نفع بسبب القبول بتغليب "الخطوط الخضراء" لعام 1967 على تلك الحدود. ليس صعبا أن ندرك أن القبول بخط أخضر مرن، جعل متوقعا من الفلسطينيين الآن أن يكونوا طيعين بشأن تعديلات إضافية يتم إدخالها على "الخط الأخضر" نفسه.

الموقف الفلسطيني الرسمي، كما نصت عليه منظمة التحرير، يبدأ بقبول "التنازل التاريخي" بإقامة دولة على 22 بالمئة من فلسطين الانتدابية، أي بحسب "الخط الأخضر". هذا الموقف لا يدعمه القانون الدولي، ولا قرارات الأمم المتحدة ذات العلاقة، ولا المنطق. كما أن بذل هذا النوع من التنازلات قبل بدء المفاوضات ليس في صالح أي طرف يقوم بالتفاوض نيابة عن شعبه.

نعم لقد حافظت المفاوضات مظهريا على شبه علاقة تربطها بالقانون الدولي. فإعلان المبادئ في 1991 يحتوي على إشارات غامضة إلى قراري مجلس الأمن 242 و 338 الأمر الذي استعمل لتقوية الضعف المتأصل في إعلان المبادئ. وكلا ذينك القرارين ينص فقط على أن الاستيلاء على الأرض بالقوة غير مقبول وعلى أن للدول الحق في الوجود ضمن حدود آمنة ومعترف بها. كان على الفلسطينيين ألا يقبلوا أبدا أن ينطبق المبدأ الأول على حدود الخامس من حزيران/يونيو 1967 فقط. (كما أن المبدأ الثاني لا يخدمنا إذ لم يكن للفلسطينيين قط دولة). الاستيلاء على الأرض بالقوة غير مقبول بحسب مبادئ القانون الدولي، وفي كل حين. قد ذقنا على مدى السنوات القليلة الماضية ثمار هذه الشجرة السامة التي تضرب بجذورها عميقا في اتفاقات أوسلو.

إن نتائج هذه المواقف الرسمية الفلسطينية واضحة للعيان. ومن بينها رفض إسرائيل التام قبول فكرة حدود الخامس من حزيران/يونيو 1967 (فهي مجرد "خط أخضر"). وترفض إسرائيل أيضا الاعتراف بالمبادئ التي يقوم عليها قرار الأمم المتحدة 194 ، التي تؤكد حق العودة أو التعويض للاجئين الفلسطينيين (وهذا القرار بالتحديد كان أحد القرارين اللذين كان يجب على إسرائيل قبولهما قبل الانضمام للأمم المتحدة). ولأن القرار الثاني، 181، تم إفراغه من كل معنى فإن المسائل الحيوية فعلا فيما يخص القضية الفلسطينية أصبحت رهنا بمبدأ إحداث التغييرات لتلائم الأمر الواقع ثم تحويلها إلى مبادئ وإلباسها لباس الشرعية. على المرء فقط أن ينظر في سير الأحداث على مدى الخمسين سنة الماضية ليرى أن قاعدة الأمر الواقع هذه هي التي تحكم الفهم الإسرائيلي فيما يتعلق باللاجئين وبالمستوطنات وباستقلال الفلسطينيين في دولة.

بعيدا عن سياق القانون الدولي ترك للمفاوضين أن يتوصلوا إلى صفقة تستند إلى ثمار الفعل العسكري والقوة. "الخط الأخضر" ليس ملموسا، ولا موثقا ولا أساس له ألبتّة في القانون الدولي. وعلى هذا فإن استخدامه مرجعية هو في مصلحة إسرائيل لأن هذا يخلق سابقة لاستبدال مبادئ القانون الدولي. وعلى هذا فإن استخدامه مرجعية هو في مصلحة إسرائيل لأن هذا يخلق سابقة للاستبدال بمبادئ القانون الدولي والاستعاضة عنها باتفاقات تم التوقيع عليها تحت الإكراه.

والأسوأ من ذلك أن هذا يؤدي إلى وضع يتحير فيه المرء بين المطالبة بالتطبيق الكامل والحرفي لقرارات الأمم المتحدة وبين إسقاط هذه القرارات تماما من الاعتبار. وإذا كانت هذه خياراتنا فإن ذلك سيؤدي إلى اشتباكات الآن وفي المستقبل.

وإذ وصلنا إلى هذه النقطة الصعبة، يبدو أنه آن الأوان لتذكر أن قرارات الأمم المتحدة ومبادئ القانون الدولي إنما أرسيت لحل النزاعات وتخفيفها. وهذه المبادئ ما زالت تحمل في طياتها الحلول لمعالجة ما ارتكب بحق الفلسطينيين على كرّ السنين، وهي حلول لا تؤدي إلى تجاهل حقائق الوضع الحاضر. واستنادا إلى هذه المبادئ يمكن للمرء إيجاد حلول للبؤس والآلام التي لحقت باللاجئين الفلسطينيين، وحلول تتعلق بالقدس وبمشكلة المستوطنات. المهم هو إصلاح الخطأ وليس إلباسه ثوب الشرعية.

إذا نظرنا إلى تجربة جنوب إفريقيا فإننا سنجد أن مشكلات بحجم ما هو موجود عندنا تم إصلاحها بعد إزالة نظام الفصل العنصري. تلك الحلول لم تؤد لا إلى إرغام الأفارقة من أصحاب الأرض الأصليين على قبول ما لحق بهم من حيف على مدى مئات السنين ولا إلى إزالة وإبعاد الوجود الاستعماري الأبيض أو الاقتصاد الذي بناه في البلاد. هذا يجسد المبدأ القانوني بشأن "إعادة الوضع السابق"، وفكرة أن المرء لن يستطيع إعادة عقارب الساعة إلى الوراء لإزالة ظلم وقع، ولكن في وسع المرء أن يحدد المسؤولية عن هذا الظلم ويقوم بعملية "إعادة الوضع السابق" لإزالة هذا الظلم.

* إيهاب أبو غوش محام في رام الله.

المصطلحات المستخدمة:

الخط الأخضر, الصهيونية, حق العودة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات