المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

يبدو أن إسرائيل حسمت أمرها تماماً لجهة حثّ الانفصال عن الفلسطينيين، وفق خطة "الانطواء" (أو الانسحاب الأحادي)، فقد تم الانتهاء تقريباً من تشكيل الائتلاف الحكومي، الذي أقلع بأربعة أحزاب (كديما والعمل وشاس والمتقاعدون)، بعد التوافق على الخطوط العامة لسياسة الحكومة المقبلة، وضمنها خطة إيهود أولمرت للانسحاب الأحادي من الضفة.

كذلك فقد قرّرت الحكومة الإسرائيلية (يوم 30/4)، الإسراع ببناء الجدار الفاصل في الضفة الغربية (وضمنها القدس)، بعد إدخال تعديلات على بعض مساراته، تجعله أقرب للخط الأخضر، بهدف تقليص حجم الأراضي الفلسطينية التي سيبتلعها هذا الجدار، وتقليص أعداد الفلسطينيين الذين سيبقون داخله، وتلافي المشكلات القانونية والديمغرافية والدولية الناجمة عنه، في محاولة من إسرائيل لجعل هذا الجدار بمثابة خط حدودي، معترف به من الأسرة الدولية.

وعلى الصعيد الخارجي يتهيأ ايهود أولمرت رئيس الحكومة الإسرائيلية، وزعيم حزب كديما، لزيارة واشنطن، واللقاء مع الرئيس بوش وأركان إدارته (في أواخر هذا الشهر)، بهدف إقناع الولايات المتحدة بدعم خطته السياسية للانفصال عن الفلسطينيين، وانتزاع موافقتها على اعتبار خط الجدار الفاصل بمثابة ترسيم للحدود معهم.

من ذلك يمكن الاستنتاج بأن خطة الانفصال أو فكّ الارتباط أو الانسحاب الأحادي باتت بمثابة المحور الأساس للتوجّهات السياسية لحكومة إسرائيل في المرحلة المقبلة. بل إنه ثمة تسريبات صحافية تفيد بأن حكومة إسرائيل مستعجلة في تطبيق الخطة، لإنجازها في فترة ولاية الرئيس جورج بوش (نهاية 2008)، برضا الفلسطينيين أو غصباً عنهم؛ على أساس أن الظروف الراهنة، هي أنسب وضع يمكن أن تذهب به إسرائيل في اتجاه الفصل الأحادي. وكان أولمرت صرّح بأن خطة الانطواء ستستكمل في غضون سنة ونصف السنة. وأن إسرائيل من خلالها "ستغيّر وجه المنطقة..أنا لن أفوّت الفرصة" (معاريف، 15/4). ويرى د. يورام تروبوفيتش، المرشح لمنصب رئيس مكتب اولمرت: "يجب بلورة خطة الانطواء حتى نوفمبر 2008.. لدينا جدول زمني قصير جدا، وذلك لأننا معنيون بتأييد الإدارة الأميركية والرئيس بوش" (يديعوت أحرونوت، 8/4).

وتتوخّى إسرائيل من هذه الخطة ترسيم حدودها الشرقية، والتخلّص من ما تسميه "الخطر الديمغرافي"، والحفاظ على طابعها كدولة يهودية، عبر الانفصال عن الفلسطينيين (نحن هنا وهم هناك)، مع الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية في أجزاء من أراضي الضفة (خصوصا محيط القدس)، وإبقاء منطقة الغور تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، وضمان حقّها بالردّ على أية هجمات تتعرض لها مستقبلاً. وباختصار فإن هذا البرنامج يتأسّس على التخلّص من غالبية الفلسطينيين في الضفة الغربية، مع الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبيرة فيها، ما يعني الاحتفاظ بأجزاء واسعة من أراضي الفلسطينيين، لا سيما في محيط القدس.

أما المغزى السياسي من وراء هذه الخطة، فيمكن تلخيصه في أن إسرائيل وجدت في خيار "الانطواء"، أو الانسحاب من طرف واحد من أجزاء من الأراضي الفلسطينية، ضمانة لها، ليس فقط للحفاظ على طابعها كدولة يهودية، والتخلّص مما تسميه "الخطر الديمغرافي" (كما قدمنا)، وإنما للتخلّص، أيضا، من وقائع احتمال تحوّلها لدولة "ثنائية القومية" (مستقبلاً)، وصدّ الشبهات التي تثار حول وضعها كدولة استعمارية محتلة، وكدولة تمارس التمييز العنصري("الأبارتهايد")، وكدولة مطعون في صدقية نظامها الديمقراطي (إزاء تعاملها مع الفلسطينيين)، وهذه مسائل على غاية في الأهمية.

وهنا ينبغي لفت الانتباه إلى مخاطر الحل الأحادي على مستقبل القضية الفلسطينية، والصراع العربي ـ الإسرائيلي عموماً، فهذا الحلّ سيشكل، من وجهة نظر إسرائيل، مخرجاً لها من معظم مداخلات الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وسيمكّنها من الادعاء بأنها انسحبت من معظم الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، وأنها لم تعد تسيطر على حياة غالبية الفلسطينيين، وأنها لم تعد معنية بهم، ولا تتحمّل أية مسؤولية عنهم.

وبديهي أن إسرائيل في ظل وضع كهذا ستضع مختلف الأطراف، في وضع حرج، من دون أن تكون انسحبت عمليا من كامل الأراضي العربية المحتلة، ومن دون أن تكون استجابت تماماً للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.

وفي الحقيقة فإن الفلسطينيين تحديداً، جرّاء تطبيقات هذه الخطّة، سيجدون أنفسهم في وضع جدّ حرج ومعقّد، إذ أن إسرائيل ستحتفظ بأجزاء من أراضيهم، وستتخلّص من عبء السيطرة على غالبيتهم العظمى وستجعلهم "يقلعون شوكهم بأيديهم" في كافة المجالات. وبالتالي ففي ظلّ وضع كهذا لن يكون ثمة مجال للفلسطينيين للاحتكاك بإسرائيل، للتخلص من احتلالها، بالانتفاضة أو بالمقاومة، أو باتهامها بالمسؤولية عن تردّي أوضاعهم. وبالمقابل لن يكون ثمة مجال لإسرائيل لممارسة احتلالها وسيطرتها على الفلسطينيين وتمييزها ضدهم. ولا شكّ أن هذا التحوّل الإسرائيلي سيصعّب من كفاح الفلسطينيين، ويضعف من صدقيّة قضيتهم على الصعيد الدولي.

مع كل ذلك فقد أكدت التجربة بأن الصراع ضد إسرائيل سيتواصل، بشكل أو بآخر، ولكنّ الشكل الأبرز له ربما يتجلّى حينها بالعمليات الفدائية (الاستشهادية)، في المدن الإسرائيلية، أو القصف بالصورايخ، للمناطق المتاخمة للتجمعات الفلسطينية. وفي هذه الحال سيبدو الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بنظر العالم، وكأنه صراع بين كيانين وشعبين، وليس بين دولة محتلة وشعب يخضع للاحتلال، بحكم وجود السلطة وانفصال الفلسطينيين في كيان مستقل، وذلك على الرغم من بقاء خلافات حدودية، سيطلب من الطرفين المعنيين حلها بالمفاوضات. والنتيجة فإن أي هجوم قد تتعرض له إسرائيل ستردّ عليه بأعنف ما يمكن، وستظهر نفسها أمام العالم وكأنها دولة "ضحية" لاعتداءات الفلسطينيين، وأن السلطة الفلسطينية هي التي تتحمّل مسؤولية هذه الأعمال!

بهذا المعنى فإن قيام كيان فلسطيني مستقل، ولو محاصر ومقطع الأوصال ويفتقر لمقومات السيادة (أكان على شكل كيان أو دولة أو إمبراطورية بحسب تعبير لشارون)، سيحرّر إسرائيل من مسؤولياتها كدولة محتلة، ويجنّبها تبعات السيطرة على حياة الفلسطينيين، برميهم خلف الجدار، ما يضمن عدم إثارة الشبهات حول ممارستها التمييز العنصري ضد الفلسطينيين في الأراضي المحتلة. وبنفس الوقت فإن وجود سلطة فلسطينية، أو كيان فلسطيني، سيجعل هذه السلطة وهذا الكيان بنظر العالم مسؤولاً عن الهجمات التي قد تتعرّض لها إسرائيل، ما يضفي على الاعتداءات الإسرائيلية على هذا الكيان صبغة الدفاع عن النفس، من وجهة النظر الإسرائيلية، بعد أن تخلّصت إسرائيل من عبء الاحتلال والسيطرة على حياة الفلسطينيين.

ويستنتج من ذلك بأن إسرائيل بعد انسحابها المفترض من الضفة (بحسب الخطة)، ووفق المناخات الدولية والإقليمية التي ستنجم عنه، ستكون في وضع أحسن حالاً، في بيئتها السياسية والبشرية والأمنية، وبالنسبة لصورتها الخارجية. ولا شك أن هذا الأمر سيصعّب من كفاح الفلسطينيين، وهذا ما تأمل به إسرائيل، وهو ما ينبغي إدراكه والعمل على تداركه، فلسطينياً وعربياً ودولياً.

على ضوء ذلك ربما أنه ما زال ثمة فرصة لتفويت الحل الأحادي، من خلال إعادة تعويم مبادرة السلام العربية، ودفع حكومة حماس لإبداء بعض المرونة، والدعوة لعقد مؤتمر دولي جديد للسلام. وعلى الرغم من أنه يخشى أن الزمن فات على هكذا توجهات، إلا أنها على الأقل يمكن أن تحرج إسرائيل، ومعها الإدارة الأميركية، ويمكن أن تعطي نوعاً من الحراك للسياسة العربية.

المصطلحات المستخدمة:

كديما, رئيس الحكومة, يديعوت أحرونوت

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات