المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كما هي الحال في أيام كانون كان يوم الجولة الأخيرة ماطرا لكن "جمعية الدفاع عن حقوق المهجرين داخل إسرائيل" أصرت على انجاز جولتها نصف الشهرية في القرى المهدمة ضمن برنامج متكامل على مدار العام. هذه المرة كانت الجولة مخصصة لزيارة بعض قرى منطقة الشفى التي اكتسبت هذا الاسم كونها تقع على شفة الغور الغربية (بين قضائي بيسان وطبريا)، قرية سيرين واخواتها عولم والحدثة ومعذر وسارونة وغيرها من القرى وبعضها مغربية سكنها احفاد الامير عبد القادر الجزائري في القرن التاسع عشر. الغيوم تتسارع في الجو والريح باردة تنذر بالمزيد من ماء السماء لكن المرشد المشرف جميل عرفات، ابو رياض، لم ير في تلك الساعة سوى الهدف الذي بات بالنسبة له اشبه بالعبادة.. فشجع المشاركين على الاتكال على الله والانطلاق بلهجته الابوية الدافئة والواثقة لافتا: "نحن على موعد مع "سيرين" فلا تخذلوها.. فهي دائمة الشكوى من قلة زائريها رغم فتنة جمال طبيعتها وعذوبة مياه ينابيعها..". وكان اللقاء الموعود مع سيرين التي شكلت الخط الفاصل بين قضائي طبريا وبيسان وتتبع القضاء الاخير. تقع هذه القرية المهدمة في هضبة كوكب الهوا (يفصل بينها وبين قرية كوكب من الجنوب وادي البيرة) وهي أكبر قرى قضاء بيسان والى الغرب منها يبرز جبل الطور بكبريائه وسط المروج. قبل ان يزلزلها زلزال 48 بلغ تعداد سكانها نحو الف نسمة فيما بلغت مساحة اراضيها 28445 دونمًا. وورد أن التسمية جاءت من "سير" الآرامية بمعنى القمة او "الرأس" وفي مصدر آخر ورد أن التسمية جاءت على اسم "سيرين" اخت ماريا القبطية فيما ذكرها ياقوت الحموي في كتابه "معجم البلدان" ببعض ابيات الشعر:

اقول لعمرو وهو يحكي عن الصبا.... ونحن بأعلى السيرين نسير

انطلقت الحافلة ومعها انطلق لسان ابو رياض راويا الكثير من المعلومات العامة اضافة الى تفاصيل جمة من الرواية الشفهية للمكان من بشر وشجر وحجر في منطقة الشفى وهي سلسلة هضاب يمكن الوصول اليها من الف طريق وطريق. سارونة كانت المحطة الاولى للجولة. بالنسبة للكثيرين من المشاركين كان هذا اللقاء هو الاول بهذه القرية الفلسطينية المهجرة التي تكاد تكون منسية حتى بالاسم بالنسبة للاجيال الشابة لولا مستوطنة مجاورة تحمل التسمية ذاتها. لم يبق من سارونة حجر على حجر سوى عين ماء مبنية من الحجر البازلتي الاسود كانت ولا تزال من اجمل عيون الماء في البلاد سيما وانها دائمة الجريان على مدار العام. اما البيوت فلا اثر لها سوى اكوام من الحجارة فيما احيطت المقبرة بالاسلاك الشائكة حرصا على سلامة الابقار بعد ان شملتها الى المراعي.. وبسبب تعذر استئناف المسير الى سيرين من طريق سارونة بسبب الاوحال اكمل الزوار جولتهم شرقا مرورا بقرية يمة (يفنيئيل اليوم) نحو وادي الفجاس المعروف منذ ان سلكته جيوش صلاح الدين الايوبي في طريقها الى حطين القريبة شمالا. وعند المشهد المقابل لمستوطنة "الوموت " (حيث عمل شمعون بيريس راعيا في مستهل شبابه، كما يروي في سيرته) شرح المرشد المرافق فريد حاج يحيى معالم الجغرافيا والتاريخ للمنطقة السهلية جنوبي بحيرة طبريا والمعروفة بسهل "كنيرت" كاشفا الوجه الفلسطيني للمكان قبل طمس معالمه. هناك على التلة المقابلة تقع قريتا بوريا وناصر الدين اللتان تعرضتا لمذبحة خلال النكبة وهناك في مستوطنة كنيرت لا تزال بيوت حجرية لعرب الدلايكة وهناك بجوار مستوطنة دغانيا ام المستعمرات الصهيونية في فلسطين حيث يخرج نهر الاردن في مساره الحالي من طبريا كانت تقوم قرية ام جونية، التي لم يبق ما يذكر بعروبتها سوى دبابة سورية اعطبت عام 48 بعد مباغتتها من قبل مستوطني دغانيا وهي لا تزال هناك.. بعد ان تراجعت دبابتان اخريان، كانتا برفقتها، الى تل القصار (تل كتسير) في الجانب الشرقي للبحيرة ويعتبرها المرشد حاج يحيى شاهدا حيا على ضعف جاهزية العرب خاصة من الناحية الاستخباراتية وقتذاك. والى الغرب منها كانت تقع قرية الصنبرة (مركز الرياضة- أوهلو اليوم) التي اعتمدها الامويون كأحد مراكزهم المحببة الى قلوبهم. الى الجنوب من البحيرة تبدأ مباشرة بلدة سمخ التي كانت تشكل مركزا تجاريا هاما وقبالة كلية "تسيمح" من جهة الجنوب لا تزال الابنية الخاصة بمحطة القطار الحجازية (المحطة المركزية ومكاتب الادارة ومستودعات المياه الحجرية ومكتب التذاكر وهو بناء مخروطي الشكل مبني من الحجر الاسود) شاهدا على عمران وازدهار المكان .. وبمحاذاة اراضي سمخ من الجهة الغربية يقع كيبوتس "اوفكيم" الذي طمس قرية اقحوانة المهدمة التي كان صلاح الدين الايوبي قد أسر فيها عددا من المحاربين الصليبيين دون ان يعرف انهم من قادتهم فقيل "هنا كان الرجل الذي لم يعرف قدر انتصاراته". وبمحاذاة مستوطنة نحاميا (قرية العبيدية) صعدت الحافلة في طريق جبلية ملتوية الى منطقة الشفى ثانية. بعد السير على الاقدام لمدة نصف ساعة تجلت معالم قرية سيرين المهجرة وبدا من اللحظة الأولى ان الخروج في جولة في ذلك اليوم الشتوي له ما يبرره.. القرية التي لم يبق من عمارتها سوى قلعتها وعين مائها لم يخب رونقها رغم فقدانها أعزاءها وأصحابها فهي تتربع على رابية مكسوة باشجار الزيتون والنخيل، ظهرها الى جبال الاردن ووجهها الى جبل الطور، محاطة بالسهول الخضراء ذات التربة البازلتية الخصبة سر خصوصية المكان المليء بالينابيع أشهرها عين ام ربيع وعين بدرية وعين ادمة. هذه الينابيع المتدفقة ماء وحياة وبكاء على من اطالوا الغيبة عنها كانت قد دغدغت مشاعر الفتاة نورة محمود، من قرية الكابري المهجرة، التي غسلت وجهها وشربت من "ام ربيع" قبل ان يصدح صوتها الفيروزي في فضاء سيرين تعبيرا عن التمسك بحلم العودة باغنية السيدة فيروز فيما رددن اخريات معها.. "كان عنا طاحونة عنبع المي.. قدامها ساحات مزروعة في.. جدي كان يطحن في الحي قمح وغنيات..يبقوا الناس في هالساحات شي معهن كياس .. شي عربيات...".

ووفاء لسيرين وسيرتها العطرة اختار بعض المشاركين ان يلتقط البقول من اراضيها فيما قام اخرون بالاحتفاظ بالذكريات بجمع بعض المكعبات الحجرية الفسيفسائية التي كشف عنها المطر داخل التراب.

واضافة الى سهول المويلحات المشهورة بوفرة محاصيلها في القمح تعتبر سيرين من القرى الغنية بآثارها أيضا حيث سبق أن عثر على حجر نقشت فيه كتابات يونانية يعلوها صليب اضافة الى قطع فسيفسائية ملونة كما حظيت باهتمام الصليبيين بسبب وفرة مياهها وقربها من جبل الطور وقلعة كوكب وقد نقلت اثار البلدة الى مستوطنات الغور. في سيرين الفلسطينية عاش المسلمون والمسيحيون بسلام ووئام ومن عائلاتها كما يؤكد جميل عرفات الزعبية والهياجنة والنمامسة والكتانة وخشيبون وغيرها. ويشير جميل عرفات الى ان مفاوضات دارت في سنوات الثلاثين بين السكان المسيحيين والمطران حجار لنقلهم الى رمانة البطوف او الى زبوبا جنين لكنهم لم يرضوا بديلا عن قريتهم. اما وادي البيرة المجاور فكان ملكا لافراد من عائلتي الفاهوم والزعبي واقيمت فيه عدة طواحين وبساتين اشهرها طاحونة الاسد. وفي العام 1936 يقول ابو رياض شاركت سيرين اهالي البلاد في الثورة الكبرى ومن رجالها مصطفى اسماعيل ابو الهيجا واحمد الحسن وطلاع الزعبي وابو جميل كتانة واستشهد منها الشيخ ابراهيم الكردي وعلي العقاولة. واحتلت سيرين في 12.05.48 اثر سقوط مدينة القضاء بيسان وشرد اهلوها الى الاردن وسوريا وهم يعدون، وفق احصاء دائرة الاحصاء المركزية من العام 1998، 5770 نسمة ولم يبق في البلاد منهم الا نزر يسير.

المصطلحات المستخدمة:

دغانيا, الصهيونية, كيبوتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات