جزم الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي ("هآرتس"، 20/7/2025) بأنه للمرة الأولى منذ شنّ الحرب العدوانية على قطاع غزة يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بات من الواضح أن لإسرائيل خطة تطهير عرقي بعيدة المدى، وأن رئيس جهاز الموساد ديفيد برنياع زار، الأسبوع الماضي، واشنطن لمناقشة "إجلاء" سكان غزة، فيما كشف الصحافي باراك رافيد عن أن برنياع قال لمحدّثيه إن إسرائيل بدأت فعلاً محادثات مع ثلاث دول في هذا الشأن. وبوسع هذا الجزم أن يكشف النقاب عن الأسباب الحقيقية التي تقف وراء إقامة ما توصف بأنها "مدينة إنسانية" في جنوب القطاع، وجرى اعتبارها بحق أنها معسكر اعتقال يتم في المرحلة الأولى نقل عدد كبير من سكان القطاع إليه لتمكين تنفيذ عملية الترحيل بفاعلية في وقت لاحق.
وقد يكون في هذا الجزم، الذي تسنده وقائع عديدة يورد ليفي بعضها في مقاله، ما يوضّح الغاية القصوى من استمرار الحرب على قطاع غزة والتلكؤ المُمنهج من جانب الحكومة الإسرائيلية ورئيسها بنيامين نتنياهو في التوصل إلى صفقة تبادل واتفاق لوقف إطلاق النار مع استمرار المفاوضات في العاصمة القطرية الدوحة. كما أنه يتيح إمكان تقدير "خطة الخروج" من الحرب التي يبدو أن إسرائيل تعمل على الدفع قدماً بها.
وإلى أن تتراكم وقائع أخرى توضح المعالم الرئيسة لهذه الخطة نرى وجوب أن نتوقف عند ما يلي:
أولاً، في سبيل التمهيد لخطة التطهير العرقي تقوم إسرائيل بعمليات تدمير منهجية في كل أنحاء قطاع غزة، كي لا يبقى مكان يمكن العودة إليه، سوى معسكر الاعتقال. وسبق لشبكة التلفزة البريطانية "BBC" أن نشرت، في الأسبوع الماضي، تحقيقاً مدعوماً بصور أقمار صناعية حول الدمار المنهجي الذي يقوم به الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، وكيف أنّ البلدة تلو الأُخرى تُمحى عن وجه الأرض، وتتم تسوية الأرض لإقامة معسكر الاعتقال، وأيضاً كي لا تتاح عودة الحياة من جديد إلى القطاع. وجرى إجمال الهدف الأبعد لهذا الدمار، في أكثر من تحليل إسرائيلي، بأنه بمثابة إبادة ممنهجة لكل إمكان حياة، وتحضير البنية التحتية لتجميع السكان في معسكر الاعتقال.
في الأسبوع الماضي أيضاً، نشر الصحافي الإسرائيلي نير حسون تحقيقاً ذكر فيه أن عدي بن نون، المحاضر في قسم الجغرافيا ورئيس وحدة الخرائط في الجامعة العبرية في القدس حلّل صوراً جوية من قطاع غزة بواسطة خوارزميات قياس حجم الدمار. وبحسب تقديره، فإن 70 في المائة من المباني في غزة تعرضت إلى ضرر كبير يجعلها مكاناً غير صالح للسكن. ووفقاً لما أكده، فإن نسبة الدمار ربما تكون أعلى حيث أن قدرة الأقمار الصناعية على تشخيص الأضرار في جدران المبنى من دون انهيار السقف تبقى محدودة جداً. وأشار بن نون إلى أن المنطقة الوحيدة التي تم فيها تدمير أقل من 50 في المائة هي دير البلح وهناك، بموجب تقديره، تم تدمير 43 في المائة من المباني. وقد أشير في تقرير خاص نشرته صحيفة "هآرتس" اليوم الاثنين (21/7/2025) إلى أن الجيش الإسرائيلي بدأ هجوماً في منطقة دير البلح من المتوقع أن يطاول مناطق لم تدر فيها معارك حتى الآن.
وبالعودة إلى تحقيق نير حسون، نشير إلى أنه نقل على لسان بن نون قوله "لم يعد لسكان قطاع غزة مكان يعودون إليه، عالمهم العادي وحياتهم اليومية لم يعودا موجوديْن. إن الدمار موجود في كل المستويات: البيت، والمؤسسات العامة، مكان العمل، مؤسسات التعليم والأراضي الزراعية. كل شيء تم تدميره" ("هآرتس"، 16/7/2025).
ويشدّد حسون على أنه منذ بدء "عملية مركبات جدعون" العسكرية يقوم الجيش الإسرائيلي بتدمير ممنهج من أجل التدمير. ويثبت ذلك ما أوردته صحيفة "معاريف" في أيار الماضي من أقوال على لسان نتنياهو في سياق اجتماع عقدته لجنة الخارجية والأمن في الكنيست وورد فيها حرفياً ما يلي: "إننا نقوم بهدم المزيد والمزيد من المنازل. ولا يوجد لدى سكان غزة مكان يعودون إليه. وسوف تكون النتيجة الوحيدة لذلك هي رغبة الغزيين في الهجرة من القطاع". كما يؤكد حسون أن أقوالاً من هذا الصنف تتساوق مع خطط الحكومة العمل على طرد سكان غزة، ومن بينها خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي ترمي إلى تشجيع "الهجرة الطوعية". وقد أكثر نتنياهو من التطرق إلى هذه الخطة، وحتى إنه قال للجنود إن "الحكومة تعمل على إيجاد دول تستوعب لاجئين من غزة. وأنا أؤمن بأن 50 في المائة منهم وأكثر سيخرجون. وحسب رأيي، ربما أكثر بكثير من ذلك".
وهذا ما كرّره أيضاً المحلل العسكري رون بن يشاي وغيره من المحللين الإسرائيليين. وأكّد بن يشاي أن وزير الدفاع يسرائيل كاتس، ورئيس الحكومة نتنياهو، يعتقدان أن تجميع السكان الفلسطينيين بالقرب من الحدود مع مصر سيقرّب لحظة هجرتهم من قطاع غزة ("يديعوت أحرونوت"، 15/7/2025).
ثانياً، انسجاماً مع ما سبق نشير كذلك إلى أن الخبير في الشؤون العسكرية والأستاذ الأكاديمي يغيل ليفي سبق أن أشار إلى أن نتنياهو طرح في شباط 2024 ما يمكن اعتبارها بمنزلة رؤية لـ "اليوم التالي"، تتضمن خطة واضحة مستقاة من أهداف الحرب على القطاع تتطلع إلى ما يلي: السيطرة العسكرية المستمرة في غزة؛ إقامة منطقة عازلة؛ تكليف جهات محلية بإدارة القطاع، مدنياً وشرطياً (15/7/2025). وفي قراءته فإن عمليات التدمير تتماشى مع هذه الخطة، كما تتماشى معها عمليات تشجيع الميليشيات المحليّة. ووفقاً للعديد من التحقيقات الصحافية ولا سيما في وسائل الإعلام الأجنبيّة لم تنف إسرائيل أنها عملت خلال الحرب على تجنيد عشائر ومجموعات مسلحة لمناهضة حركة حماس وخوض قتال ضدها، بل ولتكون سلطات محلية بديلة لها، وأكدّت أن هذا هو جزء من مخطط "اليوم التالي" للحرب.
ثالثاً، برأيي يبقى الأمر الأكثر أهمية الذي تعاطى معه يغيل ليفي، وينبغي إعادة التذكير به باستمرار، هو تأكيده أن الأهداف السالفة لنتنياهو وحكومته لم يتم تحدّيها مطلقاً في سياق الجدل الإسرائيلي العام، حتى بعد أن اتضح على نحو جليّ أن تحقيقها يتطلب حرباً مستمرة وثمناً أخلاقياً باهظاً. فأحزاب الوسط في إسرائيل لم تقف في وجه هذه الأهداف لأنها انجرفت مع روح الحرب. ومن هذه الحقيقة الراسخة خلص إلى النتيجة التالية: قد تنتهي الحرب على قطاع غزة قبل أن تحقق أهدافها هذه بسبب استنزاف الجيش الإسرائيلي والضغط الدولي، إنما بالتأكيد ليس بسبب المعارضة السياسية الداخلية.
المصطلحات المستخدمة:
الموساد, يديعوت أحرونوت, هآرتس, لجنة الخارجية والأمن, باراك, الكنيست, بنيامين نتنياهو, يسرائيل كاتس