خطفت حالة الانفجار التي عمت العديد من قرى ومدن الداخل الفلسطيني الأنظار عن المسببات المباشرة التي أدت إلى اندلاعها في القدس وغزة، لبرهة من الزمن، وتركت علامات استفهام كبيرة وندوبا بارزة وحارقة، على جسد صيغة "التعايش" الهش وغير المستقر الذي حكم العلاقة المتوترة وغير المتوازنة بين اليهود والعرب في إسرائيل.
قبل أسبوعين من انتهاء فترة تكليف رئيس حزب "يوجد مستقبل" يائير لبيد بتشكيل الحكومة الإسرائيلية، سقط خيار تشكيل حكومة تضم الكتل الرافضة لاستمرار حكم بنيامين نتنياهو، وتكون برئاسة تناوبية بين لبيد ورئيس حزب "يمينا" نفتالي بينيت، الذي يحل أولا في التناوب. إلا أن بينيت، على ضوء الأوضاع القائمة، عسكريا في قطاع غزة، وفي مختلف مناطق البلاد، انسحب من هذا المسار، عائدا إلى المربع الأول، داعيا لحكومة "وحدة قومية" واسعة، برئاسة نتنياهو، ولكن حسب التصريحات، فإن هذا الخيار ما زال ضعيفا، ما يعني أن اتجاه الانتخابات البرلمانية الخامسة بات أقوى. وفي المقابل، تشير الحقائق منذ عامين وحتى هذه الأيام، إلى مدى عمق علاقة نتنياهو بالمجموعات اليمينية الأشد تطرفا.
لا تزال بعض الأصوات في إسرائيل تثابر، بإصرار، على المطالبة بتشكيل "لجنة تحقيق رسمية" في الحادثة التي وقعت في الليلة الواقعة بين 29 و30 نيسان الأخير وهزّت دولة إسرائيل حين أسفرت عن مقتل 45 شخصاً وإصابة العشرات، جراء الاكتظاظ والتدافع الشديدين جداً خلال "الاحتفال" بـ "زيارة قبر الحاخام شمعون بار يوحاي" على جبل الجرمق (ميرون) بمشاركة عشرات الآلاف من اليهود الحريديم.
انطلقت يوم الأربعاء الماضي رسميا مهمة تشكيل حكومة بديلة ستكون وفق المطروح برئاسة تناوبية، بين رئيس حزب "يوجد مستقبل" يائير لبيد، ورئيس حزب "يمينا" نفتالي بينيت على أن يكون هو الأول ويكون لبيد ثانيا في رئاسة الحكومة. وحسب تقارير حتى مطلع الأسبوع، فقد تحقق تقدم جزئي على صعيد التفاهمات على توزيع الحقائب الوزارية، إلا أن هذه التفاهمات لا تزال بعيدة عن أن تحسم مسألة نجاح تشكيل الحكومة، التي من المفترض أن تتخلل مهمة تشكيلها عقبات على صعيد السياسة، وشكل التعامل مع جهاز القضاء، وجوانب في الحريات العامة.
بدأ المشروع الصهيوني في فلسطين على شكل هجرات استيطانية متتابعة، بلغت ذروتها في فترة الانتداب البريطاني الذي فُرض - حسب نص صك الانتداب العام 1922 - لتنفيذ وعد بلفور (1917) لصالح إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، عبر جعل "الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي"، ومن ضمن سياساته تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، وقمع أي محاولات احتجاج فلسطينية على توسع الاستيطان وتعزيز قدرات الحركة الصهيونية من أجل تسلم فلسطين بعد انتهاء الانتداب.
أعادت حادثة جبل الجرمق الأخيرة التي أسفرت عن مقتل 45 إسرائيلياً من التيار الحريدي الأنظار إلى ظاهرة "لجان التحقيق الرسمية" في إسرائيل. إذ تصاعد خلال الحادثة، وأكثر بشكلٍ لاحق، الخطاب الإسرائيلي الرسمي والمجتمعي الداعي لتشكيل لجنة تقصّي حقائق حول ما جرى، وهو ما يُصطلح عليه إسرائيلياً "لجان التحقيق الرسمية"، وهي ظاهرة نجد لها امتداداً عبر تاريخ التشكّل الدولاني للمنظومة الاستعمارية الاستيطانية الصهيونية في فلسطين منذ مطلع القرن الماضي، وبالذات منذ العام 1948 الذي شهد ذروة هذا التشكّل، ممثلاً بالإعلان الرسمي عن ذلك، والاعتراف الدولي الذي تبعه، وما رافق هذا الإعلان من مجازر ارتكبتها العصابات الصهيونية، المنظّمة والمسيّسة، بحقّ أبناء الشعب الفلسطيني، تسبّبت بخراب الحقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي للفلسطينيين المُمتدّ على كافة الصُعد.
الصفحة 130 من 338