المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
ازدحام مروري في تل أبيب.  (هآرتس)
ازدحام مروري في تل أبيب. (هآرتس)

يحذر تقرير حكومي إسرائيلي، قيد المرحلة النهائية في تبلوره، من حالة تفجر سكاني سيشهدها مركز البلاد، زيادة على الحالة القائمة اليوم، بسبب عدم نجاح كل المخططات الإسرائيلية في إقناع غالبية السكان اليهود بالانتقال للسكن في المناطق البعيدة؛ إذ تفضل الأجيال الشابة البقاء في منطقة تل أبيب الكبرى، المركز الاقتصادي الأكبر، والاجتماعي الشبابي، وهذا ينعكس بشكل حاد على الاختناقات المرورية، التي تتفاقم باستمرار، بدون وضع حلول سريعة نسبيا لتخفيفها.

فقد بلور المجلس الاقتصادي القومي (الحكومي) في الآونة الأخيرة، سيناريو لكيفية زيادة أعداد السكان بشكل عام ووفق المناطق، حتى العام 2050، وبحسب ما قالته صحيفة "هآرتس"، فإن التقرير في مرحلة بلورته الأخيرة، وسيتم طرحه على الحكومة وكافة الوزارات، ليكون قاعدة لوضع البرامج الاستراتيجية المستقبلية، وفق رؤية واحدة، وليس وفق اجتهادات متفرقة في الوزارات المختلفة.

وبحسب التقرير، فإن عدد السكان سيرتفع من 9.2 مليون نسمة اليوم (وكما يبدو هذا لا يشمل القدس الشرقية المحتلة)، إلى حوالي 15.7 مليون في العام 2050، من بينهم 3.25 مليون عربي، لتكون نسبتهم 20.7%، مقابل 18% اليوم من دون القدس المحتلة. ويشير التقرير إلى أن عدد المتدينين المتزمتين (الحريديم)، سيرتفع تقريبا ثلاثة أضعاف، ليصل إلى 3.8 مليون نسمة، مقابل 1.25 مليون اليوم، وسيشكلون قرابة 31% من إجمالي اليهود المعترف بيهوديتهم، وهذه نسبة تقل عن توقعات في تقارير أخرى.

ويخصص التقرير قسما كبيرا بشأن التوزيعة الجغرافية للسكان، مع تركيز خاص على منطقة الوسط، التي تقسم إلى قسمين بحسب التقسيمات الإدارية الإسرائيلية: منطقة المركز، ومنطقة تل أبيب، وكلاهما منطقتان متداخلتان، ويسكن في المنطقتين حاليا 3.78 مليون نسمة، يشكلون نسبة 41% من إجمالي السكان، وهما المنطقتان الأكثر كثافة من ناحية سكانية، وتشهدان منذ الآن حالة تفجر سكاني، ويتوقع التقرير أن يرتفع عدد السكان في هاتين المنطقتين حتى العام 2050، إلى 5.7 مليون نسمة، ليشكلوا حينها حوالي نسبة 36.5% من السكان.

ومنطقة تل أبيب وحدها، يسكنها حاليا 1.48 مليون نسمة، وستقفز حتى العام 2050 إلى 2.26 مليون نسمة. ومنطقة المركز المحاذية والمتداخلة، تضم حاليا 2.3 مليون نسمة، وستقفز بعد 30 عاما إلى 3.7 مليون نسمة.

وتسعى إسرائيل على مدى السنين لتشجيع السكان، والقصد اليهود، على الانتقال إلى المناطق الأخرى، خاصة شمال البلاد وجنوبها، ونفذت في السنوات العشر الأخيرة مشاريع بنى تحتية وشبكات طرق ضخمة جدا، توصل الشمال والجنوب بمنطقة المركز. ووضعت الحكومات الأخيرة مخططات لمواصلة تطوير شبكات الطرق والمواصلات العامة في السنوات العشر المقبلة، بقيمة إجمالية تصل إلى 20 مليار شيكل، ما يعادل حاليا 6.6 مليار دولار. إلا أن كل هذه المشاريع، إضافة إلى محفزات مالية عديدة للذين ينتقلون إلى الشمال والجنوب، وخاصة الأزواج الشابة اليهودية، لم تُحدث تحولا في التوزيعة الجغرافية، لأن الأزواج الشابة، والأجيال الشابة عموما، تبحث عن نمط الحياة بعد ساعات العمل، وهذا ما تجده في تل أبيب وجوارها.

بموازاة ذلك، تسعى إسرائيل منذ سنوات، إلى زيادة عشرات آلاف الشقق السكنية في منطقتي المركز وتل أبيب، من خلال مشروعين مركزيين. أولهما وهو الأكبر، ما يسمى "إخلاء- بناء"، إذ يتم إزالة بنايات سكنية قديمة من طابقين وحتى أربعة طوابق، وتعويض أصحاب البيوت ببيوت بديلة، لتُبنى مكانها بنايات سكنية شاهقة، تشكل كل واحدة منها عشرات الشقق السكنية. وهذا مشروع قائم منذ سنوات، ولكن حسب تقرير أخير، ليس بالوتيرة التي تريدها المؤسسة الحاكمة وجهات التخطيط.

والمشروع الثاني، هو إقامة منطقة سكنية ضخمة مكان المطار الداخلي في شمال تل أبيب، ما يُعرف باسم "مطار دوف"، وتشكل بنايات شاهقة بآلاف الوحدات السكنية، مع مساحات تجارية وأماكن نقاهة. والقسم الثاني سيكون في ما تسمى "المحطة المركزية القديمة للمواصلات" في تل أبيب، وهي منطقة مليئة بالأبنية القديمة ومساحات غير منظمة، والتخطيط هو جرفها كليا وبناء مشاريع إسكانية على أرضها.

وبموازاة هذين المشروعين، يتم إخلاء قواعد عسكرية، وخاصة مرافق عسكرية مكتبية، وبضمنها وحدات استخباراتية، من منطقة المركز، ونقلها إلى صحراء الجنوب، اعتقادا من إسرائيل بأن هذا سيقنع آلاف الأزواج الشابة في الجيش النظامي، وأولئك العاملين في الوحدات الحساسة، بالانتقال إلى صحراء النقب ليكونوا قريبين من مكان عملهم، ولكن هناك من يشكك بهذا الهدف، إذ أن العائلات لن تنتقل للسكن في تلك المنطقة البعيدة عن الحياة اليومية لمنطقة تل أبيب الكبرى.

وقد وضعت الحكومة الحالية مخططا لبناء متروبولين سكاني ضخم في شمال صحراء النقب، من خلال بناء عدة بلدات مترابطة، ومدينة كبيرة مخصصة للمتدينين المتزمتين الحريديم، ويحذر خبراء من احتمال فشل إقناع عشرات آلاف الحريديم بالانتقال إليها.
والتركيز على منطقة الجنوب جاء، كما يبدو، بعد فشل تكثيف السكن في منطقة حيفا الكبرى، وفق ما ورد في تقرير المجلس الاقتصادي القومي، السابق ذكره، إذ تجد جهات التخطيط صعوبة في إخلاء المنطقة الصناعية الضخمة في خليج حيفا، أو تقليص حجمها، ونقل المصانع المسببة للتلويث، وبضمنها المصانع الكيماوية، ولهذا ترى الحكومة أن توسيع المناطق السكنية في الجنوب، مثل محيط مدينة بئر السبع، وأيضا مدينة عسقلان، يبقى أكثر واقعيا من جهة مؤسسات التخطيط.

ولكن كل المشاريع في منطقتي المركز وتل أبيب ستزيد من حالة الاكتظاظ، وهذا سينعكس أكثر على أزمة حركة السير المتفاقمة في المنطقتين، وبحسب تقارير سابقة، فإنه بسبب الاكتظاظ السكاني تظل مشاريع التطوير المستقبلي لشبكة الطرق محدودة في تلك المنطقة.

أزمة حركة السير

تعد قضية الاختناقات المرورية واحدة من أشد الأزمات الإسرائيلية على المستوى الداخلي، والأزمة الأشدّ هي في منطقة تل أبيب الكبرى، وهي أبرز انعكاسات حالة التفجر السكاني في هذه المنطقة، التي تعد قلب الاقتصاد الإسرائيلي، وخاصة الصناعات العصرية المتطورة، ومركز الجمهور العلماني، لذا فهي العنوان الأول للهجرة الداخلية لهذا الجمهور، وبشكل خاص الأجيال الشابة. وتشهد منطقة تل أبيب الكبرى، في السنوات الأخيرة، حالة انفجار في حركة السير، عدا الانفجار السكاني، إلا أن فرص توسيع الشوارع وشق شوارع جديدة باتت صعبة، كما ذكر، وفي حالات أخرى في ذات المنطقة باتت مستحيلة، وخاصة في أوتوستراد "أيالون" الذي يشق منطقة تل أبيب الكبرى من شمالها إلى جنوبها، وتمر فيه يوميا قرابة 750 ألف سيارة.

ونشرت صحيفة "يديعوت أحرونوت" في الأيام الأخيرة معطيات رصدها تطبيق "ويز" لحركة السير، وقالت هذه المعطيات إن حركة السير في المدن والتجمعات السكانية الكبرى، في الآونة الأخيرة، ازدادت بنسبة 30% عما كانت عليه قبل جائحة كورونا. وحتى أنه في بعض الأيام بلغت الزيادة 50%. وهذه المعطيات لا تتعلق فقط بمنطقة المركز، بل أيضا في مناطق أخرى مثل مدينة بئر السبع وجوارها في شمال صحراء النقب، إذ دلت المعطيات على أن زيادة حركة السير هنا كانت أعلى بنسبة 30% مما كانت عليه قبل اندلاع جائحة كورونا.

وتؤكد تقارير متخصصة أن الاختناقات المرورية في منطقة تل أبيب الكبرى، من شأنها أن تتفاقم أكثر كلما تقدمت السنوات، ما سينعكس سلبا على الاقتصاد الإسرائيلي وحجم الإنتاجية، إلى جانب الانعكاس سلبا على رفاهية الجمهور.

ويقول تقرير المجلس الاقتصادي القومي إن على الوزارات أن تعمل بالسرعة القصوى، لمعالجة الاختناقات المرورية، ومنع انهيار البنى التحتية للمواصلات، وعدم الانتظار لسنوات، بموازاة العمل على إقامة مبان شاهقة متعددة الاستخدام في الحلقة المحيطة بمنطقة تل أبيب الكبرى، مع البنى التحتية الملائمة لها، والأخذ بعين الاعتبار توقعات الزيادة السكانية.

كما يوصي تقرير المجلس ذاته بإقامة شبكة مواصلات جماعية كبيرة، إلى جانب حافلات المواصلات العامة العادية، في إشارة واضحة لتسريع وتوسيع إقامة سكة حديد للقطار الخفيف.

ودعا خبراء إسرائيليون منذ سنوات لفرض ضريبة الاختناقات المرورية، كتلك القائمة في دول كبرى في العالم المتطور، وأثبتت نجاعتها. إلا أن ذوي اختصاص آخرين حذروا من فرض ضريبة كهذه في إسرائيل، طالما لم تطرح الحكومة بدائل حقيقية في المناطق التي ستفرض فيها ضريبة اختناقات مرورية.

والقصد ليس فقط ضمان حافلات مواصلات عامة، بل ما هو أكبر، مثل القطار الخفيف داخل المدن، وأيضا بناء مبان ضخمة كمواقف سيارات، خارج المناطق المكتظة، لاستيعاب عشرات آلاف السيارات يوميا. خاصة وأنه وفق تقارير سابقة، وبسبب ضُعف حركة المواصلات العامة الإسرائيلية، فإن استخدام المواصلات العامة في المدن الإسرائيلية الكبرى يصل إلى حوالي 10% من حركة المواطنين، مقابل نسبة تتراوح ما بين 30% إلى 40% في المدن الأوروبية الكبرى. كما تبين أن 62% من العاملين في إسرائيل يتجهون إلى أماكن عملهم بسياراتهم الخاصة، وهي تعد من أعلى النسب في العالم، إن لم تكن أعلاها.

وكان الكنيست الإسرائيلي قد أقر في مطلع الشهر الجاري، ضمن قانون التسويات الاقتصادية، الملازم لمشروع الموازنة العامة، فرض ضريبة اختناقات مرورية، لمنطقة تل أبيب الكبرى، إلا أن هذا القانون سيدخل حيز التنفيذ في العام 2025، بعد القيام بإجراءات لتنظيم الجباية، وقبل هذا، تعزيز البدائل للسيارات الخاصة، التي ستدفع هذه الضريبة، والتي ستفرض على السيارات الداخلة إلى منطقة تل أبيب الكبرى، ولمدينة تل أبيب خاصة، في ساعات الصباح، وفي ساعات المساء.

ويأتي هذا القانون بعد عامين على دعوة منظمة التنمية والتعاون بين الدول المتطورة OECD إسرائيل لفرض ضريبة اختناقات مرورية، في المناطق التي تشهد أشد الاختناقات. وتعد الاختناقات المرورية واحدة من أشد الأزمات الداخلية التي تشهدها إسرائيل، وتكلف الاقتصاد أكثر من 12 مليار دولار سنويا، وفق تقديرات يتم تعديلها تباعا، وهذا يأخذ سعر الصرف المنخفض للدولار في الشهر الأخير.

مواصلات أيام السبت

لا يمكن طرح قضية المواصلات وحركة السير في إسرائيل من دون التطرق إلى قضية يوم السبت، وحظر المواصلات العامة فيه. ففي الأسبوع الماضي عقدت صحيفة "يديعوت أحرونوت" مؤتمرا بشأن المواصلات، شاركت فيه وزيرة المواصلات ميراف ميخائيلي، رئيسة حزب العمل، التي أعلنت في المؤتمر أنها لن تسمح باستمرار "حصار يوم السبت"، كما قالت، في إشارة منها إلى سعيها لتحرير حركة السير من أنظمة السبت، ولكنها استدركت قائلة إن هذا سيكون بالتفاهمات.

وقالت ميخائيلي إنها ستستغل تركيبة الحكومة الحالية، من أجل وضع ترتيب معين لضمان حركة مواصلات أيام السبت، بقصد توسيع الحركة المحدودة القائمة.

وحظر المواصلات العامة أيام السبت مفروض كقرارات للشركات شبه الرسمية التي تشغّل خطوط المواصلات العامة، إذ لا يوجد قانون رسمي يحظر المواصلات العامة أيام السبت، ولكن هناك اتفاق غير مكتوب بين الحكومة والتيارات الدينية وخاصة المتزمتة منها، منذ العام 1948، بعدم تسيير المواصلات العامة.

وعادة تبقى الشوارع والطرقات مفتوحة في جميع المدن والبلدات اليهودية، باستثناء شوارع قليلة جدا في المدن الكبرى، إما أنها تمر بحي كل سكانه من المتدينين المتزمتين، أو يقع في الحي الكنيس الأكبر في تلك البلدة. ويمكن مشاهدة حظر كلي لحركة السير من حافلات وسيارات خاصة، في مستوطنات يسكنها المتزمتون فقط، مثل موديعين عيليت وبيتار عيليت وإلعاد، وبعض أحياء القدس.

وقبل أكثر من ثلاث سنوات بادر رؤساء بلديات في منطقة تل أبيب الكبرى لطرح مشروع تسيير حافلات في أيام السبت، من أحياء مختلفة نحو مناطق الترفيه، وجوبه المشروع بمعارضة قوية من طرف حكومة بنيامين نتنياهو في حينه، والتي كان للمتدينين المتشددين فيها وزن كبير.

وقد شرعت منذ ذلك الحين جمعيتان تناهضان حظر المواصلات أيام السبت، في تسيير خطوط في المدن الكبرى، من أجل مساعدة من ليس لديهم سيارات خاصة، وبدأ المشروع بعشرة خطوط مواصلات، ولكنه توسع لاحقا، إلا أن الحديث ما زال بعيدا عن حركة مواصلات عامة كاملة في أيام السبت.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات