المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
وقفة تحدّ في "الشيخ جراح" في 14 أيار الجاري.  (أ.ف.ب)
وقفة تحدّ في "الشيخ جراح" في 14 أيار الجاري. (أ.ف.ب)

الأنثروبولوجيا الاستعمارية والأمن الإسرائيلي

عملت المنظومة الاستعمارية الصهيونية قبل النكبة على تأسيس معرفة استعمارية أمنية عن المجتمع الفلسطيني، من خلال توثيق دقيق وميداني لقرى ومدن فلسطينية متعددة، وخير مثال على ذلك العمل الأمني- الأنثروبولوجي آنذاك، ملفات القرى التي عملت على إعدادها منظمة الهاغناه التي شملت توثيقا دقيقا لجزء كبير من القرى والبلدات الفلسطينية التي استعمرت العام 1948. ولاحقاً بعد احتلال ما تبقى من فلسطين عام 1967، شكل رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك ليفي إشكول لجنة سميت "لجنة الأساتذة" ضمت أكاديميين في مجالات علم الاجتماع وعلم السكان والاقتصاد وغيره من التخصصات لدراسة أحوال السكان الفلسطينيين في الأراضي المحتلة حديثاً؛ كان الهدف منها فهم طبيعة السكان والتخطيط للتعامل معهم وإدارتهم وحكمهم. أي أن الحكومة الإسرائيلية وأذرعها السياسية والأمنية لديها هوس أمني بجمع كل التفاصيل المرتبطة بالفلسطينيين ومجتمعهم، لتتمكن من السيطرة عليهم والتحكم بهم والقدرة على قمعهم عند الحاجة لذلك، وربما بسبب الغرور الأمني وصلت المنظومة الأمنية الإسرائيلية إلى حد الوهم أن بإمكانها فهم السلوك الفلسطيني والتنبؤ به قبل حدوثه، وبإمكانها تحييد أي سلوك فلسطيني أو قمعه وإنهائه من خلال الأدوات الأمنية.

تتكون أجهزة الأمن في إسرائيل من عدة هيئات أساسية وهي: الجيش الإسرائيلي، الموساد (جهاز المخابرات والمهمات الخاصة)، الشاباك (جهاز الأمن الداخلي)، شرطة إسرائيل، حرس الحدود (وحدة قتالية تابعة للجيش)، وزارة الأمن الداخلي (المشرف على عمل الشرطة).https://www.madarcenter.org/%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%88%D8%B9%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%84%D8%AD%D8%A7%D8%AA/1846-%D8%A3%D8%AC%D9%87%D8%B2%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%86-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84

تعتمد تلك الأجهزة الأمنية على متخصصين في علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الإنسان وغيرها من التخصصات الأكاديمية لفهم المجتمع الفلسطيني وسلوك أفراده، وتحاول بناء معرفة أنثروبولوجية عن كل جغرافيا استعمارية لتسهيل بناء السياسات الأمنية تجاه الفلسطينيين. كما توظف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الأدوات الخشنة والناعمة لإحكام سيطرتها وهيمنتها على المجتمع الفلسطيني سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة وحتى في فلسطين 1948، وتلك التقسيمات الجغرافية- السياسية القائمة (ضفة، غزة، "الوسط العربي" وفق التسمية الإسرائيلية) والصورة النمطية عن كل تجمع هي جزء من الأنثروبولوجيا الاستعمارية التي عملت الماكينة الأمنية والأكاديمية الإسرائيلية على إرسائها على مدار عقود ماضية؛ معتقدة بأن معرفتها وتقديراتها الأمنية وسياسات الأمننة تنجح في فهم العالم الداخلي للمقدسيين والفلسطينيين المستعمَرين الذين لا يستطيعون أن يروا أنفسهم خارج القدس أو بمنأى عنها.

باب العامود والشيخ جراح

نصبت الشرطة الإسرائيلية في مطلع شهر رمضان للعام 2021 مجموعة من الحواجز الحديدية على درج باب العامود، ادعت الشرطة بأن الهدف هو تسهيل الحركة في ظل الأزمات التي تقع في المكان خلال شهر رمضان؛ علماً أن الهدف من وراء تلك الحواجز هو منع المقدسيين وخصوصاً شباب القدس من التجمع على درج باب العامود وساحاته. ويمثل درج باب العامود وساحاته الرئة الاجتماعية لشباب القدس والمتنفس شبه الوحيد لهم؛ كفضاء عام فلسطيني يمارسون فيه حياتهم كأفراد وجماعات دون هيمنة من أحد، ويجتمع الشباب في باب العامود والشابات لتبادل الحديث والتقاط الصور وشرب القهوة والجلوس فيه كمكان أو فضاء ثالث بعيداً عن البيت أو مكان العمل. أي أن باب العامود مساحة اجتماعية- ثقافية مرتبطة بسلوك المقدسيين وغيرهم ممن يتمكنون من زيارة القدس؛ وتتكثف هذه المساحة ورمزيتها ودورها كفضاء عام خلال شهر رمضان، كون جزء كبير من الشباب يسهرون هناك حتى مطلع الفجر.

تعامل المقدسيون مع حادثة الحواجز الحديدية في باب العامود بكل جدية وحزم؛ لإدراكهم أن الهدف من وراء الحواجز هو السيطرة على الفضاء العام المخصص للشباب والمقدسيين، والهدف منعهم من التجمع وضرب أي مظاهر للوجود الجماعي للمقدسيين، كذلك تيقن المقدسيون بأن التهاون والسكوت عن الحواجز في باب العامود له نتائج خطيرة في "حرب الأمكنة" كما وسمها الأكاديمي الفلسطيني بلال عوض سلامة؛يمكن الاطلاع على مجموعة من المقالات التي اهتمت برصد ومتابعة وتحليل وقائع القدس ومعركة سيف القدس في صفحة الكاتب: https://www.ahewar.org/m.asp?i=5883 وخطورتها بأن تتحول إلى حواجز شبه دائمة في كل عام خلال شهر رمضان، الذي تتكثف فيه العلاقات الاجتماعية والتواصل في ساحة باب العامود، أو حواجز دائمة ويتم منع التواجد الجماعي وربما الفردي المقدسي في الساحات والدرج وخصوصاً بعد وضع لافتة من قبل بلدية القدس سمت المكان باسم مجندتين قتلتا في المكان.

كذلك تزامن وضع المتاريس الحديدية في باب العامود مع محاولات المستوطنين المدعومة من الشرطة الإسرائيلية إخلاء منازل عائلات فلسطينية من حي الشيخ جراح، ودعوات جماعات صهيونية متطرفة لاقتحام المسجد الأقصى في 28 رمضان (يوم توحيد القدس) الموافق في 10/5/2021، وقبل ذلك بأسابيع قليلة جرى إخلاء سكان من منازلهم في بلدة سلوان لصالح تسكين مستوطنين إسرائيليين فيها. وأدى تفاعل هذه العوامل وغيرها إلى انطلاق شرارة انتفاضة/ هبة في القدس. واستطاع المقدسيون بعنادهم الصلب ومقاومتهم اليومية بالصمود الانتصار في معركة باب العامود، وأزالوا الحواجز الحديدية، ونظموا احتفالات في باب العامود للتأكيد على مكانه ورمزيته كفضاء عام مقدسي- فلسطيني. وساهم صمود المقدسيين في باب العامود في تعزيز معركة الصمود في الشيخ جراح، وقد أفشلوا في يوم 27 رمضان (ليلة القدر) اعتراض الشرطة الإسرائيلية حافلات الفلسطينيين من فلسطين 1948 الوافدين للاعتكاف في المسجد الأقصى والشيخ جراح وإحياء ليلة القدر؛ وكان مشهد إغلاق شارع رقم 1 بعد اعتراض الحافلات شبيها بنواة عصيان مدني فلسطيني. وقد أفشل المقدسيون ومن ساندهم من أهالي الضفة الغربية وفلسطين 1948 مجموعة من الاقتحامات للمسجد الأقصى التي تهدف إلى إخلائه من المرابطين لتسهيل اقتحام مسيرة المستوطنين له في يوم توحيد القدس الذي صادف في يوم 28 رمضان، ذات اليوم الذي بدأت فيه معركة "سيف القدس" بإطلاق رشقات صاروخية من قطاع غزة على مجموعة من الأهداف في إسرائيل.

ما يمكن قوله إنه رغم غرور المؤسسة الأمنية الإسرائيلية وادعائها امتلاك الخبرات والخبراء ونظريات الضبط والهيمنة والتحكم؛ إلا أن العالم الداخلي للفلسطيني والمقدسي المقاوم لا يمكن فهمه أو تفسيره من قبل المنظومة الأنثروبولوجية والأمنية الإسرائيلية، كون حسابات الأمن تهتم برصد الأحداث وتحليلها والتنبؤ بها من خلال رؤية أمنية تبني سيناريو الأحداث على مؤشرات أمنية ليست بالضرورة تعبر عن الإنسان الفلسطيني المقاوم والمتمرد الذي ينتفض دفاعاً عن كرامته وهويته المكانية والوطنية؛ فالمجتمع الفلسطيني وأفراده صنعوا دائماً مفاجئات عجزت المنظومة الأمنية الإسرائيلية عن التنبؤ بها ولم تتمكن من احتوائها وتحييدها، مثل انتفاضة عام 1987 وهبة باب الأسباط 2017 وغيرهما.

هل فشل الأمن الإسرائيلي في هبّة القدس؟

يمكن الإجابة على السؤال بافتراض أن الفشل الأمني يتحقق عندما يكون هناك هدف تسعى المنظومة الأمنية الإسرائيلية إلى تحقيقه ولا يكتب له النجاح؛ هذا الافتراض يؤدي إلى القول إن هناك هدفا إسرائيليا في السيطرة والهيمنة على ساحة باب العامود، وهناك هدف إخلاء سكان حي الشيخ جراح وإسكان مستوطنين مكانهم، كجزء من مخطط إسرائيلي يهدف إلى الزحف نحو القدس الشرقية، لمحاصرة البلدة القديمة وفصلها عن فضائها الشمالي، وضرب النسيج الجغرافي الاجتماعي المقدسي وعمل جيوب استيطانيه إسرائيلية داخله؛ كجزء من مسلسل التطهير المكاني والسيطرة على أكبر قدر ممكن من مدنية القدس. ولقد فشلت الشرطة الإسرائيلية وحرس الحدود في السيطرة على ساحة باب العامود وحررها شباب القدس واستعادوها كفضاء عام، كذلك فشلت الشرطة الإسرائيلية في تمرير مخطط تهجير سكان الشيخ جراح بمعاونة ودعم مجموعات من المستوطنين وسياسيين إسرائيليين مثل إيتمار بن غفير.

يمكن فهم فشل الأمن الإسرائيلي وتحديداً جهاز الشرطة الإسرائيلية والأمن الداخلي من خلال تأمل مجموعة من العوامل التي ساهمت في فشل تحقيق الأمن الإسرائيلي لأهدافه، منها: الرؤية اليمينية الأيدولوجية لوزير الأمن الداخلي أمير أوحانا المنتمي لحزب الليكود والمقرب من بنيامين نتنياهو، وتسلم أوحانا منصب وزير الأمن الداخلي عام 2020، وتحكمه رؤية يمينية متطرفة، فالعمى الأيديولوجي وحداثة عهده في المنصب أديا إلى تكبده فشلا أمنيا كبيرا بارتكابه حماقة وضع الحواجز في ساحة باب العامود. في ذات السياق يرى المحلل السياسي ناحوم برنياع أن قرار الشرطة الإسرائيلية إبعاد الفلسطينيين عن ساحة باب العامود خلال شهر رمضان خطأ، كذلك قرار الدخول إلى المسجد الأقصى واقتحامه، وقرار إيقاف باصات الحركة الإسلامية القريبة من القدس كان خطأ أيضاً.

كان لتغليب البعد الأيديولوجي واستفزاز المقدسيين والفلسطينيين، ولؤم جهاز الشرطة وحرس الحدود في التعامل مع الفلسطينيين في باب العامود والشيخ جراح، دور ومحفز في الصمود والمطالبة بإلغاء الإجراءات الإسرائيلية، وهذا ما حدث في هبة باب الأسباط عندما ارتكبت الشرطة حماقة البوابات الإلكترونية مما دفع المقدسيين وغيرهم إلى الرباط والمقاومة لمدة أسبوعين حتى تمت إزالة البوابات وفتحت جميع أبواب المسجد الأقصى.

كما كان لطبيعة الهبة دور مهم وحاسم في إرباك المنظومة الأمنية الإسرائيلية، كون الهبة كانت مفاجئة للجميع، للفلسطينيين والإسرائيليين والعرب، فبعد العربدة الإسرائيلية في قضية الضم ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، ورزمة المنح والمزايا التي قدمها دونالد ترامب الرئيس الأميركي السابق لإسرائيل، إلى جانب موجة التطبيع مع إسرائيل، ساد اعتقاد أمني وسياسي في إسرائيل بأن الفلسطينيين في أصعب ظروفهم بعد تلك الأحداث السياسية، بالتزامن مع جائحة كورونا وقمع الأمن الإسرائيلي في القدس لأي تواجد سياسي فلسطيني رسمي أو شعبي حتى المتطوعين المجتمعيين، وإخلاء بيوت ومنازل في سلوان وتسكين مستوطنين مكانهم؛ جميع هذه الأحداث وغيرها توحي بأن الأمن الإسرائيلي فرض سطوته وسيطرته على مدينة القدس وسكانها، لكن ألهب وضع الحواجز الحديدية الأحداث في القدس، وتفاجأ الجميع بالهبة الشعبية والانتفاض المقدسي ضدها، كذلك عجز الأمن الإسرائيلي عن كبح جماح الهبة الشعبية رغم تعامله بقسوة وبطشه بالمقدسيين وتنكيله بهم. كذلك يتعامل الأمن الإسرائيلي مع الأحداث بمنطق الشغب والاحتجاج؛ في حين أن الهبة مرتبطة ببعد وطني وبالهوية الفلسطينية، وبساحة باب العامود والشيخ جراح كمكان له ارتباط بالهوية المكانية الفلسطينية.

كان لسمات الهبة دور في التفوق على المنظومة الأمنية الإسرائيلية كونها قامت على العلنية فالجميع يقاوم مكشوف الوجه وليس هناك خوف من الأمن وأدواته المتعددة، واعتمد الشباب أساليب الكر والفر، والرباط الدائم والصمود والثبات على الموقف وعدم التراجع عن مطالبهم أو التفاوض عليها، وإن جرت المفاوضات تجري في الميدان ودون أي تنازلات من المقدسيين، كذلك كانت للهبة سمة الحراكات فلا توجد قيادة مركزية لها يمكن اعتقالها أو تحييدها أو التفاوض معها ومساومتها؛ فالجماهير متواجدة في الميدان ولا يحق لأحد الكلام باسمها أو تمثيلها أو إملاء موقف عليها، وجسدت تلك الجماهير الوحدة الوطنية الحقيقية كون الهبة فوق حزبية، وهذا أربك الأمن الإسرائيلي الذي يعمل دائماً على تفريق الفلسطينيين عن أهدافهم بدعوى أن لكل حزب فلسطيني أجنداته الإقليمية ومطالبه وامتيازاته، وهناك فشل الأمن الإسرائيلي في اختراق الجماهير وتحييدها، رغم محاولاته بث الإشاعات والحرب النفسية ومطالبة بعض التجار بعدم التظاهر حتى لا تتأذى تجارتهم أو تؤثر الأحداث على الصلاة في المسجد الأقصى، وجسدت الهبة وجماهيرها صورة قريبة من النضال والصمود والثبات في معركة البوابات الإلكترونية العام 2017.

إلى جانب ذلك تنشغل المنظومة الأمنية والسياسية الإسرائيلية بعد تسلم جو بايدن الرئاسة الأميركية في قضية الملف النووي الإيراني، في اعتقاد إسرائيلي بأن الخطر الإقليمي أو الخارجي يتهدد إسرائيل أكثر من خطر وتهديدات الشعب الفلسطيني في كل الجغرافيا الاستعمارية، حتى مخرجات مؤتمر هرتسيليا للأمن القومي الإسرائيلي تضع القضية الفلسطينية والفلسطينيين ليسوا كتهديد رئيس. وقد أشار عاموس هرئيل (محلل عسكري) في صحيفة "هآرتس" إلى أن هناك تركيزا استراتيجيا إسرائيليا على إيران في حين أن الوضع في القدس هو الخطر المتفجر. وقال "ساهمت الخطوات غير المدروسة التي قام بها القائد الأعلى للشرطة، الذي يبدو أنه يفتقر إلى الخبرة الكافية، في تأجيج الأجواء في القدس". وهنا يمكن إدراك أن المنظومة الأمنية الإسرائيلية التي تدعي القوة والسطوة تبني سياساتها الأمنية على الرغائبية لا على الوقائع.

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات