المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
سياسات الاحتلال في القدس: الهدم ثم الهدم.
سياسات الاحتلال في القدس: الهدم ثم الهدم.

تتعرّض مدينة القدس منذ احتلالها العام 1967 لعملية تهويد وأسرلة مُمنهجة؛ حيث دأبت حكومات إسرائيل المُتعاقبة على وضع مجموعة كبيرة من الخطط والبرامج وإصدار العديد من القرارات وتنفيذها ضمن استراتيجية استعمارية واضحة لتهويد المدينة المُقدّسة وتغيير طابعها العربي وذلك من خلال إلباسها ثوباً يهودياً- صهيونياً في إطار عملية "المحو والإنشاء" التي تعرّضت وما تزال تتعرّض لها المدينة وغيرها من الأماكن والمدن الفلسطينية الأخرى.

وقد اشتدّت وتيرة المساعي الإسرائيلية هذه خلال العقود الأخيرة التي شهدت هجمة استيطانية تهويدية مُكثّفة من خلال "الخطط الخمسية" المُتتالية والتي تُخصّص وتُرصد لها موازنات ضخمة تحت مُسمّيات مُضلّلة تُخفي النوايا الحقيقة الكامنة والأهداف المرجوة منها.

وفي سياق الهجمة الإسرائيلية المسعورة على الحقوق الفلسطينية، وتلك الساعية لتهويد وأسرلة مدينة القدس كمقدّمة لضمّها لإسرائيل رسمياً بعدما حسمت إسرائيل موقفها، داخلياً على الأقل، بألّا تكون القدس خاضعة للتفاوض ضمن أي تسوية مُستقبلية مع الفلسطينيين، لا سيّما بعد الاعتراف الأميركي بالقدس كعاصمة لإسرائيل وما تلاها من صفقات ومُخطّطات (صفقة القرن، وخطّة الضم وما شابه) وأيضاً من إجراءات على أرض الواقع؛ تأتي الخطة الحكومية الإسرائيلية بعنوان: "القرار 3790: تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والتنمية الاقتصادية في القدس الشرقية" والصادرة بتاريخ 13 أيار 2018 عن الحكومة الإسرائيلية الرابعة والثلاثين برئاسة بنيامين نتنياهو كأحد الوسائل المُتّبعة لتهويد المدينة ومحو عروبتها عبر مُمارسات وسياسات تُعرّف إسرائيلياً على أنها "قانونية" هدفها تطوير المدينة وتحسين الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية لسكّانها العرب، وهي تسميات مُضلّلة تُستخدم كغطاء لتمرير سياسة التهويد والتي تسعى من ضمن أمور أخرى كثيرة لاقتلاع السكّان العرب الفلسطينيين من المدينة.

سنحاول هنا استعراض أهمّ ما ورد في هذا القرار، وقراءته في ضوء النهج التهويدي المُتبّع وضمن السياسات والمُمارسات الإسرائيلية المُستمرّة والمُتصاعدة الساعية لمحو طابع المدينة العربي "وعَبْرنتها"، وكذلك تحقيق الدمج اللامتكافئ لسكان المدينة العرب في الاقتصاد والعمل الإسرائيليين عبر إصدار قوانين وتشريعات وقرارات حكومية تُخصّص لها موازنات ضخمة؛ وهي القرارات التي تظهر للعلن تحت مُسمّيات مُضلّلة كـ "التطوير"، "تقليص الفجوات"، و"تعزيز الاندماج"... إلخ.

تحت غطاء "الاندماج"

ينصّ القرار وكما يظهر في مقدّمته على أن الهدف هو "تعزيز" قدرة سكان القدس الشرقية على "الاندماج" في المجتمع والاقتصاد الإسرائيليين، في إطار المسعى الهادف لتقليص الفجوات الاجتماعية الاقتصادية وتعزيز التنمية الاقتصادية في القدس الشرقية للأعوام 2018-2023 في المجالات التالية: التعليم والتعليم العالي، الاقتصاد والعمل، النقل، الصحة، تحسين نوعية الحياة، والتخطيط وتسجيل العقارات. ويؤكّد على أن هذا القرار الذي يأتي على شكل خطة يأتي بموجب واستمرارا للقوانين والقرارات الحكومية التالية:

1- البند (4) من قانون أساس "القدس عاصمة إسرائيل"؛ والذي ينصّ على إعطاء القدس أولوية خاصة في الأنشطة الاقتصادية والأنشطة التنموية.

2- قرار الحكومة الإسرائيلية 1775 (29 حزيران 2014) الهادف لتعزيز قدرة سكان القدس الشرقية على الاندماج في الاقتصاد الإسرائيلي، والقرار رقم 2684 (28 أيار 2017) الساعي لتعزيز المرونة الاقتصادية والاجتماعية "للعاصمة" بأكملها.

وينصّ القرار على ضرورة تشكيل لجنة دائمة ولجان أخرى فرعية تُشرف على وضع البرامج والخطط اللازمة لتنفيذ ما ورد في هذه الخطة التي تُصنّف على أنها متعدّدة السنوات؛ ويترأس اللجنة المدير العام لوزارة القدس والتراث وتضم أعضاء ومفوضين ومُدراء من وزارة المالية، وزارة القدس والتراث، مكتب رئيس الحكومة وبلدية القدس.

 أولاً: التعليم والتعليم العالي

يُخصّص القرار ميزانية قدرها 89 مليون شيكل لكل سنة؛ أي 445 مليون شيكل للسنوات الخمس التي تغطّيها الخطة، لمواضيع تعميق المعرفة باللغة العبرية، تعزيز التعليم التكنولوجي، توسيع نطاق التعليم غير النظامي بالإضافة لتقديم حوافز مادية وتربوية وتحسين المناهج الدراسية الإسرائيلية على أن تكون الحصّة الأكبر للمؤسسات التي تقوم بتدريس المنهاج الإسرائيلي واللغة العبرية.

وحسب القرار فإن الهدف المُبتغى من هذه الميزانية هو تشجيع الطلاب العرب على الانخراط في المؤسسات التعليمية المُدرجة في الخطّة وزيادة أعداد المُلتحقين بها. واستجابةً للظروف والمُتغيّرات التي قد تواجهها اللجان المُشكّلة للإشراف على التنفيذ يقع على عاتق وزارة المالية تخصيص موازنة إضافية تتراوح ما بين 90-170 مليون شيكل للتعليم العالي، على أن يُسهم ذلك - وفق برامج مدروسة يعكف على وضعها وصياغتها مختصون من وزارة التراث ووزارة التربية والتعليم ومجلس التعليم العالي- في تشجيع الطلاب المتفوقين من القدس الشرقية على الانخراط في المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية و"الاندماج" في الوظائف والمناصب المهمّة في القطاع العام.

ثانياً: الاقتصاد والعمل

يُخصّص هذا القرار ميزانيات ضخمة لزيادة الإنتاجية في الاقتصاد، دمج سكان شرق المدينة في دوائر التشغيل المختلفة وزيادة معدّلات الدخل لكل أسرة في شرق المدينة ودخل بلدية القدس أيضاً بحسب ما هو منصوص عليه. فعلى صعيد العمل والرفاهية والتشغيل يُطلَب من وزارة العمل والرفاه، وزارة المالية، وزارة القدس والتراث، وزارة الاقتصاد والصناعة، دائرة الإسكان، وبلدية القدس صياغة الخطط والبرامج - وفق الميزانيات التي سنوردها بين الأقواس فيما يلي- التي تضمن تحقيق الاندماج الاقتصادي وتطوير خدمات الرفاه (15 مليون شيكل)، رفع نسبة التوظيف للرجال والنساء العرب في شرق المدينة -على أن تكون النسبة الأكبر نساءً 70% من العدد الكلي- (35 مليونا)، منع التسرّب من الدراسة للطلاب والمُتدربين من الأطفال والشباب والتخفيف من حدّة الفقر (75 مليونا)، تنمية رأس المال البشري (15 مليونا)، تعزيز الدراسات العبرية وبرامج التأهيل والتدريب المهني وتطوير المهارات التكنولوجية (26.5 مليون)، وزيادة عدد دور الحضانة (50 مليونا).

أما على صعيد الاقتصاد والتجارة، وفي سبيل تحفيز أصحاب العمل على تشغيل واستيعاب أيدي عاملة من سكان القدس الشرقية وتشجيع وتطوير الأعمال الصغيرة والمتوسطة التي تتكيّف بشكلٍ فريد مع سكان القدس الشرقية يُخصّص مبلغ 47 مليون شيكل تقريباً لتنفيذ ما ورد في هذا القرار - فيما يتعلّق بهذا المجال بالتحديد- مع الالتزام بضمان توزيع المبلغ على سنوات البرنامج بالتساوي من قِبَل الوزارات والهيئات التي ذكرناها أعلاه.

ثالثاً: النقل

يُخصّص القرار ميزانية قدرها 585 مليون شيكل لهذا القطاع؛ حيث تدّعي الخطة أن الهدف هو تحسين خدمة النقل العام في القدس الشرقية وإدخال التقنيات البرمجية والتكنولوجية عليها، ضمان وصول السكان إلى جميع أنحاء المدينة، تحسين البنية التحتية للنقل، ربط شرق المدينة بجزئها الغربي عبر برامج وخطط تفصيلية قابلة للتطوير خلال مراحل التنفيذ المُمتدة على مدار سنوات القرار/ الخطة (2023-2018) من قِبَل الجهات المُكلّفة بذلك. ومن الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى أن القرار يُشير صراحةً إلى ضرورة تأهيل شرق المدينة وبنيتها التحتية على غرار ما هو حاصل في جزئها الغربي وإزالة الفوارق باعتبار مدينة القدس بشرقها وغربها كلّاً مًتكاملاً دون الإشارة إلى خصوصية القدس الشرقية ومسألة الوجود العربي ومستقبل هذا الوجود أو حتى مُستقبل الجزء الشرقي منها.

رابعاً: الخدمات ونوعية الحياة

يدّعي القرار أن الهدف هو تقليص الفجوات في الخدمات الحكومية والبلدية المُقدّمة لسكان شرق المدينة عبر تحسين وتطوير البنية التحتية الترفيهية (بميزانية قدرها الإجمالي 110 ملايين شيكل) وتحسين البنية التحتية للمياه وللصرف الصحي (108 ملايين شيكل)، بحيث تُشكّل لجنة برئاسة المدير العام لوزارة القدس والتراث والمدير العام لبلدية القدس للإشراف على صياغة خطة تفصيلية ومخطّط تنفيذي يضمن تحقيق الأهداف الواردة في هذه الخطة واستخدام الميزانيات المُخصصة لذلك في هذا القرار لتحقيقها.

خامساً: الصحة

يقترح القرار تخصيص مبلغ 50 مليون شيكل موزّعة على خمس سنوات من أجل تحسين الخدمة الطبية المُقدّمة في القدس الشرقية، وهو المبلغ الأقل من بين المبالغ المُخصّصة للمجالات الأخرى التي يشملها القرار. وهو الأمر الذي يُشير بوضوح إلى النوايا الإسرائيلية الحقيقية من هذا القرار وغيره التي تسعى لتحقيق السيطرة على المدينة وتهويدها بالكامل دون الأخذ بعين الاعتبار الوجود الفلسطيني والعربي فيها أو حتى الخدمات التي يحصلون عليها.

سادساً: تخطيط العقارات وتسجيلها

يظهر التوجّه الإسرائيلي في هذا الجانب بشكل واضح؛ فالهدف هو سرقة أراضي المواطنين الفلسطينيين في القدس الشرقية والتضييق عليهم كسياسة مُتبعة منذ فترة طويلة لإخراجهم منها وإفراغ المدينة من الفلسطينيين؛ حيث يقترح القرار تسجيل وتنظيم وتسوية 100% من أراضي القدس الشرقية خلال فترة الخطة وفق قانون التسوية العقارية الصادر في العام 1969 وتلك القوانين التي تنطبق على شرق المدينة (وربما الإشارة هنا إلى بعض الأوامر العسكرية وقرارات المحكمة العليا بشأن تسوية الأراضي على غرار ما هو معمول به في الضفة الغربية)، ولتحقيق هذا الغرض تُخصّص الخطة مبلغ 50 مليون شيكل موزعة بالتساوي على الأعوام 2018- 2023..

إن الموازنات الضخمة التي خصّصها هذا القرار "لتقليص الفجوات الاقتصادية الاجتماعية لسكان القدس الشرقية"، بحسب ما ورد في عنوانه ومضمونه، والتي تُقدّر بحوالي 1.8 مليار شيكل، تكشف عن الاهتمام الكبير الذي توليه الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة للمدينة باعتبارها كُلاً مُتكاملاً "كعاصمة موحّدة لإسرائيل" دون اعتبار القدس الشرقية منطقة فلسطينية أو ربّما ستكون كذلك في سياق أي تسوية سياسية مُستقبلية، وهذا يُفسّر في سياق الرغبة الإسرائيلية الساعية لتدمير أي حل أو تسوية مُستقبلية من شأنها أن تضمن للفلسطينيين سيادة على القدس الشرقية كعاصمة لدولتهم المنشودة.

إجمالاً، يُقدم هذا القرار لمحة عن السياسات الإسرائيلية الاستعمارية المُتّبعة منذ احتلال المدينة لتهويدها و"عبرنتها" وهو الأمر الذي يتطلّب تحقيقه تضييق الخناق على سكّانها بهدف دفعهم باتجاه الخروج منها وهو ما يحدث بالفعل في بعض الحالات التي لا تقدِر على البقاء بفعل الظروف الاقتصادية الصعبة المفروضة عليهم إلى جانب السياسات والمُمارسات الاستعمارية الأخرى. فتقليص الفجوات الاقتصادية- الاجتماعية بين سكّان شرق القدس وغربها، كما هو وارد في هدف هذا القرار، هو عملياً تعميق، بل وزيادة لهذه الفجوات من خلال عمليات الدمج اللامُتكافئ الذي تُفرز بشكل طبيعي هذه الفجوات وتُعمّقها بشكل أكبر بين سكان شرق المدينة وغربها كإحدى أدوات المنظومة الاستعمارية الصهيونية - ودولة إسرائيل كأداة تنفيذ- لتحقيق أهدافها المُتمثّلة في السيطرة والاقتلاع والمحو والإحلال.

 

 

 

 

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات