في 18 تشرين الثاني 2025، أعلنت إسرائيل عن مصادرة 1,800 دونم من أراضي سبسطية، في خطوة تبرّرها تحت شعار "استعادة التراث اليهودي في الضفة الغربية". تُعدّ هذه المصادرة "الأثرية" الأكبر من نوعها منذ العام 1967، وتشير إلى نمط جديد من الذرائع التي تستخدمها إسرائيل لتعميق مشروع تهويد الضفة. يضم موقع سبسطية طبقات أثرية تمتد من العصر الحديدي مروراً بالعصور الرومانية والبيزنطية والصليبية، وقد أدرجته دولة فلسطين العام 2012 على القائمة الإرشادية لمواقع التراث العالمي لدى اليونسكو. تتناول هذه المقالة تاريخ الاستيطان الإسرائيلي في سبسطية منذ العام 1974، وتحولات دوره في المشهد الاستعماري الراهن.
من سبسطية بدأ الاستيطان في الضفة الغربية
في 25 تموز 1974 وصل نحو 150 مستوطناً، يرافقهم ما يقارب 2,000 إسرائيلي من داعمي توسيع الاستيطان اليهودي في الضفة الغربية، إلى محطة القطار المهجورة بالقرب من قرية سبسطية في محافظة نابلس. كان بين المرافقين 18 عضواً في الكنيست من حزبي الليكود والمفدال، من بينهم مناحيم بيغن، أريئيل شارون، وإيهود أولمرت، وهم جميعاً أصبحوا لاحقاً رؤساء وزراء لإسرائيل.
مع اقتراب الساعة السابعة مساءً، توقفت الشاحنات في محيط سبسطية، وبدأ المستوطنون ومئات المؤيدين بنصب الخيام، مدّ الأسلاك الشائكة، وإقامة معسكر حمل اسم "ألون موريه". وتولت النساء تنظيف مبنى المحطة المهجورة. وفي غضون دقائق كان الموقع قد سُيّج ورفعت عند مدخله لافتة كتب عليها "مستوطنة ألون موريه".
يمكن القول إن الاستيطان في الضفة الغربية بدأ فعلياً كمشروع توسّع سياسي منظّم مع هذا الحدث في سبسطية، رغم قيام عدد قليل من المستوطنات قبله لأغراض أمنية واستراتيجية (مثل غوش عتصيون وكريات أربع وبعض مواقع الجيش في الأغوار). لكن سبسطية شكّلت نقطة تحوّل حاسمة؛ فقد جاءت بدفع حركة أيديولوجية منظَّمة قادتها حركة "غوش إيمونيم" التي سعت إلى إعادة رسم حدود إسرائيل وفرض وقائع ثابتة على الأرض. ولهذا اكتسبت الحادثة في الخطاب الإسرائيلي اسم "قضية سبسطية".
بعد محاولة إقامة المستوطنة، أمهلت الحكومة الإسرائيلية (برئاسة رابين– بيريس) المستوطنين أربعة أيام للمغادرة. ومع انتهاء المهلة نُفّذ الإخلاء بالقوة من قِبل الجيش الإسرائيلي، في مشهد مثّل بداية الانقسام داخل المجتمع الإسرائيلي بشأن مشروع الاستيطان.
عاد المستوطنون ثلاث مرات لمحاولة إنشاء المستوطنة في الموقع؛ انتهت محاولتان بالإخلاء، بينما انتهت الثالثة بما عُرف لاحقاً بـ "تسوية سبسطية"، حيث سمحت الحكومة بانتقال جزء من النواة الاستيطانية إلى المعسكر العسكري في قدوم (لاحقاً، مستوطنة كدوميم)، وهو ما مثّل عملياً انطلاق المشروع الاستيطاني في شمال الضفة الغربية. أضحت أحداث سبسطية لاحقاً محطة رمزية ترسّخ صعود "غوش إيمونيم"، وبداية نموذج توسّعي يقوم على "اقتحام الأرض ثم فرض الأمر الواقع".
سبسطية خلال اتفاق أوسلو
بعد "قضية سبسطية"، أُقيمت سلسلة من المستوطنات في شمال الضفة الغربية، بينها كدوميم وألون موريه وشافيه شومرون وغيرها، وجميعها شيدت على أراضٍ كان أهالي سبسطية والقرى المجاورة يستخدمونها تاريخياً. وربط الخطاب الاستيطاني والرسمي هذه المستوطنات مباشرة بما يصفه بـ "انتصار سبسطية". وفي الذاكرة الاستيطانية تحوّلت سبسطية إلى قصة تأسيسية تُدرَّس في المدارس وتُستعاد في الجولات والفعاليات السنوية باعتبارها "الحدث الذي بدأ منه الاستيطان"، ما رسّخ مكانتها الرمزية رغم صِغر مساحتها الفعلية.
بعد اتفاقيات أوسلو، قُسّمت سبسطية بين منطقتين: صُنِّف الموقع الأثري الأساس الذي يعدّه المستوطنون جزءاً من "مملكة إسرائيل القديمة" ضمن منطقة "ج"، بما يشمل ما تسمّيه إسرائيل "الحديقة الوطنية" والخرائب والأراضي المفتوحة. أمّا أجزاء من القرية الفلسطينية المجاورة فوضعت ضمن منطقة "ب"، مع بقاء الصلاحيات الأمنية بيد إسرائيل.
تخضع منطقة "ج" في سبسطية بالكامل للإدارة المدنية، ما ينعكس على التخطيط، والبناء، وحركة الوصول. وقد أدّت مشاريع البنية التحتية الإسرائيلية وقرارات المصادرة الجديدة إلى توسيع نطاق هذه المنطقة في السنوات الأخيرة. ومنذ أوسلو، أدى تصاعد النشاط الاستيطاني، وتكثيف الحفريات الأثرية الرسمية، وزيادة الاستثمارات الحكومية، إلى تحويل منطقة "ج" المحيطة بسبسطية إلى بؤرة توتر تدور حول السياحة، واستخدامات الأرض، وادعاءات "التراث". ونتيجة لذلك فقد المزارعون الفلسطينيون إمكانية الوصول إلى آلاف الدونمات.
خلال العقدين الممتدين حتى 2000 و2010، شهد التلّ الأثري قرب سبسطية عملية ترويج مكثّف قادتها منظمات يمينية ومؤسسات رسمية، قدّمته بوصفه موقعاً لـ "تراث مملكة إسرائيل". تزامن ذلك مع ارتفاع كبير في زيارات المدارس والجولات الدينية– القومية. وفي المقابل، وثّق المزارعون الفلسطينيون اعتداءات متصاعدة على أراضي الزيتون، خصوصاً حول مستوطنة شافيه شومرون. وفي العام 2022 تم اقتلاع وتخريب أكثر من 200 شجرة زيتون تعود لأهالي سبسطية على أيدي مستوطنين، ضمن حملة ضغط تهدف إلى الحدّ من قدرة الفلسطينيين على استخدام أراضيهم المحيطة بالموقع.
2024-2025: الآثار التوراتية في قبضة التوسع الاستيطاني
في أيار 2023 خصّصت الحكومة الإسرائيلية 32 مليون شيكل لتطوير تلّ سبسطية كموقع سياحي إسرائيلي، في خطوة وُصفت بأنها محاولة لعرقلة المشروع الفلسطيني المدعوم من اليونسكو. بيد أن القرار كان أكثر مدفوعاً بسياسات الحكومة التوسعية التي يشكل التيار الاستيطاني (بزعامة سموتريتش وستروك) أحد أعمدتها الرئيسة.
في 18 تشرين الثاني 2025 أعلن الجيش الإسرائيلي نيّته مصادرة نحو 1,800 دونم من أراضي الموقع الأثري في سبسطية، في ما يُعدّ أكبر عملية مصادرة لأغراض "الآثار" في الضفة الغربية منذ احتلال العام 1967. وتقع المنطقة المصادَرة بمحاذاة منازل القرية ومنطقة "ب"، وتشمل آلاف الدونمات المزروعة بأشجار الزيتون. وتعود ملكية هذه الأراضي إلى فلسطينيين من قريتي برقة وسبسطية وهي مسجّلة في الطابو، وقد مُنح الأهالي 14 يوماً فقط لتقديم اعتراضاتهم.
كانت عمليات المصادرة تحت غطاء "الآثار" نادرة نسبياً خلال عقود الاحتلال، وسُجّل منها أربع حالات فقط منذ 1967:
- سوسيا (1985): صادرت إسرائيل 286 دونماً من أراضي قرية سوسيا في جنوب الخليل، وهُجّر سكان المنطقة من منازلهم ونُقلوا إلى موقع سكنهم الحالي. بعد المصادرة، خضع الموقع لإدارة المجلس الإقليمي "هار حفرون"، ولا يُسمح للفلسطينيين بدخوله إلا بعد دفع رسوم لسلطة الطبيعة والحدائق الإسرائيلية.
- كنيس أريحا القديم (1982): تمت مصادرة نحو 2 دونم تعود للموقع الأثري لكنيس أريحا القديم.
- دير قلعة ودير سمعان (2020): صودرت نحو 24 دونماً تعود لموقعي دير قلعة ودير سمعان. ويقع الموقعان اليوم داخل حدود مستوطنتي "عاليه زهاف" و"بدوئيل"، ولا يستطيع الفلسطينيون الوصول إليهما نهائياً.
- موقع أرخيلاويس في الأغوار (2023): تمت مصادرة 139 دونماً بزعم احتواء المنطقة على آثار تُنسب لأرخيلاويس في غور الأردن (وحسب الأسطورة اليهودية، فإن أرخيلاويس هو ابن هيرودس الكبير، كان حاكم يهودا والسامرة 4 ق.م–6م).
ورغم تصنيف هذه المصادرات على أنها "للمصلحة العامة"، فإنها أدّت عملياً إلى إقصاء الفلسطينيين ومنعهم من الوصول إلى مواقعهم التراثية. وتكتسب حالة سبسطية حساسية استثنائية، إذ يشكّل الموقع ركيزة اقتصادية وثقافية وسياحية لسكان القرية، حيث تنتشر حوله المطاعم ومحال الهدايا وبيوت الضيافة، ويعتمد عدد كبير من الأهالي على حركة الزوّار في معيشتهم. كما يقع الموقع داخل النسيج العمراني للقرية، فيما تستهدف المصادرة الجزء الغربي الأقل كثافة سكانية والمغطّى بكروم الزيتون.
تُعدّ المساحة المصادرة هذه ضخمة وغير مسبوقة. فالمساحة الأثرية المفتوحة أمام الزوّار لا تتجاوز 60 دونماً، بينما يشمل الإعلان الجديد 1,800 دونم دفعة واحدة. ويأتي القرار امتداداً لسياسات حكومية بدأت في العام 2023 بتخصيص ميزانية التطوير، ثم توسّعت بحفريات واسعة في 2025، إلى جانب مشروع حكومي لإقامة مستوطنة سياحية في محطة القطار القريبة.