سارع محللون وخبراء اقتصاد إسرائيليون إلى طرح تصورات لانتعاش الاقتصاد الإسرائيلي، في حال تم تطبيق اتفاق وقف الحرب، وحتى إنهائها، وعودة مستثمرين أجانب، وحتى استثمارات إسرائيلية غادرت إلى الخارج، بسبب انعكاسات الحرب على الاقتصاد، ومنها انخفاض النمو، وارتفاع كلفة المعيشة، ما قلص حجم الاستهلاك الفردي؛ وفي المقابل ظهرت تخوفات من استمرار المقاطعة الشعبية للبضائع الإسرائيلية، في أسواق عالمية، خاصة أوروبية، إذ أن الصادرات اليها انخفضت هذا العام بنسبة 15%. إلى ذلك انهار تدريج إسرائيل في اللائحة الدولية بشأن معدل الفرد من الناتج المحلي، من المكانة 15 التي سجلتها في العام 2020، إلى المكانة 38 عالميا في العام الجاري، والقسم الأكبر من هذا التراجع يعود إلى تداعيات الحرب على الاقتصاد وغلاء المعيشة.
وكانت أولى التقديرات الإسرائيلية المتفائلة أن وقف الحرب سيقود إلى عودة شركات طيران عالمية إلى إسرائيل، ما سيساهم في خفض تذاكر السفر، التي سيساهم ارتفاعها في ارتفاع التضخم المالي، وهذا ما لاقى انتقادا من خبراء اقتصاد، من حيث تأثير أسعار تذاكر السفر على التضخم، رغم أن شراء التذاكر ليس بهذا الحجم الذي يظهر في سلة المشتريات والاستهلاك، التي على أساسها يتم احتساب نسبة الغلاء.
كذلك في تقدير المحللين فإن عودة الاستثمارات الأجنبية وحتى الإسرائيلية، ستنعش أسواق المال الإسرائيلية، رغم أنها سجلت ارتفاعات غير مسبوقة في عامي الحرب، في حين ستستمر قيمة الشيكل في الارتفاع أمام العملات العالمية، أو تحافظ على وضعها الحالي المرتفع، فسعر صرف الدولار انخفض منذ مطلع العام الجاري بنسبة 10.6%، وتراجع عن الذروة التي سجلها في الأسابيع الأولى للحرب، بنسبة تفوق 15%.
تخوفات من استمرار المقاطعة الاقتصادية خاصة الشعبية
يتوقع المحللون والخبراء الإسرائيليون أن تنتهي أو تتقلص حالة المقاطعة الاقتصادية لإسرائيل، لكن مع تقديرات موازية بأن تستمر المقاطعة الشعبية في دول مركزية في العالم للبضائع الإسرائيلية، خاصة الأوروبية، إذ بحسب تقرير لمكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي، فإنه خلال هذا العام تراجعت الصادرات الإسرائيلية إلى أوروبا بنسبة 15%.
وفي الآونة الأخيرة، تعددت التقارير الاقتصادية الإسرائيلية التي استعرضت أوجه مقاطعة الاقتصاد الإسرائيلي في العالم، مع تركيز خاص على أوروبا التي تراجعت فيها الصادرات الإسرائيلية بنسبة 15%. وإذا كانت هذه التقارير قد تكثفت في فترة قرار الحكومة الإسرائيلية احتلال وتدمير مدينة غزة وجوارها، فإنه حتى في المؤشرات الأولية لوقف الحرب، التي ظهرت في الأيام الأخيرة، لا تعني أن المقاطعة ستنتهي في اللحظة التي تتوقف فيها الحرب فعليا، لأن المقاطعة قد تستمر على الأغلب في الأسواق، من جانب الجماهير الشعبية، التي قد تواصل معاقبة إسرائيل اقتصاديا.
وكان تقرير لمكتب الإحصاء المركزي، صدر في نهاية أيلول الماضي، قد قال إن الصادرات الإسرائيلية إلى أوروبا تراجعت، في ثلاثة أشهر من هذا العام، حزيران وتموز وآب الماضية، بنسبة 15.4%، وبمعدل سنوي قدره 24.8% إلى الاتحاد الأوروبي.
وبحسب التقارير الاقتصادية، فإن انخفاض الصادرات إلى أوروبا شهد اتجاها ثابتا منذ بداية العام الجاري، على الرغم من أن الواردات منها شهدت زيادة طفيفة، ما أدى إلى اتساع العجز التجاري مع أوروبا. وقد حدث هذا حتى قبل التطورات في الأمم المتحدة والمفوضية الأوروبية لمحاصرة إسرائيل سياسيا. ويعود سبب انخفاض الصادرات إلى الحرب مع إيران في حزيران، والأضرار التي لحقت بمصفاة البترول في حيفا، والحرب في غزة، التي صعّبت الأمور على المصدّرين.
ويقول المحلل الاقتصادي سامي بيرتس، في تقرير له في صحيفة "ذي ماركر": "قد يُحوّل انخفاض الصادرات أوروبا من أكبر شريك تجاري لها إلى ثاني أكبر شريك بين القارتين بحلول نهاية العام. في الفترة من كانون الثاني إلى آب 2024، بلغ إجمالي الصادرات إلى أوروبا 49.2 مليار شيكل (قرابة 15 مليار دولار بحسب سعر الصرف في هذه الأيام)، مقارنة بصادرات بلغت 40 حوالي مليار شيكل إلى الولايات المتحدة. وخلال الفترة نفسها من العام، انخفضت الصادرات إلى أوروبا إلى 42.9 مليار شيكل، وانخفضت الصادرات إلى الولايات المتحدة بشكل طفيف إلى 39.5 مليار شيكل".
وقد أظهرت بيانات الصادرات حسب كل دولة، التي ينشرها مكتب الإحصاء المركزي بالدولار، أن التغيير الأبرز في الفترة قيد الاستعراض كان مع أيرلندا، حيث انخفضت الصادرات إليها بنسبة 50%، من 2.2 مليار دولار إلى 1.1 مليار دولار. وكانت أيرلندا من بين الدول الثلاث الأولى (إلى جانب النرويج وإسبانيا) التي اعترفت بدولة فلسطينية في أيار 2024، وتُعتبر من أكثر الدول الأوروبية انتقادا لإسرائيل.
وتابع بيرتس أنه يُلاحظ الانخفاض الحاد والمستمر في التجارة الخارجية مع تركيا، في أعقاب قرار الرئيس رجب طيب أردوغان فرض حظر تجاري على إسرائيل. فقد أدى ذلك إلى توقف شبه كامل للصادرات الإسرائيلية إلى تركيا، والتي بلغت 1.15 مليار دولار في العام 2023، وانخفضت إلى 7 ملايين دولار فقط في الأشهر الثمانية الأولى من العام 2025. كما سجلت الواردات من تركيا انخفاضا حادا، من 4.6 مليار دولار في العام 2023 إلى 2 مليار دولار في العام 2024، ثم إلى 612 مليون دولار في الأشهر الثمانية الأولى من العام.
وقال: "في الواقع، فإن الواردات من تركيا أكبر، لأن التجار الأتراك وجدوا طرقا للالتفاف على الحظر من خلال التصدير عبر دول ثالثة في منطقة البحر الأبيض المتوسط. وقد يكون هذا أحد تفسيرات تضاعف الواردات من اليونان، التي قفزت من 490 مليون دولار في العام 2023 إلى 984 مليون دولار في العام 2024، واستمرت في النمو في الفترة من كانون الثاني إلى آب من هذا العام بنسبة 52% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024.
"وقد تمكنت إسرائيل من التغلب على المقاطعة التركية من دون أي صدمات خاصة، على الرغم من التجارة الكبيرة بين البلدين. بلغت الواردات من تركيا 6.3% من إجمالي الواردات إلى إسرائيل في العام 2023، بينما لم تتجاوز الصادرات إليها 2.5% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية. وينصب تأثير المقاطعة التركية بشكل رئيسي على المنتجات المستوردة".
وتابع بيرتس: "كانت تركيا مصدرا مهما لمدخولات البناء والتصنيع بالنسبة لإسرائيل: إذ استوردت حوالي نصف إجمالي واردات الإسمنت والجبس ومنتجاتهما، وحوالي خُمس إجمالي واردات الحديد والصلب. ويُعتبر حظر بيع الإسمنت إلى إسرائيل إشكاليا بشكل خاص، نظرا لاستيراد 45% من إسمنت البلاد من تركيا، وقد ثارت مخاوف من أن يؤدي ذلك إلى زيادة تكاليف البناء، مما يؤثر سلبا على أسعار الشقق السكنية".
وختم المحلل بيرتس تقريره كاتبا: "إذا كان التنبؤ بالنمو الاقتصادي في السنوات الأخيرة يعتمد على عوامل مثل التجارة العالمية، وحالة التكنولوجيا المتقدمة عالميا، وبيئة أسعار الفائدة، فيبدو أن القرارات السياسية والعسكرية هي التي ستحدد مسار الأمور الآن. ليس أن العالم لم يعد منشغلا بأسعار الفائدة والتعريفات الجمركية، بل إن كل تعامل مع إسرائيل، التي حافظت على مدى نحو 20 عاما على صورة "معجزة اقتصادية" شرق أوسطية، أصبح الآن مُحاطا بصبغة سياسية فقط، وبدلا من قصص الشركات الناشئة المبتكرة، يسمع شركاء إسرائيل التجاريون عن جرائم حرب وخطة مستقبلية على غرار خطة إسبارطة (خطاب نتنياهو السابق). لقد أصبحت كرة الثلج السياسية أقرب من أي وقت مضى إلى امتلاك القدرة على تدمير الاقتصاد".
انهيار تدريج إسرائيل للنمو وتجميد الفائدة
وكان بنك إسرائيل المركزي، على لسان المحافظ أمير يارون، قد قرر في نهاية أيلول الماضي، إبقاء الفائدة البنكية عند مستواها العالي نسبيا، 6% بالمجمل، منها 1.5% ثابتة و4.5% متحركة، رغم كثرة التوقعات بأن يخفض البنك الفائدة، خاصة وأن معدل التضخم السنوي في شهر آب الماضي قد هبط دون السقف الأعلى الذي حددته السياسة الاقتصادية منذ مطلع سنوات الألفين، 3%، وكان في آب 2.9%، إلا أن جميع المحللين الاقتصاديين أجمعوا على أن قرار بنك إسرائيل يعكس حالة عدم الثقة بالنهج الاقتصادي الحكومة، ويرى حالة عدم الاستقرار.
كذلك قال البنك لدى عرضه قرار الفائدة، إنه في حال استمرت الحرب حتى نهاية العام الجاري فإن النمو الاقتصادي في هذا العام سيكون 2.5%، بدلا من توقعاته السابقة- 3.3%، وهي أيضا أقل من توقعاته في مطلع العام الجاري بأن يكون النمو هذا العام بنسبة 4%، وفي العام المقبل 2026 سيكون بنسبة أكبر.
بموازاة هذا، ظهر تقرير عالمي أدرج إسرائيل في المكان 38 في اللائحة العالمية التي تدرّج دول العالم من حيث معدل الفرد من الناتج المحلي، في حين أن إسرائيل ارتفعت في العام 2020 إلى المكانة 15، ثم تراجعت في العام 2022، وكانت في المرتبة 34، وتراجعها هذا في العامين الأخيرين، هو من انعكاسات الحرب على الاقتصاد.
لكن هذا التقدير الذي وضع إسرائيل في المكانة 38، كان على أساس أن النمو الاقتصادي سيسجل هذا العام ارتفاعا بنسبة 3.5%، في حين أن البنك المركزي خفّض تقديراته في مطلع آب الماضي إلى نسبة 3.3%، ثم حذر في تقريره الأخير، المذكور هنا، أنه في حال استمرت الحرب ستهبط النسبة إلى 2.5%، وهذا سينعكس مباشرة على حجم الناتج المحلي، ومعدل الفرد منه.
وبحسب تقديرات صندوق النقد الدولي، فإن معدل الفرد من الناتج المحلي في محيط 57 ألف دولار، مع الإشارة إلى أن قسما من هذه القيمة الدولارية يعود، كمال ذكر هنا، إلى انهيار سعر صرف الدولار أمام الشيكل، منذ مطلع العام الجاري بنسبة 10.6%، كما أن سعر صرف الدولار تراجع منذ أن سجل أعلى سعر له بعد أسابيع قليلة من بدء الحرب، وحتى نهاية الأسبوع الماضي، عند أغلاق باب التداول يوم 10 تشرين الأول الجاري بنسبة 15%، ولا توجد تفسيرات قاطعة لتحسن الشيكل أمام العملات العالمية، وليس فقط أمام الدولار.
وقال المحلل الاقتصادي سامي بيرتس، في مقال آخر له في صحيفة "ذي ماركر"، إن هناك تداعيات كبيرة للحرب على الاقتصاد وميزانية الدولة، وكلفة تجنيد جيش الاحتياطي، وسوق العمل، وبالتالي على الأسعار في السوق. وهذا ما منع بنك إسرائيل من خفض سعر الفائدة حتى الآن. وهذا ما يمنعه كذلك من خفض سعر الفائدة الآن، على الرغم من أن إدارة الأبحاث في بنك إسرائيل تتوقع تضخما بنسبة 2.4% في الأرباع (الفصول) السنوية الأربعة المقبلة، وهو معدل يقع ضمن هدف التضخم الحكومي (1%-3%).
وأكد المحلل الاقتصادي أدريان بايلوت، في مقال له في صحيفة "كالكاليست"، أن محافظ بنك إسرائيل المركزي "يدرك المخاطر، ولذلك قرر الانتظار قبل خفض الفائدة، وهو محق في ذلك: فالمشاعر سلبية، ويبدو أن قادتنا ليسوا مُركزين أو منخرطين في خضمّ هذه الأزمة".