"الطريق إلى إخفاق السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023"، أو "كيف وصلنا إلى يوم فقدان السيادة الإسرائيلية لنحو يومين كاملين"، حسبما وصفه أحد المحللين الأمنيين ـ الاستراتيجيين الإسرائيليين، هما اثنان فقط من بين عناوين كثيرة تُطرَح عبر صياغات مختلفة تبعاً لاختلاف خلفياتها وتوجهاتها ومقاصدها، لكنها تلتقي، كلها، في الإجماع على أن ما حصل يوم 7 تشرين الأول لم يكن مجرد خطأ استخباراتي أو عطل عملانيّ موضعيّ، وإنما كان نتيجة تراكمية حتمية تمثلت في انهيار شامل مدوٍّ للرؤية الأمنية والسياسية التي تربعت على صدارة ما يمكن تسميته بـالفكر السياسي ـ الأمني وتحكّمت بمُخرجاته خلال العقود الأخيرة، وثمة من يحصرها في الفترة منذ عودة بنامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية في 2009.
شكلت أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر لحظة فارقة في خطاب "اليسار" أو ما يطلق عليه اسم "معسكر السلام" في إسرائيل، حيث ظهرت بوادر مراجعات ذاتية لدى اليسار الإسرائيلي فيها نوع من جلد الذات، ليس فقط نابعة من الأحداث، وهي ذات أثر كبير عليه بسبب تأطيرها بأنها "هجمات ضد اليهود لأنهم يهود"، بل أيضاً ناجمة عن تعرّض أجزاء من هذه الشريحة نفسها إلى تلك الهجمات في "غلاف غزة". في هذا الصدد اختلطت الصدمة السياسية والأيديولوجية مع الصدمة والألم الشخصي لدى شرائح اجتماعية في هذا المعسكر.
تهدف هذه الورقة إلى إجراء مراجعة وقراءة أولية لخطاب اليسار أو "معسكر السلام" في إسرائيل بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023، ولن تفي هذه الورقة الموضوع حقه، ولكنها بداية لدراسة بهذا الشأن.
دخلت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة شهرها الثاني. وقد جرى شنّها في إثر الهجوم المباغت لحركة حماس على مواقع عسكرية في منطقة الحدود مع قطاع غزة، وعلى ما يعرف باسم "بلدات غلاف غزة"، يوم 7 تشرين الأول الماضي. وبالرغم من انشغالنا في الوقت الحالي بعملية جمع المواد المتعلقة بالحرب وتوثيقها وأرشفتها، بما يُتيح لنا في المستقبل إمكان الوقوف التفصيليّ عندها، وفهم ما أدّى إليها وما وقف وراءها غير بعيد عن سياقها المُحدّد وعن السياق الأوسع، التاريخيّ، فإن هذا لا يمنع من القيام هنا بوقفة استبصار من أجل إجمال ما استجد منها حتى الآن، وتقديم ماهية قراءتها في تطوراتها وتداعياتها الآخذة بالتراكم، من وجهة نظر المحللين الإسرائيليين أنفسهم.
في تعقيبه على بدء العملية البرية في قطاع غزة، قال رئيس الولايات المتحدة جو بايدن: "يجب أن يكون هناك تصور لما سيأتي بعد الحرب... من وجهة نظرنا يجب أن يكون هناك حل على أساس دولتين". منذ بدء الانقسام الفلسطيني ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة، تم وضع مسار "حل الدولتين" على الرف إلى حين توحد الفلسطينيين تحت قيادة واحدة. اليوم، وبعد أن وضعت إسرائيل لنفسها هدفا حربيا يكمن في "إسقاط حركة حماس عن السلطة في غزة"، تبرز ثلاثة أسئلة لا إجابات عليها حتى الآن: 1) هل هذا الهدف قابل للتطبيق؟ 2) في حال تم تطبيقه، ما هو المستقبل السياسي للقطاع؟ 3) هل هذا المستقبل السياسي، الذي ما يزال غير واضح المعالم، سوف ينقل ملف "حل الدولتين" من الرف ليضعه كاستحقاق أمام الحكومة الإسرائيلية من جديد؟
من الصعوبة بمكان إيجاد أجوبة إسرائيلية واضحة على هذه الأسئلة. ولكن هذه الورقة تجول فيما بين هذه الأسئلة وتهدف إلى شرح وتفكيك العقيدة التي نظمت علاقة إسرائيل مع قطاع غزة قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، وهي عقيدة تتأسس على عرقلة مسار حل الدولتين. وتحاول الورقة أن تنظر في الثابت والمتحول في هذه العقيدة.
الصفحة 104 من 894