المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.
انتصار روح العسكرة في إسرائيل: العنف ينفجر داخلياً أيضاً. (الصورة عن "أ.ف.ب" لقمع تظاهرة مناوئة للحكومة يوم 31 آذار 2024)

تكشف قراءة مقالات إسرائيلية كتبت في موضوع التربية للسلام منذ أكثر من 50 عاماً، أن نبوءتها السوداء قد تحققت. فإهمال السلام كقضية تربوية أدى بالفعل إلى انهيار الديمقراطية والتفكك الاجتماعي، مثلما توقعَت.

إذاً، فالتربية للسلام مهمة، أولاً وقبل كل شيء، للمجتمع الإسرائيلي داخلياً، قبل أن تصبح بكثير مهمة "لصالح" العرب. لكن يبدو أن التطبيق البسيط لهذه التربية، بواسطة التعارف واللقاء ليهود وعرب، ليس ممكناً في أزمان الحرب. والعدد الضئيل من المربيات والمربين الذين أظهروا مؤخراً درجة من التعاطف مع الوجود الفلسطيني، قوبلوا بتنديد شعبي بل وحتى بطردهم من المدارس.

بما أن الوقت ليس مناسباً للقاءات تعارف، فيمكن البدء في استيضاح وتفكيك كل ما يُعرض على أنه لا لبس فيه وكبد الحقيقة في الجانب الإسرائيلي. يجب علينا تفكيك الوحدة أحادية الطيف الزائفة التي تنشرها وزارة التربية والتعليم من خلال برامج الدروس مثل: "معا سننتصر مغلفين بالحب"، و"حراس الروح"، و"لبناء مناعة اجتماعية" وما شابه ذلك.

فهذه البرامج جميعها تزيد من التبرير الذاتي والعزلة والغطرسة، وتمنع الطلاب من إدراك الواقع المركب. وبدلاً من ذلك، يجب إلقاء الضوء على الوجود التعددي والمركب داخل إسرائيل. على حقيقة أنه ليست هناك أجوبة بالمرة على العديد من المسائل، أو أن هناك أكثر من جواب واحد؛ وعلى التنوع وعدم الاتفاق. إن الخريجات والخريجين الذين واجهوا التركيبات الاجتماعية في بيئة المدرسة المحمية، سيكونون جاهزين للقيام بذلك خلال بلوغهم في الحلبة الحقيقية.

التربية للسلام حين تكون الحرب حتميّة

كُتب مقالان في موضوع التربية للسلام عام 1970 وعام 1971. الأول بقلم يغئال ألون، الذي كان آنذاك وزيراً للتعليم، والثاني بقلم عكيفا سيمون، وهو بروفسور في التربية في الجامعة العبرية. وتوصل كلاهما إلى استنتاجات متشابهة، على الرغم من أنهما، وفقاً لوجهتي نظرهما، قد وقفا على طرفي المتراس السياسي.

كان يغئال ألون جندياً وضابطاً. وقاد في حرب العام 1948 سلسلة من العمليات واسعة النطاق مثل عمليات يفتاح وداني ويوآف، والتي تم خلالها احتلال عدد لا يحصى من القرى الفلسطينية، وتم طرد سكانها. حتى أنه عارض إنهاء تلك الحرب قبل أن يحتل الجيش يهودا والسامرة (الضفة الغربية) وشمال سيناء.

بالمقابل، كان عكيفا سيمون عضوا في حركة "بريت شلوم" التي تأسست في عشرينيات القرن الماضي. ورأى أعضاء الحركة في الصهيونية مشروعاً قومياً يهودياً لا يناقض القومية الفلسطينية القائمة ولا يأتي على حسابها. كان طموحهم هو إنهاء الانتداب البريطاني وإقامة دولة ثنائية القومية متساوية هنا.

ومع ذلك، فإن سيمون، كما يشهد في مقاله، لم يكن معارضاً مبدئياً للحرب. الفرق بينهما، كما يعكس المقالان، يتلخص في أن ألون وصف الحرب بأنها "ضرورة لا بد منها"، في حين كتب سيمون: "الضرورة الظاهرة مبررة، من وجهة نظر ذاتية للأسف".

النبوءات التي تحققت: تفكّك الديمقراطية والمجتمع

في ضوء حالة الحرب المستمرة، وصف سيمون ملامح المستقبل بإيجاز: "الشعب، المصاب بعذابات نفسية لا علاج لها، يتهدده الآن خطر الإدمان على غطرسة النصر والمبالغة في تقدير قوته". واليوم، بعد مرور خمسين عاما، يثبت شعار "معا سننتصر" أنه كان على حق.

أما ألون فكان ثاقباً أكثر، بل ومهدداً. "إن الكينونة العسكرية طويلة الأمد والمكثفة لهذا الحد، بحيث أن الطفل يتنفسها منذ لحظة خروجه إلى العالم ويلتقي بها وجهاً لوجه في شبابه، حين يكون ما زال مرتاحاً لتأثيرها واستيعابها – هي كينونة تحمل مخاطر جسيمة، من شأنها أن تضر بالوعي الإنساني للجيل، وقد تنمي فيه أيضاً تصلباً وصفات شرسة ستظهر غداً - إن لم يكن اليوم - عواقبها في كل منظومة علاقاتنا الإنسانية برمتها".

سيكون الضرر مضاعفا. أولاً، في النظام الديمقراطي: "كلما طال أمد الحرب أكثر، كلما تزداد بحكم الطبيعة قوة النزعات المناهضة للديمقراطية والاستبدادية في شارعنا، وسيزعمون أنهم بواسطة الأساطير الكاذبة سوف يجلبون الخلاص للمجتمع من خوائه الروحي، ومن تفريغه من القيم الاجتماعية".

ويكون الضرر ثانياً في التضامن الاجتماعي: "نعلم جميعاً أن الحرب تعني سلماً انتقائياً للأولويات أيضاً في الحياة الاقتصادية وفي تخطيط الأهداف الاجتماعية والتعليمية والثقافية. ومع ذلك فمن المحظور أن نتنازل باسم الأسباب الأمنية، افتراضاً، عن سعينا إلى مجتمع نموذجي عادل، الذي كلما كان أكثر عدالة، فسوف يكبر استعداد أبنائه للتماهي معه والدفاع عنه. لا يُعقل أن نبقي الأخوّة والضمان المتبادل لساحات القتال فقط. بل إنهما ملزمان – ربما بدرجة أكبر- للجبهة الداخلية".

الجواب: نقد وعقلنة

في إزاء الخطر الذي يهدد مستقبل البلاد والمجتمع، كتب سيمون أن: "من يرغبون في العمل، فيما هم يدركون هذا الخطر، ملزمون بفعل ذلك من منطلق التضامن النقدي". مع ذلك، ليس لدى سيمون حل سحري لكيفية الجمع بين الاثنين، وهو يترك الأمر لاعتبار وتقييم كل واحدة وواحد منا. يجب على "مربّي السلام" أن يعود في كل لحظة إلى تحديد الخط الفاصل بين النسبة الفائضة عن الحد أو تلك التي تقلّ عنه في ما يتعلق بدرجة النقد اللائقة أو درجة التضامن اللائقة".

وقد كتب ألون بشكل أوضح. "يتحتم علينا أيضاً المحاذرة في عدم طمس الحدّ الرفيع، لكن السحيق، الذي يفصل بين التربية الإيجابية في حد ذاتها عن نماذج البطولة، والعبادة الوثنية للحرب. فاليهودي الذي يسجد للحرب، يكاد يخرج نفسه من مضامين الموروث اليهودي. وهذا الأمر يحمل أهمية خاصة بحكم حقيقة أن الحرب هي واقع مهيمن ومطلق، والتي تتضاءل في إزائها جميع مجالات النشاط البشري الأخرى".

لذلك فإن "كل من يرغب في تربية إنسان كامل، قدر الإمكان، وليس إنساناً ذا بعد واحد – يجب عليه أن يسعى إلى عقلنة قصوى للدفاع عن النفس. بعبارة أخرى: النظر إلى الخدمة العسكرية باعتبارها دوره الوظيفي، فقط لا غير، وضرورة لا بدّ منها، وليس كأمثولة في حد ذاتها. إن إضفاء المثالية على الجيش بصفته هذه، يؤدي حتماً إلى النزعة العسكرية، والتي مثلها مثل القومية، هي عبادة أوثان غريبة عن اليهودية والمجتمع القيمي الذي حاولنا تأسيسه هنا، والذي نرغب في مواصلة وجوده والحفاظ عليه".

إسرائيل يجب أن تقود

يتفق الكاتبان على أن المسؤولية عن السلام ملقاة أولاً وقبل كل شيء على الجانب الإسرائيلي. تسويغاتهم مختلفة. سيمون يفترض أن الجانب الصهيوني والإسرائيلي هو المبادر والرائد في كل مجالات الحياة، ولذلك فمن واجبه القيام بذلك في هذا المجال أيضاً:

"لا يجوز لنا نحن اليهود أن نتوقع من العرب بأن يتخذوا الخطوة الأولى في التربية للسلام. مثلما جئنا إلى البلاد واستوطنا فيها وأسسنا دولتنا انطلاقاً من مبادرتنا نحن؛ ومثلما أننا اليوم العامل الرئيس في المنطقة في مجال التحديث [...] لذلك يجب علينا أيضاً أن نكون العامل المبادر والفعال في التربية للسلام، وأن نبدأ حُكماً بها منذ رياض الأطفال وداخل البيت، في الأسرة".

أما ألون فلا يقيم حساباً زمنياً على الإطلاق: من بدأ ومن سينهي. إن التربية للسلام، في نظره، هي حاجة إسرائيلية داخلية، ولذلك يجب أن نتخذها:

"السلام ليس هدفاً إنسانياً وسياسياً منشوداً فقط. إن الإيمان به وحبه وانتهاج سياسة سلام، مطلوبة لنا ليس للغرض السياسي فحسب - سواء لكسب قلوب العرب أو لخلق صورتنا بين الأمم – وإنما أولاً وقبل كل شيء، السلام مطلوب كحاجة يهودية داخلية للأجيال الشابة، ومن المحظور أن ييأس أبناء الجيل الشاب من السلام".

"إن الجيل الذي يتوقف عن الإيمان بالسلام، سيتوقف عن الإيمان بالحلول السياسية، وبالتالي سيتوقف أيضاً عن السعي للسلام، وسيعوّل فقط على الحرب الدائمة باعتبارها أسلوب الوجود الوحيد. إن الجيل الذي يتوقف عن الإيمان بالسلام سواء كقيمة إنسانية أخلاقية بحد ذاتها أو كهدف سياسي يجدر النضال من أجله والذهاب إليه، سيتحوّل، عملياً، لا سمح الله، إلى إنسان يعاني إعاقة روحية، وميزان قيمه مشوّه ومكسور".

لتفكيك الانتماء الزائف والعفّة المصطنعة

يدعو سيمون وألون معاً في تتمة مقاليهما إلى عقد لقاءات بين اليهود والعرب وزيادة تعليم اللغة والثقافة العربية في المدارس العبرية. وكما كتبت في المقدمة أعلاه، تبدو هذه التحركات غير عملية في ظل الأجواء العامة الحالية السائدة.

لقد وجدت اتجاهاً عملياً آخر في مقالين آخرين، يتناولان أيضاً التربية للسلام. أحدهما مدرج في الموسوعة التربوية التي صدرت العام 1961 (المجلد 1، ص 445). مصطلح "التربية للسلام" كتبه إسحق ليون كندل (Kandel) الذي كان بروفسوراً للتربية في جامعة كولومبيا في نيويورك، ومن دون نظرة إسرائيلية على الإطلاق.

يحاجج كندل بأن الإنسانية تستصعب تطبيق سياسة سلام، بسبب "التشكيك التقليدي نحو الغرباء"، وتصور مفهوم "الأمة" الذي يغذي هذا الشك. وفي هذا الصدد، اقتبس مصدراً سابقاً يعود للعام 1931 جاء فيه: "تم تعريف الأمة، بطريقة ساخرة ولكن دون تحريف، كمجموعة من الناس الذين يوحدهم مفهوم خاطئ مشترك عن أصلهم، وكذلك نفور مشترك من جيرانهم".

هذا الفهم، بجهتيه: الوحدة نحو الداخل والغربة نحو الخارج، تستخدمه أنظمة التعليم لصالح "التلقين القومي الضيق الأفق". و"توضع مواد التعليم ضمن الإطار الضيق لثقافة الأمة، ويتم التشديد فيها على ولاء الشخص لأمته، ويترافق الشعور بالوطنية بالاستعداد للقتال في ساحة المعركة من أجل الوطن".

لذلك فإن التربية للسلام تستوجب تفكيك الحقائق المطلقة. بدايةً بتفكيك أسطورة الوحدة أو الانتماء نحو الداخل، ثم أسطورة الغربة والكراهية نحو الخارج.

تظهر فكرة مماثلة في مقال البروفسور غابي سلومون "التربية للسلام" من العام 2007: "التربية للسلام تحارب سردية "نحن على حق". [...] التربية للسلام تحارب السردية التي تقول إن لكل شيء هناك جواب واحد واضح، وإذا كنت لا توافق على الجواب فإنك لست وطنيا. إن التربية التقدمية والتربية للسلام يحاربان سرديات (أو أمثولات) الاستبداد، الإطلاقية وما شابه ذلك من المسائل التي تتطلب قبول سلطة ومعادلة، بدلاً من حيّز للتساؤل والتفكير".

في الخلاصة: "فكرتنا هي أن نتعلم كيفية النظر إلى الأمور من وجهات نظر مختلفة ومتنوعة". ويمكن القيام بذلك هنا والآن، في أي موضوع وفي أي صف، حتى من دون صلة مباشرة بالحرب الحالية.

مصادر:

(*) يغئال ألون، "التربية للإنسانية في أزمان الحرب". قُدم في الأصل كمحاضرة في حفل توزيع شهادات تخرّج بجامعة حيفا، شباط 1970. منشور في: أدان شيفح (1989)، التربية لقيم حركة العمل. دار النشر: هكيبوتس همئوحاد. ص 191-200. الكتاب متوفر في موقع "كوتار".

(*) عكيفا أرنست سيمون، "التربية للسلام في أزمان الحرب". نُشر في الأصل بمجلة "بتفوتسوت هغولا" (في جاليات الشتات)، 1971. منشور في: عكيفا أرنست سيمون (1983)، حق أن تربي، واجب أن تربي. دار النشر: سفريات بوعليم ص 7-20. الكتاب متوفر في موقع "كوتار".

(*) هذا المقال نشر في الموقع الإلكتروني الإسرائيلي "سيحاه مكوميت" وهذه الترجمة خاصة بـ "المشهد الإسرائيلي".

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية, هكيبوتس همئوحاد

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات