المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بقلم: يائير شيلغ (*)

تتنبأ التقاليد اليهودية أن أيام الخراب ستتحول لتصبح أيام الخلاص. ففي أيام "بين الحدود" من هذه السنة (كناية عن الأسابيع الثلاثة الواقعة بين 17 تموز العبري، وهو - حسب الروايات اليهودية- يوم اقتحام القدس - و9 آب العبري، وهو يوم خراب هيكل سليمان) ثمة شعور بقرب أيام المسيح في إسرائيل، فها هو التضامن الإسرائيلي يبعث من جديد. لم يعد الناس مستعدين لأن يكونوا عبيدا لأصحاب رؤوس الأموال، أو التسليم بتحويل المزيد من الموارد والخدمات العامة إلى أيدي جهات خاصة، بل يريدون النضال من أجل تغيير شامل للنظام، وليس فقط الاهتمام بتحقيق "مصلحة خاصة" لأنفسهم. من كان يتصور أن شعارات وتعابير مثل "العدالة الاجتماعية" و"دولة الرفاه" ستعلو وتتردد مجدداً في شوارع المدن، وليس فقط من جانب حفنة من "الاشتراكيين المرهفين"، ممن ولى زمانهم، وربما أيضا أصبحوا "مهزومين".

إن اندلاع حركة الاحتجاج الشعبية الراهنة في إسرائيل يطرح عدداً من المسائل المثيرة للاهتمام، سواء فيما يتعلق بالاحتجاج ذاته، أو المخاطر المتربصة به، والتي يجدر أيضا مناقشتها بصورة جادة.

والسؤال المهم الأول هو : لماذا تفجر الاحتجاج في هذا التوقيت بالذات؟

هناك بطبيعة الحال إجابة ممكنة، ربما تكون الأفضل، هي أن الاحتجاج اندلع بصورة عفوية. فمثل هذه الحركات الاحتجاجية تبدأ دائما بعدد من الأفراد، الذين ربما كانت لديهم فسحة من الوقت أو الفراغ، أو ربما بلغ لديهم السيل الزبى، مما دفعهم للخروج إلى الشارع، وبذلك أعطوا إشارة الانطلاق لعشرات الآلاف ممن اعترتهم نفس المشاعر من اليأس والإحباط، وأنه آن الأوان لقرع أجراس العمل، وأخذ زمام المبادرة. ولكن إلى جانب هذه الإمكانية (الإجابة) المعروفة ربما تكون هناك أيضا عدة إجابات أكثر وزنا وأهمية. فمن المحتمل على سبيل المثال أن الشعور بالطريق المسدودة في المفاوضات مع الفلسطينيين تنحى أخيرا جانبا وترك حيزا في الأجندة القومية للمسائل المدنية، وفي مقدمها حقا الشعور بالسخط والاشمئزاز من ثقافة النهب والجشع والاستغلال والفجوات، وبيع كل القيم الإنسانية والثقافية بأنحس الأثمان. ربما نسينا، ولكن ذلك حدث في مطلع الألفية الثانية: فالشعور بالطريق المسدودة الذي نشأ وقتئذ في المفاوضات مع الفلسطينيين، مكن من تأسيس حزب "شينوي"، الذي ركز بنجاح انتخابي لافت (على الأقل طوال ولايتين للكنيست) على الشرخ الديني- العلماني. وهناك حدث أقرب وهو المصادقة في الكنيست على "قانون المقاطعة". ظاهريا لا توجد علاقة بين الموضوعين، ولكن من المحتمل جداً أن يكون تفجر الاحتجاج في جادة روتشيلد في تل أبيب (حيث أقيمت هناك خيمة الاحتجاج الأولى التي تبعتها حركة الخيام، والتي يبدو أنها تتماثل بشكل جلي مع منظمات ومجموعات ذات توجه يساري واضح) قد نبع من شعور قادة الاحتجاج أن الحكومة والأغلبية في الكنيست أعلنتا الحرب عليهم وعلى من يشاطرهم الرأي. وقد كان لسان حال هؤلاء يقول: أنتم لا تكتفون بسحق حياتنا اليومية، بل تضعوننا الآن في خانة الأعداء! من هنا أتت رغبة هؤلاء المحتجين في الانتقال إلى مواقع الهجوم، وفي أن يبرهنوا على أن "الصندوق الجديد" وباقي تنظيمات وحركات اليسار التي تواجه الهجوم (من الحكومة والأغلبية البرلمانية) لا تكرس اهتمامها فقط للموضوع الفلسطيني وإنما تهتم أيضا بفقراء إسرائيل. إذا صح هذا التقدير، فإن بنيامين نتنياهو قد يكتشف أن تأييده "قانون المقاطعة" لم يكن فقط موقفا غير موفق من جانبه، وإنما أيضا أحد الأخطاء السياسية الكبرى التي ارتكبها في حياته.

هناك ظاهرة بارزة اتضحت خلال الأسبوعين الأولين للاحتجاج، وهي أن ثمة معسكرا واحدا فقط يضع نفسه بشكل جلي في موقف المعادي لهذا الاحتجاج، ألا وهو معسكر اليمين الديني، وبالأخص المستوطنين. فجميع المقالات التي نشرت ضد الاحتجاج، كانت تقريبا بأقلام أبناء هذا المعسكر. وخلافا للتفكير السائد، فإن هذه الظاهرة لا تنبع فقط من الشعور بوجود تهديد سياسي لحكومة نتنياهو، أو من أن "المستوطنين ينعمون بالعيش في فيلاتهم وشققهم الفاخرة"، فحكومة نتنياهو لم تكن جيدة بشكل خاص للمستوطنين، كما أن شبان اليمين الديني يعانون من مشاكل سكن ومشاكل اقتصادية بصورة عامة. هذه الظاهرة تنبع بالأساس من مشكلة صعبة تسيطر أكثر فأكثر على علاقات اليمين واليسار في إسرائيل: نقل الخلاف والجدل من مجابهة موضعية في مسألة "المناطق"، إلى مجابهة شاملة ينظر فيها إلى كل رمز أو قيمة متماثلة مع المعسكر الأول كقيمة إشكالية لدى أتباع المعسكر الثاني. وعلى سبيل المثال فقد تحول العلم والنشيد الإسرائيليين، لدى جزء من أنصار اليسار، إلى رمزين إشكاليين بحكم تماثلهما مع "المعسكر القومي"، كما أن مفهوم الرفاه، المتماثل مع اليسار، بات في المقابل منبوذا ومرفوضا لدى الكثيرين من أعضاء وأنصار اليمين الديني، على الرغم من أن التوراة تبث رسالة اشتراكية واضحة. هذه المجابهة الشاملة بين المعسكرين هي شر مستطير دائما، ولكنها في السياق الحالي تعتبر أيضا خطأ سياسيا جسيما من جانب المستوطنين. لقد تحدث المستوطنون سنوات طويلة عن الرغبة في "الاستيطان في القلوب" والتقارب مع التيار المركزي للمجتمع الإسرائيلي. والآن، حين نشأت أخيرا فرصة كهذه، وبينما يبدي نشطاء التمرد الاحتجاجي- خاصة المتواجدين خارج تل أبيب- رغبة شديدة في التعاون مع أعضاء وأنصار الصهيونية الدينية، وحتى مع المستوطنين (ولو من باب إثبات أن الاحتجاج يشمل كل المعسكرات السياسية)، نجد أن أعضاء معسكر اليمين الديني يتخذون موقفا مناوئا للاحتجاج متذرعين بمختلف أنواع الادعاءات والمبررات الواهية، من قبيل أن أحد منظمي تظاهرات الاحتجاج شوهد في مظاهرة نظمتها جمعية "عدالة" (المركز القانوني لحقوق الأقلية العربية في إسرائيل)، أو أن آخر شوهد في مظاهرة لـ "الصندوق الجديد"، وما إلى ذلك. لكن هذه الادعاءات لا قيمة لها يا أصدقائي.. وإذا كنتم لا تحبون خيمة الاحتجاج في جادة روتشيلد، فبادروا إذن إلى إقامة خيمة احتجاج خاصة بكم مع رسائلكم، لكن ليكن واضحا أن هموم المجتمع الإسرائيلي تهمكم أيضا، وأنكم لا تتنكرون للمتضررين من التحالف بين رأس المال والسلطة.

على الرغم من كل ما قيل، يتعين على قادة الاحتجاج أيضا الحذر من دمغ قطاعات كاملة كأعداء. لقد شاركت في مظاهرة الاحتجاج التي جرت مساء السبت قبل الماضي في القدس، ووجدت من الأشياء المثيرة فيها أن ممثل الأطباء الاختصاصيين كان طبيبا عربيا شابا، والذي صاغ بلغة سلسة وواثقة، ليس كممثل لأقلية أعطي حق الكلام كمنة، مطالب وإدعاءات زملائه ضد الخطر المتربص بجهاز الصحة العامة. هناك مؤشرات تدل على أن الاحتجاج ينجح حقا في مد جسور التقارب بين اليهود والعرب في نضال مشترك، وهذا شيء رائع. ولكن في الوقت الذي يشهد فيه تشخيص العربي كـ "آخر" انحسارا وتراجعا، لا بد من الحذر الشديد من ازدياد الإغراء الإنساني السائد بتعريف هويتك بواسطة رفض الآخر، بمعنى إيجاد "آخرين" جدد ليكونوا رموز الكراهية لدى حركة الاحتجاج. ثمة مؤشرات تبعث على القلق من أن المستوطنين والمتدينين الحريديم مرشحون لهذا الدور. إن من المشروع تماما، بل ومطلوب رفع الشكوى إزاء تخصيص موارد مبالغ بها لصالح المستوطنين والحريديم، غير أن النقد يجب أن يكون موجها ضد قرارات الحكومة في هذا الصدد وليس ضد المستوطنين والحريديم ذاتهم.

ينبغي بهذه الروحية أيضا التغلب على الإغراء بوضع مطالب وتصريحات ذات طابع شخصي في مركز الاحتجاج، والمقصود هنا بالأساس مطالبة رئيس الحكومة بالاستقالة. هذا الإغراء في حد ذاته مفهوم تماما.. فقد كان نتنياهو منذ وقت طويل رمزا للسياسة التي ترى في الخصخصة وتقليص القطاع العام نوعا من الأرثوذكسية الجديدة، بغض النظر عن الخدمات والاحتياجات المستهدفة بالتقليص. من جهتي، سأكون مسرورا لرؤية نتنياهو يغادر كرسي رئاسة الحكومة لأسباب سياسية واقتصادية، وحتى لأسباب شخصية. مع ذلك يجدر التركيز على المطالب وليس على الشخص أو الشخوص. ففي النهاية يجب أن تكون تلك المطالب مطروحة أمام أي زعيم سياسي في إسرائيل، سواء كان ذلك نتنياهو أو تسيبي ليفني أو شيلي يحيموفيتش. ومثل هذا التركيز من شأنه أيضا أن يحبط محاولة نتنياهو التهرب من الانتقادات من خلال عرضها كانتقادات تستهدف بالأساس رأسه السياسي.

وفيما يتعلق بالمطالب ذاتها، فقد بدأ قادة الاحتجاج خلال الأيام الأخيرة بالتحدث بلغة مطالب ملموسة ومحددة، وهو أمر ينطوي على أهمية بالغة. فعدم قدرتهم على القيام بذلك حتى الآن، أضر بشدة بفاعلية الاحتجاج في أيامه الأولى. وربما كان في وسع احتجاج عاطفي يتحدث بعمومية عن كراهية أرباب رؤوس الأموال والحكومة ويطالب بصورة مجردة بـ "العدالة الاجتماعية"، أن يخلق زخما عاطفيا لأيام معدودة، ولكنه في غياب مطالب واضحة ومحددة يمكن أن ينتهي إلى فشل وإحباط شديد قد يكون خطيراً.

الآن، وبعد أن عرضت المطالب، ينبغي التوجه نحو إجراء مفاوضات جادة وعقلانية، وسط تحديد سلم أولويات وجداول زمنية واقعية. وفي هذا الإطار ينبغي عدم التنازل عن مطالب في مجال الضرائب، والتي يمكن تحقيقها خلال وقت قصير نسبيا، ولكن يجب الإقرار والتنبه مسبقا إلى أن ثمة أمورا ومطالب لن تتحقق بصورة فورية.

إن خيمة الاحتجاج التابعة لحركة "المعسكرات الصاعدة" في القدس، والتي زرتها مؤخراً خطت خطوة مهمة أخرى... فهي لم تكتف بتفصيل المطالب الجديرة ومنطقها، بل فصلت أيضا المصادر التمويلية لتنفيذها. هذا الموضوع مهم جدا كي لا يتحول الاحتجاج إلى لغو عاطفي يفتقر للمسؤولية، ويلحق الضرر بنقاط تفوقه النسبية بينما هو يسعى للخلاص من مواطن الضعف البنيوية التي يعاني منها الاقتصاد الإسرائيلي.

خلاصة القول، إن دعم وتعزيز حركة الاحتجاج وجعلها أكثر صموداً ومناعة أمام النقد، وبالتالي أكثر نجاحا، يتطلب من قادة الاحتجاج أن يكونوا منفتحين ومصغين لبعض التحذيرات والملاحظات المقدمة لهم، ليس من قبل أعداء هذا الحراك الاحتجاجي وإنما بالذات من جانب أولئك الذين يرغبون ويتمنون له النجاح.

______________________

(*) كاتب صحافي وزميل باحث في "المعهد الإسرائيلي للديمقراطية"- القدس. ترجمة خاصة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات