المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

لا يمكن للتصريحات التي أدلى بها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو في الأشهر الأخيرة حول عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية، إلا أن تثير الدهشة والاستغراب. فقد بدا من تصريحاته وكأنه يبذل المستحيل من أجل الشروع في مفاوضات مباشرة مع الفلسطينيين في أسرع وقت، وأن الحديث يدور، حسب قوله، على مفاوضات ماراثونية تمهيدا للتوصل إلى تسوية شاملة (موضحا أن طريقة "التسوية على مراحل" فشلت ولن يتم العودة لها). والحجة التي يسوقها نتنياهو هي أن الوضع في الشرق الأوسط "متقلب جداً"، وأن هذه اللحظة، كما قال مؤكداً، هي اللحظة المناسبة للتوصل إلى تسوية. وشدد على أنه يتعين على الفلسطينيين الكف عن الاعتقاد الواهم بأن طرفا خارجيا، أي الولايات المتحدة، سيقدم لهم تسوية جاهزة، وقال إنه لا بديل من إجراء مفاوضات إسرائيلية- فلسطينية مباشرة.

هذا التوجه قد يشف في الظاهر عن استنتاج مؤداه أن نتنياهو يعتقد أولا أن التسوية الإسرائيلية- الفلسطينية في متناول اليد، وثانيا أن الجانب الفلسطيني قادر على الوفاء بشروط التسوية، وثالثا أن حكومته، وهو شخصيا، يمتلكان القدرة على الوفاء بشروط التسوية بثمن سياسي محتمل ومعقول.

فهل تشكل هذه فعلا المحاور التي يستند إليها تقدير نتنياهو للوضع؟ ثمة شك كبير في ذلك. فزعيم مجرب مثل نتنياهو يدرك بلا ريب الفجوات الهائلة بين موقف الجانبين، والتي من المشكوك فيه إذا ما كانت قابلة للجسر في المستقبل المنظور. علاوة على كل ذلك، فإن نتنياهو يعي بالتأكيد الضغوطات الصعبة والمخاطر المتربصة بحكومته وبمستقبله السياسي إذا ما سعى لتحقيق تسوية كهذه، ذلك لأن مثل هذه التسوية تتطلب تلقائيا إخلاء عشرات آلاف الإسرائيليين (المستوطنين) من الضفة الغربية.. وهناك احتمالية كبيرة، شبه مؤكدة، لأن تكون مثل هذه العملية مرتبطة بوقوع أعمال عنف (من جانب المستوطنين واليمين المتطرف) لا يمكن التكهن بوتيرتها وخطورتها. كما أن مثل هذه التسوية ستؤدي بالضرورة إلى حل الائتلاف (الحكومي) الحالي وإلى شرخ وانقسام داخل حزب نتنياهو (الليكود) وبالتالي إلى إجراء انتخابات جديدة، وربما أيضا إلى انتهاء الحياة السياسية للسيد نتنياهو نفسه.

هذه الصورة تؤجج أكثر السؤال: إلى أين يريد نتنياهو الوصول من وراء سعيه إلى استئناف المفاوضات المباشرة مع الفلسطينيين؟

لعل في الخطاب المطول الذي ألقاه نتنياهو في الثامن من هذا الشهر (تموز) أمام مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، ما يقدم إجابة، ولو بصورة جزئية، على التساؤلات الواردة آنفا.

فقد اختار نتنياهو في خطابه توجيه رسالة إيجابية في كل ما يتعلق بمنظومة العلاقات القائمة بين إسرائيل والولايات المتحدة في هذه الفترة. وأكد في هذا السياق أن العلاقات بين البلدين غير قابلة للكسر (مستخدما بذلك تعبيرا سبق أن استخدمه الرئيس باراك أوباما في وصف العلاقات بين واشنطن وتل أبيب)، وأنها تسمو على الخلافات التي تظهر أحيانا بين الدولتين. وعلى رأيه فإن هذه الخلافات هي خلافات تكتيكية حول السبل الأمثل لمواصلة عملية السلام، وليس حول الحاجة إلى مفاوضات مباشرة ومكثفة. وكما يبدو، فإن نتنياهو، الذي يعي جيداً حقيقة أن صورة العلاقات مع إدارة أوباما أقل "وردية" من الصورة التي يحاول رسمها أمام مستمعيه، يعتقد أن الحديث المكرور عن رغبته في إجراء مفاوضات مباشرة مع الفلسطينيين، سيخلق أجواء مريحة في علاقاته مع الإدارة الأميركية.

غير أن نتنياهو طرح في الوقت ذاته سلسلة من المطالب من الفلسطينيين وقدم إيضاحات، تتسم كلها بسمتين بارزتين:

أولا- أن الحديث يدور على مطالب تبدو معقولة ومقبولة في المفاوضات على تسوية سلمية، وينطلق نتنياهو من تقدير مؤداه أن إدارة أوباما لا يمكن أن ترفض نهائيا مثل هذه المطالب، أو على الأقل معظمها، وأن أوساطا في الإدارة والكونغرس خاصة ستبدي تفهما وتعاطفا مع مطالبه، فضلا عن تقديره أن مواقفه هذه ستحظى بتأييد واسع من جانب أوساط سياسية مختلفة في إسرائيل، ومن ضمن ذلك ما يسمى بـ "محافل اليسار".

ثانيا- في المقابل، من الصعب الافتراض أن السلطة الفلسطينية ستكون قادرة أو مستعدة لقبول هذه المطالب، وبالقطع ليس بالصيغة التي يطرحها نتنياهو.

في مستهل حديثه أوضح نتنياهو أن إسرائيل ترفض المطلب الفلسطيني بشأن الشروط المسبقة لإجراء مفاوضات مباشرة بين الطرفين، والحديث يدور هنا على مطلب من شقين: أ- أن تبدأ المفاوضات من النقطة التي توقفت فيها المفاوضات السابقة مع حكومة ايهود أولمرت؛ ب- أن تلتزم إسرائيل باستمرار تجميد أنشطة البناء في المستوطنات في الضفة الغربية والقدس الشرقية.

في هذا السياق أكد نتنياهو أن المفاوضات يجب أن تبدأ من دون شروط مسبقة، وأن ماهية التسوية تكمن في مبدأ دولتين لشعبين، وفي إطاره تعترف إسرائيل بدولة فلسطينية كدولة قومية للشعب الفلسطيني، وتعترف الدولة الفلسطينية المنزوعة من السلاح بدولة إسرائيل كدولة يهودية، ومثل هذا الاعتراف يعني الإقرار بانتهاء النزاع كليا وأنه لن تكون هناك أية مطالب إضافية من إسرائيل لا من جانب السلطة الفلسطينية ولا من جانب المواطنين العرب في إسرائيل. ولم يبين نتنياهو كيف يمكن للسلطة الفلسطينية أن تلزم "عرب إسرائيل" بهذا الشرط. وتتبع ذلك الحاجة إلى الحفاظ على أمن إسرائيل القومي في أعقاب الانسحاب الذي سيترتب على أية تسوية إسرائيلية - فلسطينية. وأوضح نتنياهو أن لإسرائيل تجربة قاسية في موضوع الانسحابات على خلفية الانسحاب من لبنان (2000) ومن قطاع غزة (2005)، وبالتالي عليها أن تضمن عدم تكرار ظواهر وتهديدات كالتي نشأت في أعقاب الانسحابين المذكورين، مشدداً على أن ذلك يقتضي أن تكون أية دولة فلسطينية قادمة منزوعة من السلاح. ويستشف من حديث نتنياهو الحازم في هذا الصدد أن مراقبة نزع سلاح الدولة الفلسطينية يجب أن تكون في يد دولة إسرائيل وقواتها الأمنية، والتي لا يمكن لها أن تعتمد في هذا الخصوص على قوات أجنبية. وأوضح نتنياهو أن هذه المسألة نوقشت بتوسع شديد في لقائه مع الرئيس أوباما.

إن"رؤية" نتنياهو هذه لطابع التسوية الإسرائيلية- الفلسطينية تضع علامة شك واستفهام حول الجوهر المستشف، ظاهريا، من مبدأ "دولتين لشعبين". وفقا للرؤية التي طرحها نتنياهو، فإن "الدولة الفلسطينية" التي يتحدث عنها هي دولة تخضع حدودها ومطاراتها لرقابة إسرائيلية لأجل بعيد، وأنها لن تكون "دولة سيادية" كما يطالب الفلسطينيون، وكما يستشف أيضا من تصريحات الرئيس أوباما. من هنا، من الصعب الافتراض أن السلطة الفلسطينية تستطيع قبول هذا الواقع، أو قبول الشروط الأخرى التي طرحها نتنياهو، ولا سيما شرط الاعتراف بإسرائيل كـ "دولة يهودية".

هذه المواقف لدى الطرفين تقود على الأرجح للاستنتاج بأن فرص التوصل إلى تسوية في المستقبل القريب ضئيلة للغاية، ومرتبطة بمخاطر شديدة بالنسبة للجانبين. لذا، يبدو أن التقدير هو أن المعركة الحقيقية الآن، وفي المستقبل المنظور، ستدور على موقف الإدارة الأميركية والرأي العام في الولايات المتحدة وإسرائيل تجاه السؤال: من الذي يتحمل مسؤولية عدم التوصل إلى تسوية؟

من جهته، يقدر نتنياهو على الأرجح، ولعله محق في ذلك، أن الإدارة الأميركية ستجد صعوبة في رفض مطالبه كليا فيما يتعلق بطابع التسوية، وبالتالي ستتجنب تحميل إسرائيل أية مسؤولية عن الفشل.

مع ذلك يتعين على نتنياهو ان يأخذ في الحسبان إمكانية أن تطالب إدارة أوباما بشكل حازم بترك "وديعة" في يدها، على غرار "الوديعة" (التي تركها إسحاق رابين) فيما يتعلق بهضبة الجولان، بمعنى تقديم تعهد واضح وصريح (أمام الإدارة الأميركية فقط) بشأن عمق الانسحاب الذي سيكون مستعداً للموافقة عليه إذا ما قبل الفلسطينيون بشروطه، كليا أو جزئيا. إذا تحقق هذا التقدير، سيواجه نتنياهو مأزقا، من الصعب معرفة كيف سيتمكن من الخروج منه بدون أن يمسه سوء أو ضرر!

______________________

(*) أستاذ في جامعة بن غوريون في بئر السبع وباحث في "معهد دراسات الأمن القومي" في جامعة تل أبيب. ترجمـة خاصـة.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات