المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

ما زالت أوساط المؤسسة العسكرية الإسرائيلية في حيرة إزاء مسألة كيفية التعاطي مع الوضع غير الواضح الناشئ في مناطق الضفة الغربية. وخلافاً للوضع المتبلور في قطاع غزة في أعقاب سيطرة حركة "حماس" بقوة السلاح على السلطة هناك، والذي لا يواجه الجيش الإسرائيلي مشكلة في فهمه وطريقة التعاطي معه، فإن الوضع في الضفة الغربية مختلف، ويمكن وصفه بالضبابي، حيث تسود حالة من الغموض السياسي والغموض الوطني الفلسطيني، وبالتالي غموض تنفيذي من ناحية الجيش الإسرائيلي.

فقد وجد الجيش نفسه منذ وقوع "الانقلاب الحمساوي"، الذي توقعته شعبة الاستخبارات العسكرية ("أمان") عقب الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة (كانون الثاني 2006) في بؤرة سيرورة غير واضحة. وقد كان من ضمن النتائج المترتبة على هذه السيرورة، حسبما يبدو حتى الآن، ظهور قيود وكوابح من شأنها أن تعيق حرية عمل الجيش، وخاصة في مواجهة انفجار موجة العنف المقبلة (التي ورد ذكرها أيضاً في سيناريو التوقعات الاستخبارية الإسرائيلية).

مقامرة غير محسوبة

يبدو أن العالم بأسره، ومن ضمنهم إسرائيل، بات متعلقاً الآن برئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) كما لو كان طوق النجاة، وعلى الرغم من أن عجزه المزمن يظهر جلياً، مع ذلك يبدو أن الأمر لا يغير شيئاً لدى أي من السياسيين.. فوظيفة هؤلاء هي استشراف المستقبل ومحاولة إيجاد الانطلاقة المأمولة، غير أن الساسة في إسرائيل اعتادوا، وهم يتحسسون طريقهم نحو هذه الانطلاقة، على المقامرة على "مبالغ كبيرة" أكثر من اللازم.

في المقابل فقد عاد الجيش الإسرائيلي إلى ممارسة وظيفته كجسم محارب ومدافع. فهو منذ حرب لبنان الثانية، وفي عهد (رئيس هيئة الأركان الحالي) غابي أشكنازي لا يستطيع أن يجيز لنفسه بعد الآن الاستغراق في سيناريوهات وردية. فمغزى ما حدث من وجهة نظره هو وجوب عدم التغاضي، من جهة، عن إمكانية حدوث تغييرات بعيدة الأثر لدى الفلسطينيين، بروح رؤية المستوى السياسي، والحرص الشديد، وبكل قوة، من جهة أخرى، على الالتصاق بالواقع المتجسد والجلي.

رجالات السياسة الإسرائيليون يفكرون بمصطلحات "بوادر حسن النية"، وكيف سيظهرون في نظر العالم والدول الصديقة، كمؤيدين متحمسين للكيان (الفلسطيني) الجديد المأمول قيامه ككيان قوي، معتدل ومستقر، "فلسطينيون مريحون" يتمشون مع متطلبات المفاوضات واحترام الاتفاقيات بشكل متبادل.

رئيس الحكومة (ايهود اولمرت) لم يجد، في سبيل ذلك، أية مشكلة في الإعلان عن إزالة حواجز وإطلاق سراح 250 معتقلاً فلسطينياً وحتى إجراء مفاوضات بشأن إعادة المبعدين في قضية "كنيسة المهد".. ووفقاً لرؤيته (أي اولمرت) فإن "أبو مازن" زعيم قوي يحظى بتأييد الجمهور الفلسطيني ويستطيع المحافظة على النظام في الضفة الغربية بشكل لا يقل عن الجيش الإسرائيلي، وهو قادر أيضاً على مواجهة "المتطرفين" وتصفيتهم بصورة أفضل من أي جهاز أمني إسرائيلي. لكن الجيش و"الشاباك" (جهاز الأمن العام) لا يفكرون بهذه الطريقة، ليس لأن أحداً يشكك في قدرة الفلسطينيين على فرض نظام صارم لو أرادوا ذلك، ويكفينا هنا تأمل ما تفعله "حماس" مؤخراً في قطاع غزة... الجيش الإسرائيلي غير منفعل لأنه يعمل بناء على سيناريوهات مرجحة، بناء على المنطق والعقل وليس انطلاقاً من عواطف ومشاعر.. هذه السيناريوهات مستندة إلى معلومات استخبارية وثيقة وشاملة، وبالأساس إلى تجربة الماضي.

إمكانيات أبو مازن

ما زالت الدافعية الفلسطينية لشن هجمات ضد إسرائيل قائمة على أشدها منذ سنوات عديدة.. وكل ما يحتاجونه هو الفرصة المواتية.. أما "أبو مازن" فإن كل ما يقوم به حتى الآن (في الضفة الغربية) هو اعتقال أعضاء وناشطي حركة "حماس" وتوقيفهم لبضع ساعات فقط ليتم إخلاء سبيلهم. لقد استوعبت الرسالة ولكنه ليس من المؤكد أنها كافية من أجل إحداث تغيير حقيقي. ليس ثمة من يشك في أن فرملة "حماس" تشكل مصلحة للرئيس "أبو مازن" أكثر من أية جهة أخرى في إسرائيل. وإذا ما تردد أو تقاعس مجدداً، فإن فرصته في إنجاز هذه المهمة ربما ستضيع إلى الأبد، ولعله يدرك أن ما تبقى له من سلطة مرهون بذلك. غير أن المظهر يتغلب أحياناً لديه أيضاً، كما هو لدينا، على الاعتبارات المنطقية. وعملياً فإن هذا ما حدث له في غزة. فقد شخَّص أبو مازن موقف "حماس" من سلطته، ولاحظ أن الأمور تجري على مرأى ومسمع منه، لكنه لم يفعل شيئاً.. كانت لديه الكثير من الأسباب الوجيهة: الانتخابات، النفوذ الإيراني، النقد العام والرغبة في أن لا يكون الرئيس الذي تسبب بحرب أهلية. غير أنه في حمأة كل هذه الأسباب، كاد أن "يدفع حياته ثمناً". لعل الأفضلية الوحيدة التي يمتلكها الآن أبو مازن، تتمثل في أن الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية تجرع "وجبة إعلامية دسمة" جراء المسلسل الدامي في غزة، ومن هنا أصبحت الضفة الغربية تشهد الآن موجة تحول كبيرة من تأييد "حماس" إلى تأييد حركة "فتح"، هذا التحول أو الانتقال ناتج عن قناعة بتغيير الطريق، لكنه راجع في الغالب الأعم إلى حرص على "التأقلم" وخشية من انقضاض أبو مازن على حركة "حماس" وإخراجها عن القانون الأمر الذي سيجعل حياتهم في الضفة لا تطاق.

من جهته يلاحظ الجيش الإسرائيلي صدق وجدية أبو مازن في "صراع البقاء" الذي يخوضه حالياً، وهو- الجيش- يراقب هذه العملية. لكن من الواضح أن نقطة اللاعودة باتت من ورائنا، فلم يعد كل شيء يتوقف الآن على الرئيس (أبو مازن) و"عاداته السيئة"..

إلى ذلك فإن فئات وتيارات لا يستهان بها من الجمهور الفلسطيني ستواجه صعوبة في التعاون مع الرئيس أبو مازن.. فكراهية هذه التيارات لإسرائيل والتزامهم الأيديولوجي بـ "الجهاد" ضدها أعمق من أن يُمحى بجرة "انقلاب حمساوي" مهما كان لدى أفراد هذه التيارات من نقد وتحفظات واستعداد لتغيير الاتجاه.

الجيش الإسرائيلي يعرف جيداً هذه التيارات ولذا ليس غريباً أنه متوجس وأنه يعد العدة لمواجهة إمكانية "سيطرة خضراء" على الضفة الغربية. وحتى يتمكن أبو مازن من استئصال "المعارضة المقاتلة" لا بد له من أن يمتلك قوة وإدارة أكثر جدية بكثير من "المعجزات السبع" التي يمثلها زكريا الزبيدي (قائد كتائب شهداء الأقصى- الجناح العسكري لحركة "فتح") في جنين.

يحتاج أبو مازن إلى قوة عسكرية منضبطة، وليس إلى عسكريين يخدمون لديه بوظيفة جزئية في النهار وكناشطين في "فصائل الإرهاب" في الليل. إنّ أفكارًا من قبيل إدخال قوات "لواء بدر" (تابع لجيش التحرير الفلسطيني المرابط في الأردن) يمكن أن تكون مجدية على المدى القصير، غير أنه يجب أن يواكب ذلك التفكير بشأن كيفية عمل الجيش الإسرائيلي هناك (في مناطق السلطة الوطنية في الضفة الغربية) في المستقبل إذا ما فشلت قوات أبو مازن في فرض السيطرة والنظام.

إن مهمة الجيش الإسرائيلي هي مواجهة معطيات وحقائق الواقع الميداني، التي ستنجم عن إجراءات وخطوات "حسن النية" من جانب حكومة أولمرت، والتي لن نتمكن- وهنا تكمن المشكلة- من رؤية نتائج بعضها سوى بعد عشر سنوات، عندما يعود محررو بادرة حسن النية الحالية إلى دائرة "الإرهاب".

___________________________________

* الكاتب معلق في الشؤون الأمنية. نشر هذا المقال في موقع "أوميديا" الإسرائيلي على شبكة الإنترنت، في 7 تموز 2007، وهذه ترجمة له خاصة بـ "المشهد".

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, انقلاب

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات