المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

نشهد في الأشهر القليلة الفائتة سلسلة من التصريحات التهديدية الصادرة من طرف موسكو. ففي شهر شباط الماضي قال قائد قوة الصواريخ الروسية إنه في حال أتاحت بولندا وتشيكيا إمكانية نشر منظومات أميركية مضادة للصواريخ في أراضيها فإن في وسع قوة الصواريخ الإستراتيجية الروسية أن تتعرّض لهذه المواقع. وفي شهر حزيران الحالي هدّد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بنفسه بأن تعود روسيا ردًا على نشر هذه المنظومات وتدرس إمكان توجيه صواريخها النووية نحو أهداف أوروبية، الأمر الذي استنكفت عن القيام به منذ أواسط التسعينيات.

مما يخشى الروس بالضبط؟.

بحسب ما تقوله روسيا فإن نصب المنظومات الدفاعية في أراضي أوروبا الشرقية تمكّن الولايات المتحدة من تحقيق النجاح في إسقاط الصواريخ الروسية أيضًا. ويدعي الروس أنه طوال فترة الحرب الباردة وبعدها كذلك، أسهم وجود ميزان الردع النووي في الاستقرار.

هل يوجد لدى الروس أسباب كافية للخشية من منظومات الدفاع الأميركية؟ الجواب هو سلبي إلى حدّ كبير. ويفترض بمنظومات الدفاع أن تكون قادرة على إسقاط صاروخ واحد أو صلية مقلصة من الصواريخ فقط. وليس في وسع هذه المنظومات أن تواجه صليات من مئات الصواريخ، مثلما تستطيع روسيا أن تطلق. كذلك فإنّ غالبية الصواريخ الموجودة في حوزة روسيا مزوّدة برؤوس متفجرة انشطارية وبوسائل تضليلية. علاوة على ذلك فقد أخفقت هذه المنظومات إلى الآن مرة تلو الأخرى حتى في إسقاط صاروخ واحد ذي مزايا أشدّ بساطة بكثير.

إنّ أحد المزاعم الروسيّة المركزية هو أنه إذا ما واصلت الولايات المتحدة نصب المنظومات الدفاعية فسيؤدي الأمر إلى تجدّد سباق التسلح النووي. وبموجب ما تقوله روسيا فإنه يتوجب عليها، في سبيل تحقيق هدف ترميم قدرتها الردعية، أن تتزوّد بصواريخ جديدة ذات وسائل تتيح إمكان التغلب على المنظومات الدفاعية. غير أنّ الأجيال القائمة للصواريخ الروسية في وسعها أيضًا أن تواجه المنظومات بنجاح، فكم بالحري الصواريخ العتيدة المعروضة بكونها جوابًا مباشرًا على المنظومات الدفاعية (رغم حقيقة أن الروس بدأوا في تطويرها منذ أواسط التسعينيات). وبناء على ذلك فإن الحجة الحقيقية لتطوير الجيل الجديد من الصواريخ الروسية ليست المنظومات الدفاعية الأميركية وإنما الرغبة الروسية في ترميم منظومة الصواريخ النووية القديمة (خلافًا للأميركيين الذين لا يطورون أي صاروخ نووي جديد منذ أن طوروا النموذج الأخير في العام 1990).

إذا كانت المنظومات الدفاعية الأميركية لا تؤثر بصورة جوهرية، هذا إذا كانت ذات تأثير أصلاً، على قدرة الردع الروسية، فلماذا يثير هذا الموضوع ردّات فعل عاصفة من جانبها؟ الجواب متعلق لا بالمستوى النووي بالذات وإنما بما يبدو أنه مسّ متواصل وفظّ من جانب الولايات المتحدة بمصالح روسيا القومية. وتضاف إلى ذلك إجراءات أميركية ينظر إليها في روسيا كمحاولة للمسّ بكرامتها. ومن هذه الإجراءات ضم عدة دول من أوروبا الشرقية إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) والانسحاب الأحادي الجانب للولايات المتحدة من ميثاق الـ ABM من العام 1972 الذي قيّد نشر المنظومات الدفاعية وحملات الهجوم العنيفة على نظام بوتين بحجة المس بالديمقراطية في روسيا ونصب قوات أميركية في الدول المتاخمة لروسيا. فما عرض في البداية كنشر مؤقت للقوات الأميركية في أماكن مثل أوزبكستان بعد الحادي عشر من أيلول 2001 ينظر إليه الآن في روسيا كمحاولة لتحقيق موطئ قدم في مناطق نفوذ روسية. ولذا فقد اعتبر نصب عدة مئات من الجنود الأميركيين في أوروبا الشرقية لغرض تفعيل المنظومات الدفاعية ظاهريًا بمثابة "القشة التي قصمت ظهر البعير". ويمكن فقط أن نتخيّل كيف كانت سترد الولايات المتحدة لو أن الروس نصبوا جنودًا في كندا والمكسيك أو في أميركا اللاتينية.

وعلى ما يبدو فإنّ الروس يجدون صعوبة في نقل الرسائل بشأن ضائقتهم هذه. إنّ توجيه النقد للإجراءات الأميركية فحسب، سينظر إليه في الغرب كدليل على ضعف روسيا أو حنين إلى أيام ولّت. غير أنّ موضوع المنظومات الدفاعية يزودهم بوسيلة مريحة وناجعة في محاولة الفوز باعتراف دولي بشأن أخذ المصالح الروسية في الحسبان. ويحظى موضوع الحماية من الصواريخ بانتقاد واسع في الولايات المتحدة وأوروبا. ولذا فإنّ محورة الانتقادات الروسية للإجراءات الأميركية حول هذا المجال يحظى بالمزيد من الشرعية والتفهم. بالإضافة إلى ذلك فإنّ مجرّد التطرّق الروسيّ إلى نقطة السلاح النووي الحسّاسة يجعل الموضوع يتصدّر جدول الأعمال.

سيكون من الخطأ اعتبار التصريحات الروسية تندرج في إطار البلاغة الكلامية فقط. حتى وإن كان الجدل بشأن المنظومات الدفاعية هو بمثابة حجة فقط فإنه ثمة في الواقع أخطار تشي بتصعيد لا يعقل أن يكون أحد الأطراف معنيًا به. وإنّ العودة الروسية إلى لغة الحرب الباردة إلى جانب ردات الفعل المضادة من طرف الولايات المتحدة تؤدي إلى تصعيد التوتر. وفي وسع استمرار التوتر جنبًا إلى جنب الخطوات الروسية المضادة مثل التلميح بإمكان ركل الاتفاق المتعلق بنشر السلاح النووي في أوروبا أن يؤديا فعلاً إلى تجدّد سباق التسلح.

ما الذي يمكن القيام به في سبيل الحيلولة دون الوصول إلى وضع كهذا؟.

على الإدارة الأميركية، بادئ ذي بدء، أن تصيخ السمع أكثر فأكثر إلى ما يضايق روسيا. لا يعني ذلك أن تمتنع الولايات المتحدة عن أية عملية من شأنها أن تثير النقد من طرف روسيا، لكن يتعين عليها أن تكون أشدّ يقظة لتأثير أفعالها على المصالح الروسية، وأن تعمل بصورة مناسبة مع النظام الروسي. ويمكن أن يأخذ التنسيق شكل صفقة الرزمة. وحقيقة أن هذا الموضوع يقلق روسيا، حتى وإن لأغراض دعائية، يمكن أن تشكل رافعة لإقناع روسيا بأن تكون أكثر فاعلية في مواجهة المشروع النووي الإيرانيّ. بكلمات أخرى، في وسع الأميركيين أن يحاولوا التوصل إلى تسوية مع روسيا بشأن استعدادهم لإرجاء أو إلغاء نشر المنظومات الدفاعية في أوروبا الشرقية في مقابل نشاط روسي أكثر فاعلية في مجال منع إيران من التزوّد بالسلاح النووي، ينعكس في الاستعداد لفرض عقوبات أشد قسوة والعمل الأكثر كثافة ضد الشركات الروسية التي تقدّم المساعدة لإيران وتصعيد اللهجة الروسية في هذا الموضوع. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن السبب الرئيس لنشر تلك المنظومات في أوروبا الشرقية هو توفير الردّ على تهديد الصواريخ الإيرانية، فإنّ التفاهم ضمن المعادلة المقترحة يمكن أن يزيل التبرير المركزيّ لذلك.

_____________________

* نوعم أوفير- خبير إستراتيجي في مجال الصواريخ وسباق التسلح. ترجمة خاصة بـ"المشهد الإسرائيلي".

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات