المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

حصلت خلال الأعوام الخمسة عشر الأخيرة، ثورة صغيرة في مهنة المحاماة في إسرائيل. وخلال هذه الفترة القصيرة دخل إلى الحلبة القضائية- الاجتماعية عشرات المحامين، الذين بدأوا يسخّرون مهاراتهم المهنية ومواهبهم القضائية، من أجل تغيير النظم القائمة، من خلال استعمال القضاء.

وعلى امتداد السنين طوّر هؤلاء المحامون أجندة مثيرة للانطباع في حقل القضاء الجماهيري- الاجتماعي، الذي ينشط في مجالات حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، وخصوصا من خلال التركيز على الفئات المستضعفة، وعلى المصالح التي تحظى بشعبية متدنية. وتشمل هذه الأجندة مثلا، حرية التنقل والتعبير والضمير (خصوصا للمجموعات المهمشة وغير المقبولة)، والحق في الخصوصية، وحرية المعلومات، وحقوق النساء، والمثليين، والسجناء، والمعتقلين، وذوي الإعاقة، وحقوق الأقلية العربية في المساواة المدنية، والدفاع عن المهاجرين بقصد العمل (العمال الأجانب)، والنساء اللاتي تتم المتاجرة بهن بهدف الزنا، والدفاع عن الأولاد والمسنين واللاجئين، ودفع المحافظة على جودة البيئة والعدل البيئي إلى الأمام. إضافة إلى النضال من أجل الاعتراف بالحقوق الاجتماعية للفئات الفقيرة، في مجالات الإسكان والصحة والضمان الاجتماعي والتربية.

هل هناك عامل مشترك يجمع هؤلاء المحامين في هذه الحالات؟.

لن أحاول في هذا السياق رسم صورة "إثنوغرافية" للملامح الشخصية لهذه المجموعة (بالرغم عما يحمله هذا الجانب من إثارة: ما الذي يدفع أشخاصا معينين لاختيار العمل القضائي- الجماهيري، وهل يملك هؤلاء ملامح شخصية- اجتماعية- طبقية- عائلية، يمكن تشخيصها؟)، وسأستعيض عن ذلك بالتطرق لموقع المركب المهني في عملهم الجماهيري. ما يجمع النضالات في المجالات المذكورة هو الإيمان الذي ترافقه درجة صحية من التشكيك بقدرة القضاء على تحقيق التغيير، في المكان الذي أخفقت فيه السياسة. وعندما تعجز الأجهزة العادية للمسار الديمقراطي في الدفاع عن مصالح وحقوق الفئات المستضعفة أو المهمشة، يتم التوجه للجهاز القضائي، الذي من المفترض أن يكون متحررا من العوامل القسرية والتقييدات التي تميّز الحلبة السياسية. في الوقت ذاته يأتي المحامون إلى داخل الحلبة القضائية بأكثر الحالات المشحونة "سياسياً"، والتي تتميز بكونها موضع خلاف جماهيري. ولا يقتصر الأمر على ذلك: فالمحامون يقومون بهذا الأمر بدوافع أيديولوجية وقيمية، حيث يدفعهم التزامهم الشخصي بهذه القيم للانشغال المهني في عملية التغيير الاجتماعي.

هل يمكن حل التوتر القائم بين البعد المهني الحيادي لهذه المهنة التي ترتكز على عدم تسييس القضاء، وبين الأبعاد السياسية للقضايا التي تتم معالجتها؟ هذا هو التحدي الذي يواجهه هؤلاء المحامون، إذ يجب السير على هذا الحبل الرفيع بحذر بالغ. فمن ناحية،عليهم المحافظة على نواة "مهنية" واضحة- فالحديث يدور عن مجال مهني يستوجب السلوك بحسب القواعد المتعارف عليها، وعدم القيام بتحطيمها (لكن يسمح بشدها بين الحين والآخر): استعمال اللغة المهنية والتعريفات القضائية المعروفة والإدعاءات المستقاة من عالم القضاء. ففي نهاية المطاف، هذا ما يتميز به المحامون عن غيرهم: أن يرووا قصتهم من خلال استعمال المصطلحات التي يعرفها القضاء ويستطيع تفسيرها والسماح بها. وعلى الإجراءات أن تتلاءم مع ما حدده القضاء، وعلى المحامين المحافظة، من خلال عملهم، على المعاملة اللبقة وقواعد التعامل ( (etiquette المألوفة لنا جميعا، الأمر الذي يميز بين المحامين و"مجرد" نشطاء (اللباس واللغة الخاصة والرسمية). وتهدف كل هذه الوسائل إلى موضعة النزاع داخل عالم القضاء وإلى منح المحامين، بحق- هكذا نفترض، شرعية واسمًا جيّدًا، خلافا للعمل في حقل السياسة. من الناحية الأخرى على المحامين أن يكونوا مدركين، طوال الوقت، للجوانب القيمية للحالات التي يعالجونها، وأن يحاولوا إيجاد السبل التي تمكنهم من إدخال هذه الأبعاد إلى الحلبة القضائية بطريقة تموضع الحالة الخاصة داخل السياق الاجتماعي-الاقتصادي- السياسي، الذي تتم معالجته. هذه المهمة ليست سهلة بالمرة، وتتطلب هذه الازدواجية من المحامين مهارة خاصة، غير ضرورية، عندما نتحدث عن العمل القضائي العادي الذي لا يشكل التغيير الاجتماعي محفزا لممارسته.

في الأعوام الخمسة عشر الأخيرة، قطع المحامون الجماهيريون شوطا كبيرا في هذا المسلك الحساس. في نهاية الثمانينيات، بدأ العمل بشكل علني ومصرح به، بالمحاماة التي تهدف إلى خلق التغيير الاجتماعي. وكانت البداية في قضايا حقوق الإنسان التقليدية: حرية التعبير والتنقل والمعتقد والضمير، وتم بعد ذلك تكثيف النشاط في مسائل المساواة على أساس الجنس والميول الجنسية والإعاقة، والدين والقومية، ثم اتسعت الأجندة كي تشمل اليوم، كما ذكر سابقا، مجالات عديدة ومتنوعة. وفي السنوات الأخيرة تحدد بشكل واضح النشاط في مجالات الفقر (في سياق الحقوق الاجتماعية) ومجالات العدالة البيئية (ومن ضمنها قوانين جودة البيئة). وبدون أدنى شك عمل المحامون عبر السنين بحسب القواعد المتعارف عليها في بيئتهم المهنية: قدموا إلى المحاكم بشكل لائق، وطرحوا ادعاءاتهم "بذوق رفيع" (كما يروق للمحكمة تسمية الأمر)، وقدّموا مستوى قضائيا رفيعا جداً، ولم يغيظوا الجهاز أكثر مما يجب.

وأجرؤ على القول إن هؤلاء المحامين حظوا، تقريبا، بمكانة محببة لدى المحكمة. فملفاتهم على الغالب مثيرة، إذ إنها تفرض تحديات قضائية وفكرية، وتوفر للمحاكم، إذا ما رغبت في ذلك، فرصة إصدار قرارات قضائية جديدة في المجالات ذات الاهتمام الجماهيري. وتمكنت المحكمة، من خلال هذا الأمر، من تعزيز دورها في تحديد القيم الاجتماعية التي تعتبرها جديرة بالتطوير، إذا ما أرادت ذلك. واعترفت المحكمة عادة بهذا الجميل للمحامين الجماهيريين، وكافأتهم على عملهم هذا بالتعامل المنصف، وكالت لهم المديح، الذي أسمع بين الحين والآخر في المناسبات العامة المعدة لرجال القانون، وأشادت بأهمية مسعاهم، وبما يقدمونه للجهاز القضائي. وقامت المحكمة بـ"احتضان" هؤلاء، بشكل رمزي أحيانا، وبشكل فعلي في أحيان أخرى.

وفعلا، تولدت معضلة: إذ تحول المحامون الجماهيريون من مصلحين اجتماعيين يدركون القوة الحافظة للأطر المؤسساتية- السلطوية، إلى لاعبين مطيعين داخل هذا الإطار. هل يمكن أصلا تفادي هذا الأمر؟ وكيف يمكن استعمال الجهاز القضائي بنجاعة - وهو الجهاز الذي يرتكز عليه المحامون ومنه يستقون تميّزهم النسبي عن الآخرين- دون الوقوع في المصيدة الاحتوائية الحاضنة؟ كيف يمكن الحفاظ على مكانتنا الخاصة كمحامين مهنيين، وأن نوظف التميز الذي يوفره لنا العمل القضائي من أجل التغيير الاجتماعي، دون أن نصبح جزءا من الجهاز نفسه؟ كيف يمكننا العمل من خلال الجهاز (كـ- insider) وضد الجهاز (كـ- outsider) في الوقت ذاته؟ هذا هو التحدي الكبير الذي يقف أمام المحامين المجتمعيين في إسرائيل في هذه الأيام. وبطبيعة الحال لا تتوفر أجوبة سهلة على هذا السؤال.

حظي المحامون الجماهيريون في إسرائيل، وخصوصا هؤلاء الذين يعملون داخل التنظيمات الكبيرة، بمكانة مرموقة واسم جيد، يمكنهم أن يمثلوا بحرية وبدون وجل، المصالح التي لا تحظى بشعبية وأن يمثلوا الفئات التي تعاني من الإقصاء، وتلك التي تشكل مصدر خلاف. ولا يتوفر تهديد لمكانة هؤلاء، فهم يتمتعون بدرجة عالية من الشرعية المهنية، وبالشرعية التي يضفيها عليهم الجهاز. ومن الواضح أن لا شيء يضمن استمرار هذا الوضع، فقد يتدهور نحو الأسوأ في المستقبل، لكني أعتقد أن لا خوف من تغيير في هذا الاتجاه في المستقبل القريب في إسرائيل. وطالما كان الوضع كذلك، فمن الجدير أن يتم بين حين وآخر فحص مجدّد للدرجة التي يمكن من خلالها فرض تحد على الحدود الثابتة والمعروفة للملعب الذي نلعب فيه. لا يمكن ولا جدوى من القيام بعملية كسر لقوانين اللعبة في الحلبة التي نخوض فيها حروبنا، لكن الحدود بين القضائي والسياسي غير واضحة، ويمكننا أن نحاول كشف عدم الوضوح هذا، وأن نطرح علاقات القوة غير المتكافئة التي خلقت حالة النزاع القضائي الفردي خلال الخوض به، ومن ثم وضعها بشكل واضح في سياقها الاجتماعي. وعلينا أن ندرك ونتذكر طوال الوقت أن القضاء هو أداة للحفاظ على النظام القائم، أكثر من كونه وسيلة لتغييره.

والأهم من كل هذا، هو أن ينمّي المحامون داخلهم وعيا للمصيدة التي ينصبها لنا عملنا أمام الجهاز الذي نشكل نحن جزءا لا يتجزأ منه، والذي يشكل محورا مركزيا في بناء هويتنا المهنية وفي المحافظة عليها. وعلينا أن نتوخى الحذر كثيرا من عمليات الاحتضان.

(*) تدير د. نيطاع زيف برنامج التربية القضائية في كلية القانون في جامعة تل أبيب. وعملت في الماضي كمحامية في جمعية حقوق المواطن. وتعكس مقالتها هذه بدرجة كبيرة نظرة انعكاسية لعملها في الماضي وفي الحاضر كذلك.

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات