المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

الجدل حول طابع الدولة اليهودية قائم منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني قبل أكثر من مائة عام، وقد شهدت الحركة الصهيونية في مؤتمراتها وفي أدبياتها جدالات لا حصر لها حول طابع الدولة العبرية، ولم يحسم هذا الجدل، فمن جهة تذهب الأوساط اليهودية العلمانية الى بناء دولة ديمقراطية علمانية تقوم على فصل الدين عن الدولة، ومن جهة أخرى تذهب الأوساط الدينية الى بناء دولة يهودية بكل ما تعنيه الكلمة، أي أن تسود القوانين الدينية وأن تكون التوراة والنصوص الدينية هي المرجعية الأولى للدولة. بين هذا التيار وذاك هناك تيارات وحركات تحاول التوفيق بينهما في الابقاء على يهودية الدولة وفي الوقت نفسه تعميق الديمقراطية.

لن نستعرض هنا هذه التيارات ولن ندخل في صلب الجدل اليهودي اليهودي، ولكن يبدو لمن يراقب هذا الجدل خارج الدائرة الصهيونية أن الجمع بين يهودية الدولة وديمقراطيتها، هو أمر مستحيل لأن اليهودية هي ديانة مثل كل الديانات وقد عاشت الدول الدينية حتى قبل مائتي عام حين أنهت الثورة الفرنسية عصر الدولة الدينية الذي استمر حوالي ألف وسبعمائة عام وشمل الدول الدينية المسيحية والاسلامية، نقول أنهت عصر الدولة الدينية لكنها لم تصفّ الدول الدينية التي ما زالت قائمة حتى اليوم وهي أيضا تتصارعها تيارات تدعو الى فصل الدين عن الدولة وتحويلها الى ديمقراطية.

اسرائيل هي دولة دينية بتعريفها وطابعها كدولة يهودية، ومن يحدد اليهودية ليس البرلمان الاسرائيلي بل المؤسسة الدينية التي هي جزء من نظام الدولة وقد نجحت هذه المؤسسة في فرض قوانين لا تمت فقط بصلة الى الأحوال الشخصية الفردية بل الى سير الحياة العام في الدولة ولكافة مواطنيها ومؤسساتها: فرض قدسية السبت وعطل الأعياد الدينية والزواج ومنح المواطنة والجنسية وغيرها. أما الحريات الفردية والديمقراطية والمؤسسات المدنية في المجتمع الاسرائيلي فهي قائمة بالرغم من سيطرة المؤسسة الدينية ولخلق شكل من التوازن لمنع وقوع صدامات ومواجهات وحرب أهلية داخل المجتمع اليهودي، فالعلمانيون من بين اليهود يسلمون برقعة دينية محدودة ومتفق عليها والمتدينون يسلمون برقعة علمانية محدودة ومتفق عليها وهكذا يحافظون على "ستاتوس كفو" متوتر الى حد ما منذ قيام الدولة.

قليلون هم الاسرائيليون الذين يقبلون بالدولة العلمانية الديمقراطية، أي دولة لجميع مواطنيها بغض النظر عن انتمائهم الديني ويحكمها دستور وقوانين ديمقراطية وفيها فصل تام للدين عن الدولة، وكثيرون هم الذين يعتقدون أن الدولة يمكن أن تكون ديمقراطية ويهودية في الوقت نفسه، ويتجند لهذا الطرح كبار المفكرين اليهود مثل البروفيسورة روت غابيزون التي نشرنا دراستها الموسعة في العدد التاسع من "قضايا اسرائيلية" وفيها تحاول تجنيد كل طاقاتها الفكرية والحقوقية دفاعا عن يهودية الدولة وديمقراطيتها في الوقت نفسه وهي لا ترى بذلك أي تناقض، وقد اجتهدت كثيرا في تبرير ادعاء الدولة اليهودية الديمقراطية منطلقة من ادعاء أساس وهو تسويغ اقامة الدولة اليهودية بناء على حقين أساسيين يضمنهما مبدأ حق تقرير المصير المشرّع دوليا وهما: "ضمان أمن اليهود الذين يعيشون فيها ووجود وازدهار الثقافة اليهودية على اختلاف تلاوينها وأطيافها" (ص 53) وهي كمثقفة وحقوقية لا تتجاهل الادعاءات المناهضة لهذين الادعائين مثل أن الدولة اليهودية لم تضمن الأمن لليهود، حتى أنه يمكن القول أن أكثر مكان غيرآمن لليهود هو اسرائيل نفسها اوأن اليهودي يعيش ويشعر بأمان في كل مكان في العالم الا في اسرائيل، كذلك فان هذا الادعاء لا يسوغ التمييز القومي والعنصري ضد العرب المواطنين في الدولة الا اذا اعتبرت الدولة يهودية غير ديمقراطية، أي دولة عنصرية وتمارس شكلا جديدا من الأبرتهايد، وأما حول ازدهار الثقافة اليهودية فان الثقافة الدينية القائمة في اسرائيل هي نفس ثقافة اليهود في الدياسبورة (المنافي كما يطلقون عليها) وهي لم تتطور بل حافظت على شكلها بتعصب وخلقت تمايزات طائفية تصل الى حد الصراعات، أضف الى ذلك أن الثقافة العلمانية لليهود في اسرائيل تتناقض والثقافة الدينية وهي في مجملها غربية متأثرة بثقافة العولمة التي تشكل خطرا على الثقافات الدينية والاثنية.

هذه الادعاءات التي تحاول تبرير يهودية الدولة وديمقراطيتها في الوقت نفسه، تسقط حين يدرس واقع اسرائيل بعد اكثر من نصف قرن على قيامها، ولكن روت غابيزون وغيرها من المفكرين الصهيونيين الليبراليين الذين يبنون ادعاءاتهم على التشريعات الدولية يرتكبون خطأ فادحا حينما يبدأون ادعاءاتهم متجاوزين حقيقتين أساسيتين وهما: أولا: لم يثبت حتى الآن الادعاء أن اليهودية هي قومية وليست ديانة فقط. ثانيا: ان اقامة دولة لشعب على أنقاض شعب آخر تنسف كل الادعاءات حول تسويغ فكرة تقرير المصير.

حتى لو تبلورت قومية يهودية أو اسرائيلية أو عبرانية على هذه الأرض فان ذلك لا يلغي الأساس الذي قامت عليه هذه الدولة، فهذه القومية لم تتبلور بشكل طبيعي أي أن مجموعة سكانية تعيش على أرضها وتقرر بناء هوية قومية أو اثنية تبلورها بمركبات اللغة والتاريخ والجغرافيا والعادات والتقاليد والثقافة، بل هي تتبلور (ان كانت كذلك) على أرض سلبت من مجموعة سكانية أخرى لها كل الحق بالمطالبة بهذه الأرض، واذا لم يتم الاتفاق على تسوية هذه المسألة الأخلاقية فان أي تسويغ أو تبرير ليهودية الدولة قد يعتمد على كل تسويغ الا الأخلاق، وهذا هو مأزق هذه الأوساط التي تحاول تربيع الدائرة، ونلاحظ أن غابيزون نفسها تقع في هذا الخطأ حين تلجأ الى ادعاء فيه من السفسطة أكثر مما فيه من المنطق فهي تكتب في دراستها: (ص 53- 54): "الادعاء الذي أود طرحه هنا يرتكز في جوهره الى خطاب الحقوق وعلى الاقرار بحق الشعوب – في ظروف معينة- في تقرير مصيرها وتقر هذه المباديء بتميز القوميات وتطلعها للحفاظ على هذا التميز على أساس أممي. قد يبدو هذا التميز سطحيا ومثيرا في نظر أولئك الذين يعتقدون أن تسويغ الدولة اليهودية في أرض اسرائيل وحقنا في البلاد هو بمثابة معطيات ووقائع مسلم بها، تنبثق وتنبع من الديانة والتاريخ اليهوديين، وبحسب هذه الرؤية فان غياب اليهود المؤقت عن البلاد، أثناء عيشهم في المنفى، ومصالح العرب الذين أقاموا فيها ابان تلك الفترة ذاتها، لا ينتقصان من قوة المطالبة بسيادتنا على هذه البلاد، فهذا الحق حق مطلق غير قابل للجدل ولا يمكن الشك او الطعن فيه. وفي الحقيقة فان وجهة النظر التي تعزو المطالبة بحق اليهود على البلد الى الوعد الالهي تعد جزء من الحرية الدينية للذين يتمسكون بهذا التفسير للعقيدة اليهودية".

رغم أن غابيزون تعتبر هذا الادعاء وتقبله الا أنها لا توظفه لأن "هناك حجج وادعاءات تستطيع أن تخاطب ايضا وعي ومواقف من لا يتفق مع هذه القناعات".

كل الادعاءات الأخرى قد تكون مقنعة مثل هذا الادعاء، ولكنها لا تقوم على أسس المنطق بتجاوز المسألة الأخلاقية التي هي الأساس في تبرير أي ظاهرة سياسية كانت أو اجتماعية.

ان محاولات تبرير يهودية الدولة انطلاقا من حقيقة وجودها وليس من ظروف وجودها، من جهة، ومن جهة أخرى عزل وجود هذه الدولة عن جغرافيتها في الشرق الأوسط، أي عن الفضاء العربي، هذه المحاولات توقع المثقفين الاسرائيليين في مطبات جدلية أشد تعقيدا، وما دام الجدل يبقى في الفضاء اليهودي فان التبرير يبقى محليا أي لليهود أنفسهم ولكن عندما يكون بينهم وبين غيرهم، ليس العرب فقط، بل الأوروبيين أيضا فن جدلهم يبدو تعسفيا وسفسطائيا الى أبعد الحدود، وقد تكون هذه السفسطة هي مصدر القوة عند من يحاول تربيع الدائرة أو تبرير ما لا يقبله المنطق.

نحن من جهتنا سنفتح المجال على صفحات "قضايا اسرائيلية" لطرح كل وجهات النظر حول هذه المسألة التي لا تنعكس فقط على تحديد الخطاب الاسرائيلي بل على مجريات حل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي أيضا.

(تقديم العدد الجديد من فصلية "قضايا اسرائيلية" الصادر هذه الايام عن "مدار")

المصطلحات المستخدمة:

الصهيونية

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات