المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بضع كلمات تفوّه بها الرئيس جورج بوش في خطابه الذي ألقاه في العاصمة البلجيكية بروكسل، لم تحظ بالاهتمام الذي يجدر بنا أن نعيره لها.

لقد تحدث عن الحاجة إلى إقامة "دولة فلسطينية ديمقراطية ومتواصلة من الناحية الجغرافية". وعندها أضاف بضع كلمات هامة: "الدولة المكونة من مناطق متفرقة لن تكون فعالة".

يجدر بنا أن نتوقف ولو لبرهة عند هذه الكلمات. من هو المقصود؟ ولماذا تفوه بهذه الأقوال في بروكسل بالذات؟

لا يحذّر الإنسان من مغبة وقوع خطر غير قائم. وإذا قال بوش ما قاله، فهذا يعني أن أحدا ما يعمل، حسب رأيه، لإخراج هذا الخطر إلى حيّز التنفيذ.

ليس من الصعب أن نتكهن من هو هذا الشخص.

منذ سنوات أخذت أحذّر من هذه النية لدى أريئيل شارون. وهي نية يرتكز عليها مشروع الاستيطان بأكمله، الذي بادر إليه هو ذاته وقام بتنفيذه. لقد كان الهدف من نشر المستوطنات على خارطة الضفة الغربية هو بتر الضفة الغربية طولا وعرضا، لكي يُمنع أي احتمال لإقامة دولة فلسطينية ذات تواصل جغرافي وذات قدرة على البقاء، دولة كسائر دول العالم.

في حال تم ضم الكتل الاستيطانية التي جرت إقامتها إلى إسرائيل، فسيتم بتر المناطق الفلسطينية لتتحول إلى قطاعات معزولة، أربعة على الأقل. أما قطاع غزة، وهو بحد ذاته جيتو معزول عن العالم، فسيتحول إلى قطاع معزول خامس. كل هذه القطاعات ستكون مطوقة بالمستوطنات والقواعد العسكرية، وجميعها ستكون معزولة عن العالم الخارجي.

تدرك المخابرات الأميركية هذا الأمر، بطبيعة الحال. فهي ترى الواقع بأعين الأقمار الاصطناعية. إلا أن هذا الأمر لم يردع الرئيس بوش عن إعطاء وعد لشارون بضم "المجمعات السكنية" الإسرائيلية في الضفة العربية إلى إسرائيل. "المجمعات السكنية" هي ذاتها تلك الكتل الاستيطانية التي عرّفها الأميركيون في حينه بأنها "غير قانونية" وأنها "عقبة في طريق السلام". منذ فترة عهد والد الرئيس بوش، جورج بوش الأب، قررت الإدارة الأميركية خفض الامتيازات التي تمنحها الولايات المتحدة إلى إسرائيل كعقاب على توسيع المستوطنات.

إذن ما الذي حدث فجأة ليتفوه الرئيس بوش بأقوال معناها الفعلي هو الحاجة إلى تفكيك بعض من الكتل الاستيطانية، ولماذا تفوه بهذه الأقوال في بروكسل بالذات؟

من الواضح تماما أن أقواله جاסت لتريح آذان مضيفيه الأوروبيين. الاتحاد الأوروبي يعارض ضم مناطق من الضفة الغربية إلى إسرائيل. وقد قال بوش ما قاله لكي يخفف من وطأة الاختلافات في الآراء بين أميركا وأوروبا.

قال وقال، ولكن ما الذي حدث على أرض الواقع؟

لقد قررت الحكومة يوم الأحد قبل الفائت، للمرة الثانية، تنفيذ خطة الانفصال. ولشدة الانفعال من هذا القرار، لم يتم الانتباه تقريبا لقرار آخر اتخذ في نفس ذلك الاجتماع: الاستمرار في بناء الجدار في الضفة الغربية.

يبدو لأول وهلة أن هذا القرار هو قرار اعتيادي. فالحكومة تواصل ادعاءها بأن هذا الجدار هو "جدار أمني" فقط. وبالفعل، فإن لهذا الجدار وظيفة أمنية ما أيضا، ولذلك فهو مقبول لدى الرأي العام في إسرائيل. إلا أن كل ذي عقل متقد، في إسرائيل والعالم، أصبح يدرك اليوم بأن الهدف من الجدار هو رسم الحدود المستقبلية لدولة إسرائيل. لذلك شدد كل الناطقين الرسميين غداة القرارعلى أن الجدار يعزل 7% فقط من مساحة الضفة العربية.

يجدر بنا أن ننتبه إلى كلمة "فقط". لقد تحدث الاقتراح الأخير الذي اقترحه الرئيس بيل كلينتون عن ضم 3-4% من مناطق الضفة الغربية إلى إسرائيل، وذلك مقابل ضم 1% من مناطق إسرائيل إلى الدولة الفلسطينية. إن 7% من مساحة الجمهورية الفدرالية الألمانية هي أكثر بكثير من مساحة دولة سكسونيا. 7% من مساحة الولايات المتحدة هي أكثر بكثير من مساحة ولاية تكساس الضخمة. (سيناريو يجدر التفكير به: المكسيكيون يحتلون ولاية تكساس، يبنون جدارا بينها وبين سائر مناطق الولايات المتحدة ويملأونها بالمستوطنات المكسيكية).

إلا أن لعبة النسب المئوية يمكن أن توقعنا في الخطأ. ليست مساحة المنطقة هي المهمة فقط، بل موقعها الجغرافي أيضا.

من هذه الناحية بقي الخلاف بين إسرائيل والولايات المتحدة على ما هو عليه. يتعلق هذا الخلاف بالأساس بمنطقتين، سيؤدي امتداد الجدار فيهما إلى بتر الضفة العربية. إذا ضم الجدار منطقة أريئيل فإنه سيرسل "إصبعا" طويلة إلى أعماق الضفة العربية. ستتصل هذه الإصبع مع إصبع أخرى آتية من الشرق، وستقسم الضفة العربية على امتداد عرضها جنوب مدينة نابلس. إصبع أخرى سترسل من القدس إلى معاليه أدوميم التي سيتم توسيعها، وستقسم الضفة الغربية من الناحية العملية على امتداد عرضها في منطقة القدس.

ما زال الأميركيون غير موافقين على ذلك، ولهذا ينتهج شارون أسلوبه الخاص: سيبقى "ثقب" في الجدار في هاتين المنطقتين. أي بما معناه، أن شارون سيبني هناك عندما سيحين الوقت فقط، حين سينجح في حث الأميركيين على الموافقة.

إلا أن حساب النسب المئوية يوقع في الخطأ من ناحية أخرى. يتحدثون اليوم عن الجدار "الغربي"، والذي من المزمع أن يفصل بين الضفة الغربية وإسرائيل. لا أحد يتحدث عن "الجدار الشرقي".

إلا أن الكتمان لم يعد يطوي نية شارون في بناء هذا الجدار أيضا، الذي من المتوقع أن يطوّق الضفة الغربية ويفصلها عن غور الأردن وشاطئ البحر الميت. إنها منطقة شاسعة تضم حوالي 20% من مساحة الضفة العربية، وسيعزلها عن العالم الخارجي تماما. شارون يدرك بأن ليس باستطاعته بناء هذ الجدار في هذا الوقت بسبب معارضة الولايات المتحدة والعالم أجمع، كما أن الميزانيات غير متوفرة لديه لتنفيذ ذلك، ولذا فهو يؤجل هذا الأمر إلى المستقبل.

بالمقابل، يشتمل قرار الحكومة على منطقة جنوب الخليل، حيث من المتوقع بناء الجدار هناك على امتداد الخط الأخضر تقريبا. يبدو هذا الأمر رائعًا، غير أنه هو أيضا يخبئ في طياته مكيدة: شارون لا ينوي بناء هذا المقطع من الجدار في المستقبل المنظور. إنه يؤجل هذا الأمر لتسنح له الفرصة بذلك - وعندها سيقترح امتدادا مختلفا تماما، حيث سيشتمل هذا الامتداد على إصبع تدخل في عمق الجهة الشمالية من الضفة العربية، لتشتمل على مجموعة من المستوطنات، وبالأساس مستوطنة كريات أربع.

بالحيلة تصنع لك مستوطنة.

يدا شارون مليئتان، في هذه الأثناء، بالعمل داخل الـ 7% التي تمت المصادقة عليها. فكل هذه المنطقة الواقعة بين الجدار وبين الخط الأخضر يملؤها بالمستوطنات الجديدة ومن بينها:

مدينة جديدة باسم "غفاعوت" (التلال)، يتم التخطيط لبنائها غربي مدينة بيت لحم، في المنطقة المسماة "غوش عتصيون".

هذا اسم كاذب: غوش عتصيون الأصلية كانت مؤلفة من بضع بلدات تقع على الخط الأخضر. لقد استولى عليها العرب في حرب عام 1948، وبعد أن احتلتها إسرائيل عام 1967، تم بناء هذه البلدات مجددا. بعد ذلك أقيمت إلى الغرب منها مدينة كبيرة باسم إفرات (أو إفراته)، إضافة إلى بضع مستوطنات أخرى، حتى تحولت هذه المجموعة من المستوطنات الصغيرة إلى كتلة كبيرة. يزمع شارون الآن تكثيف هذه الكتلة أكثر فأكثر.

مستوطنة جديدة كبيرة أخرى باسم يوقع في الخطأ: "تسوفيم تسافون" (ينظرون إلى الشمال)، المزمع إقامتها بين الجدار والخط الأخضر شمالي قلقيلية. هذه المستوطنة هي أيضا مخططة لتتحول إلى مدينة.

أحياء كبيرة يتوقع أن تبنى لكي توصل كتلة معاليه آدوميم بالقدس، ولتصل من الناحية العملية إلى أريحا.

في نفس تلك المنطقة، يعدنا عضو حزب العمل، وزير الإسكان يتسحاق هرتسوغ، ببناء أحياء كبيرة تمتد من "هار حوماه" (جبل أبو غنيم) وحتى معاليه آدوميم. وحي آخر يخطط لإقامته شرقي بلدة الرام. إن النية هي عزل القدس الشرقية تماما عن الضفة الغربية.

كل هذا يحدث في وقت تتعطّر فيه الدولة والعالم بأسره من عطر خطة الانفصال. وما هي، في حقيقة الأمر، إلا خطة لترسيخ قطاع غزة كأحد القطاعات المعزولة في "الدولة المؤلفة من مناطق متفرقة" (تصل مساحة قطاع غزة إلى 6% فقط من مساحة المناطق المحتلة). حزب العمل هو شريك كامل في هذه المؤامرة. معظم هذه المناطق مدرجة أيضا في خارطة "الكتل الاستيطانية" التي وضعها يوسي بيلين.

من وجهة نظر شارون، تأتي خطة الانفصال لتضحي بعدد ضئيل من المستوطنات في جزء ناء من المناطق المحتلة بهدف تحقيق خطته الكبرى للاستيلاء على معظم أجزاء الضفة العربية.

وها هو بوش الآن يعلن أنه لا يقبل هذه الخطة. لقد ابتسم الأوروبيون بلباقة وهم يقفون خلفه، فربما صدقوه وربما لم يصدقوه.

المصطلحات المستخدمة:

الخط الأخضر, كريات أربع, الكتلة

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات