المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

بقلم: دانئيل بن سيمون

لو كان بالامكان اعادة العجلة الى الوراء لكان سكان مستوطنة "موراغ" قد استرجعوا من ارئيل شارون " العضوية الفخرية" التي منحوها له وارسلوه الى جهنم وبئس المصير. فهم لا يستطيعون لغاية اليوم نسيان ذلك اليوم الذي عبرت فيه قافلة سيارات رئيس الوزراء بوابات المستوطنة. وقد ابتهج سكان المستوطنة بشكل خاص عندما علموا ان شارون فضلهم على الآخرين، حيث مورست ضغوط شديدة على شارون كي يقوم بزيارة مستوطنة تتمتع باهمية وحماية اكبر من مستوطنة "موراغ"، كـ "نافية دكليم" الواقعة وسط قطاع غزة. لكن شارون، الذي كان قد انتخب للتو لفترة ولايته الاولى لرئاسة الحكومة، اصر على زيارة المستوطنة الاكثر عزلة بين 17 مستوطنة في "غوش قطيف"، اي مستوطنة "موراغ".

ليست هناك مستوطنة مثل "موراغ" المطوقة بعداء وكراهية عميقين. صحيح ان "نتساريم" و"كفار دروم"قد تحولتا الى رمز مرعب للحماقة الاسرائيلية في "غوش قطيف"، لكنهما ليستا معزولتين مثل "موراغ" وليستا بعيدتين مثلها عن الحياة الاسرائيلية. فالأفق حولها، وحيثما شخصت الابصار هو افق فلسطيني؛ خانيونس وقراها ومخيماتها من الشمال، ورفح ومخيماتها من الجنوب، فيما تطبق عليها (على مستوطنة موراغ)من الشرق والغرب قرى وبلدات فلسطينية.

لعل رئيس الوزراء الجديد في حينه (شارون) اختار هذه المستوطنة الصغيرة كمحطة وحيدة في زيارته لقطاع غزة، على سبيل التخفيف عن الضائقة التي لفت المستوطنة وسكانها.. ففي تلك الفترة الملتهبة اصبحت المستوطنة (موراغ) شبه مهجورة بعدما نزح عنها غالبية سكانها تحت وطأة دوي الرصاص وصفير قذائف الهاون التي حولت ليل سكان المستوطنة الى جحيم.

استقبل رئيس الوزراء شارون عند زيارته للمستوطنة استقبالا حافلا، وجلس في حجرة سكرتاريا مجلس المستوطنة ليتحدث مع المسؤولين فيها.

يقول نفتالي يونا، سكرتير مجلس المستوطنة: "كان ذلك متعة كبيرة وانفعالا هائلا ان نرى رئيس الحكومة في اكثر نقطة معزولة في غوش قطيف.. لقد كنت دوما معجبا بهذا الرجل – شارون- ورأيت فيه بطلا. في ذلك اليوم نسينا كل همومنا والمخاطر المحيطة بنا وشعرنا بامل كبير يفعسم قلوبنا".

تفحص شارون سكان المستوطنة بنظرة مطولة.. في تلك الايام وصل الجدل الداخلي الذي نشب بين سكان المستوطنة اوجه مهددا بتقويض النسيج الاجتماعي في المستوطنة. كان هناك من اعتقد ان المخاطر كبيرة وانه آن الاوان للرحيل؛ مستوطنون آخرون قالوا انه لا يجوز التزحزح من المكان طالما ان الحكومة لم تقل كلمتها. وقف "يونا" امام شارون وقدم له باسم السكان كتاب تعيين لمنصب رئيس فخري لمجلس المستوطنة. خاطب "يونا" شارون قائلا: سيدي رئيس الحكومة، هل تستطيع ان تضمن لنا باننا لن نبارح هذا المكان؟ نريد منك ان تتعهد لنا بانك اذا قررت لاسمح الله ، تفكيك موراغ واخلاء سكانها، فانك مستعد للقدوم الى هنا لتشرح لنا الاسباب التي جعلتك تقدم على مثل هذا القرار".

راح شارون كعادته يمتدح صمود السكان (المستوطنين) في ما وصفه بـ"حرب الارهاب التي فرضها علينا الفلسطينيون". غير انه لم يهدأ مخاوفهم، كما انهم لم ينجحوا في انتزاع تعهد منه بان المستوطنة ستبقى في مكانها الى الابد.

لم يبق من الزيارة سوى الصور

لم تبق من ذلك اليوم (يوم زيارة شارون) للمستوطنة سوى ذكريات مشوهة وصورتان علقتا في غرفة السكرتاريا.فبعد مرور اكثر من عامين على الزيارة، يبدو ان مصير "موراغ" معلق في الهواء اكثر من اي فترة مضت.

هناك شائعات متزايدة بان هذه المستوطنة المعزولة ستكون " الضحية" الاولى في خريطة التنازلات التي رسمت في مكتب رئيس الوزراء.

اوساط اليمين متأكدة من ان رئيس الوزراء (شارون) قد اتخذ قراره باخلاء "موراغ" قريبا وانه اطلع الاميركيين على ذلك. وبحسب مصدر رفيع في معسكر اليمين فقد اوشك شارون، على ذكر اسم "موراغ" في خطابه امام مؤتمر هرتسليا الاخير، الى جانب مستوطنتي "كديم" و"غانيم"(القائمتين في عزلة قرب جنين)، عند اشارته لمستوطنات مرشحة للاخلاء، الا انه قرر في اللحظة الاخيرة شطب اسماء هذه المستوطنات من خطابه المكتوب.

ثمة شعور سيء يخيم على سكان"موراغ" منذ اشهر عديدة. وقد تعزز هذا الشعور خلال الاسبوعين الاخيرين مما حدا بعدد منهم للتوجه الى سكرتاريا المستوطنة للسؤال عما يجري، البعض سأل اذا ما كان يجدر مواصلة البناء، وتساءل البعض الاخر عن جدوى مواصلة العيش في المكان. احد هؤلاء المتسائلين، وهو يعقوب روبين، من قدماء المستوطنة، حلم طوال سنوات عديدة بتركيب حجرة خزائن في منزله الفسيح.. قبل اسبوعين جاء النجار لأخذ القياس، عندئذ تساءلت زوجة روبين اذا ماكان الوقت ملائم لذلك، فاجابها زوجها ان الوقت لم يكن ملائما في اي وقت! وقال روبين موضحا: لو انني كنت آخذ بالحسبان ما يصرح به شارون لما كنت قد بنيت نهائيا.. انهم يتحدثون منذ عشرين عاما عن اعتزامهم اخلاءنا بينما نحن نزداد ونتوسع في واقع الامر. قلت لزوجتي عندما ابدت تخوفها من تبديد مبلغ عشرين الف شيكل على تركيب حجرة خزائن في ظل الحديث عن امكانية اخلاء المستوطنة، بان الامر، اذا ما اتخذ قرار بتنفيذه، يحتاج على الاقل الى سنة كاملة او سنتين..".

وفي محاولة للتغلب على الشعور بالمخاوف قرر نفتالي يونا ( رئيس مجلس المستوطنة) فرض وقائع جديدة على الارض، حيث قام الاسبوع الماضي مع عدد من مساعديه وانصاره بزرع 1500 غرسة زيتون في قطعة ارض جرى ضمها للمستوطنة في فترة سابقة، وذلك على الرغم من تحذير قادة الجيش الاسرائيلي في المنطقة من ان زراعة الاشجار تعيق مهام الجيش وتحجب مدى الرؤية بين منازل المستوطنة وبيوت الفلسطينيين المحيطة بالمنطقة.

لقد ظن "يونا" وربما اوهم نفسه بان غرس اشجار الزيتون سينقذه وزملاؤه في المستوطنة من خطر الاخلاء. علامات الغضب بدت واضحة على "يونا" فالشائعات تناهت الى مسامعه ايضا، بان شارون قرر التضحية بـ "موراغ" على مذبح التنازلات التي وعد الادارة الاميركية بها. يقول يونا مستذكرا "عندما جاء الى هنا قبل ثلاث سنوات قلت له بصراحة: سيدي رئيس الحكومة اذا اتخذت قرارا حساسا تعال الينا واشرح لنا الامر. لكنه لم يفعل ذلك ولم يرسل الينا حتى بمبعوث من طرفه.. كان باستطاعته ان يجد الف وسيلة للتخفيف عن الم السكان هنا لكنه لم يفعل شيئا".

رمز للوضع

باقي سكان المستوطنة ايضا يستصعبون فهم كيف قضي مصير مستوطنتهم بان تكون اول مستوطنات قطاع غزة المرشحة للاخلاء، علما ان هناك مستوطنات مثل "رفيح يام" و "فات سديه" و"شيرات هيام" والتي تقع على مقربة من "موراغ"، هي مستوطنات شبه مهجورة.. ويتساءلون: لماذا يكون ذلك هو الثمن الذي يتعين عليهم دفعه لقاء ثلاث سنوات من الحياة في ظل حرب؟!

وكانت 15 عائلة جديدة قد انتقلت خلال العامين الاخيرين للسكن في حي "فيلات" جديد بالمستوطنة (موراغ) التي اقيمت في العام 1987 ويقيم فيها حاليا ما مجموعة 36 عائلة.

وتيرة اعمال البناء والتوسع في المستوطنة ترتفع كلما ارتفعت وتيرة الحديث عن خطر الاخلاء المحتمل..

غير ان سكان المستوطنة لا يستطيعون مداراة هواجسهم، فتراهم مستغرقون بالتفكير في اليوم التالي. يقول يعقوب روبين" لا اعرف ماذا سيحدث اذا تم اخلاء المستوطنة.. لا استطيع تصور اليوم الذي يمكن ان يقولوا لنا فيه ان عليكم الرحيل عن المكان. الحقيقة اننا تحدثنا دائما عن الاخلاء، لكن ذلك كان دائما هاجسا في قلوبنا.اليوم اصبح ذلك ملموسا اكثر، ولذلك فهو يخيفنا اكثر من ذي قبل".

تحدث "روبين" عن المكانة التي حظي بها هو وسواه من زملائه عندما انضموا للمستوطنة، مشيرا الى ان حياتهم في المدينة كانت بلا معنى وانهم شعروا بالاهمية بعدما نقلوا حياتهم الى المستوطنات خارج " الخط الاخضر".

فقد اصبح لدى الجميع فجأة دور ومهام، فهذا اصبح سكرتير لمستوطنة وذاك مساعدا للسكرتير، واخر عضوا في السكرتاريا العليا، او مسؤولا عن الامن.. الخ.

لم يبق احد الا وتبوأ منصبا. واعتبر روبين ان اخلاء المستوطنين من مستوطناتهم في قطاع غزة سيفقدهم معنى حياتهم وكل ما ينعموا به من شأن ومكانة، وان ذلك سيعود بالخراب على وضعهم الشخصي..

غابي اسحق/ 47 عاما/ الذي كان قبل 16 عاما في عداد النواة المؤسسة لمستوطنة "موراغ" والتي خطط في الاصل لتوطين 240 عائلة فيها من انصار الحزب الوطني الديني( المفدال)، قال بغضب " ما الذي يستطيع شخص مثلي ان يفعله في الحياة اذا اخرجوني من موراغ؟".

وقد رأى المستوطنون في بناء المستوطنة " تجسيدا دينيا"، فيما رأى العسكريون في اقامتها " قيمة استراتيجية" كموقع يهودي مزروع بين خان يونس ورفح.

عقدة "يميت"

الساحة الجديدة وكرم الزيتون والمساكن الجديدة التي يجري بناؤها في "موراغ" هي بمثابة اعلان نوايا من جانب رؤساء المستوطنة بانهم سيواصلون حياتهم كالمعتاد في البناء والتوسع رغم ان هناك من يخطط لاخلائهم.

فهل يكفي ذلك لمنع الاخلاء؟

سكرتير المستوطنة، نفتالي يونا، تعلم من خلال سبع سنوات امضاها في منصبه، درسا او درسين في العلوم السياسية على الطريقة الاسرائيلية. لقد تعلم من تجربته ان الساسة الاسرائيليين يفهمون جيدا لغة القوة وانهم يضعفون امامها.. يقول يونا " نحن على ثقة ووضوح بان شارون لن يجرؤ على المس بنتساريم او كفار دروم، لآن نتساريم تحولت الى اسطورة وكذلك كفار دروم. فما الذي سيفعله عندئذ؟ سوف يبحث عن مستوطنات سهلة للاخلاء مثل غانيم و كديم وموراغ.

اعتقد ان احدا ما همس في اذنه بان من السهل تفكيك موراغ لآن القاطنين فيها ليسوا مستوطنين عقائديين.. لكننا لن نقبل باخلائنا من هذا المكان. انا اعارض التضحية بموراغ كجزء من فاتورة السلام".

بعد خطاب شارون في مؤتمر هرتسليا قرر "نسيم برخا" رئيس سكرتاريا مستوطنة "موراغ" استدعاء خبيرة نفس للمستوطنة، كانت سابقا من سكان مستوطنة "يميت" التي جرى تفكيكها بموجب معاهدة السلام الاسرائيلية - المصرية، وذلك حتى يتعرف سكان "موراغ" من خلالها على الاثار التي خلفتها عملية الاخلاء لديها ولدى افراد عائلتها.

يقول "برخا" انه دعاها كي تساعد في " شسد ازر المستوطنين وتقوية عزيمتهم، وحتى لا يفكروا بان الاخلاء هو نوع من الحل.. انني اهيأهم للكابوس الذي قد نواجهه".

تسبي هندل، نائب وزيرة التعليم، والذي يقيم في مستوطنات "غوش قطيف"، على قناعة بان رئيس الوزراء ارئيل شارون ينوي التضحية بعدد من المستوطنات ليلوح لليسار الاسرائيلي بانه رجل معتدل، وليستعطف رجالات النيابة العامة الذين يعكنون على دراسة ملفات التحقيق ضده (ضد شارون) وضد ولديه. ويعتقد "هندل" وهو من اعضاء قائمة الاتحاد الوطني اليمينية، ان شارون لم يذكر في خطابه بهرتسليا اسماء المستوطنات المرشحة للاخلاء حتى لا يفقد احزاب اليمين من الائتلاف.

وقال "هندل" ان كتلته ( الاتحاد الوطني) ابلغت شارون بصورة قاطعة انه اذا ذكر (في خطابه) اسماء مستوطنات فان الكتلة ستنسحب فورا من الائتلاف الحكومي. واستطرد هندل مطمئنا "اريد ان اقول لسكان"موراغ" بان باستطاعتهم ان يكونوا مطمئنين.. ولكن الى متى؟ لا ادري..".

(هآرتس 2004/1/4)

المصطلحات المستخدمة:

رئيس الحكومة, هرتسليا, يميت, الكتلة, هآرتس

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات