المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

سافرت للمشاركة في الاجتماع الفلسطيني - الاسرائيلي في الأردن يراودني مزاج متشكك؛ تصورت أن يحدث ما حدث مراراً من قبل، فربما نفلح هناك في صياغة اعلان مبادىء مشترك بشأن الحاجة الى إحلال السلام ووقف الارهاب وانهاء الاحتلال والقمع والاعتراف المتبادل بالحاجة الى العيش كجيران في دولتين لشعبين. قمنا بذلك من قبل مراراً في عدة اجتماعات ولقاءات وبيانات وغيرها. منذ عشر سنوات ونحن نقف مرة تلو مرة "قيد أنملة" ومن ثم نتدهور الى هاوية العنف واليأس.

اعتقدت أن نقاط الخلاف الساخنة القديمة ستفشلنا مرة أخرى: "حق العودة" أو حل مشكلة اللاجئين؟ "العودة الى حدود 67" – أو رسم خارطة تأخذ في اعتبارها الحاضر أيضاً، وليس الماضي التاريخي فقط؟ اعتراف واضح بحقوق الشعبين، اليهودي والفلسطيني، بالعيش كل في دولته - أم كلام منمق مراوغ حول "التعايش بسلام"؟ موافقة فلسطينية على التوقف عن أي مطالب اضافية في المستقبل – أم إبقاء "ثقوب سوداء" لتجديد النزاع والعنف؟

في الاتفاقيات السابقة، بما فيها اتفاقية أوسلو، تجنب الطرفان الوقوع في مطب معالجة "اللب النووي" للنزاع- اللاجئين والقدس وإنهاء الصراع والحدود الثابتة، إنما اكتفوا بمد شريط أبيض حول حقول الألغام تلك وأجلوا حلها الى حين نشوء مستقبل أفضل. اما قمة كامب ديفيد فقد تحطمت عندما ملامستها لهذه الألغام.

بين الغضب والمزاح

في الأمسية الأولى التقت المجموعتان لحديث تمهيدي، بعد أيام من قتل العائلات في مطعم "مكسيم" في حيفا وبعد ساعات من قتل الأبرياء في رفح، وبضمنهم الأطفال، يسود الغرفة جو غريب. هنا وهناك يحاول البعض المزاح ربما للتغطية على خليط من الاثارة والمرارة والشك والنية الحسنة. قبالة جنرال الاحتياط شاؤول أريئيل، الذي كان قائد قوات الجيش الاسرائيلي في غزة، يجلس سمير رنتيسي، ابن عم زعيم حماس، عبد العزيز الرنتيسي. إبن المرحوم فيصل الحسيني يجلس قبالة العميد شلومو بروم، الذي كان نائب قائد وحدة التخطيط الاستراتيجي في الجيش الاسرائيلي. الى جانب دييف قمحي، مدير عام وزارة الخارجية سابقاً، يجلس فارس قدورة، من قيادات التنظيم.

من الشباك، وراء البحر الميت، تطل أنوار "كاليا"، التي ستنقل بموجب وثيقة جنيف الى الجانب الفلسطيني، وكذلك قبة الأضواء الواسعة لمعاليه أدوميم، والتي ستصبح بموجب الوثيقة ذاتها، جزءا لا يتجزأ من دولة اسرائيل.

الى ما بعد منتصف الليل، تحدثنا وتناقشنا (بلغة عبرية فصيحة) مع هشام عبد الرازق، الذي أمضى 21 سنة - نصف عمره- في السجون الاسرائيلية. الآن يعمل لديهم كوزير لشؤون السجناء. هناك شيء من الحميمية في هذه اللقاءات؛ الاسرائيليون والفلسطينيون اعداء لكنهم ليسوا غرباء. المشرف السويسري على اللقاء صُدم بالتأكيد لرؤية التحولات المتسارعة من الغضب الى اللكز بالأكواع ومن الكلام اللاسع المؤلم الى تدفق أمواج الضحك المشتركة (عبارات بريئة من الجانب الاسرائيلي مثل "أريد أن أوقفك للحظة"، أو من الجانب الفلسطيني مثل "على هذا البند سأقوم بتفجير الجلسة"، تثير ضحكا عصبيا، لكن مريح).

عندما يحين الوقت، سنجلس مع السوريين على طرفي طاولة المباحثات ونحن متزمتين ووجوهنا جامدة. الفلسطينيون أيضاً، كما أخبروني، يلتقون بالسعوديين دائماً في جو رسمي من الآداب والانضباط. أما هنا، في فندق على شاطىء البحر الميت (يتجول حايم اورن – جومس - وياسر عبد ربه منتعلين الصنادل والبنطلونات القصيرة. يوسي بيلين ليس كذلك)، هنا نحن نبدو بعض الشيء كزوجين قديمين في غرفة الانتظار التابعة لمكتب الطلاق؛ هم ونحن باستطاعتنا أن نتمازح ونصرخ ونسخر ونتبادل التهم ونندفع مقاطعين حديث بعضنا البعض ونضع يدنا على الأكتاف والخواصر ونرمي بعضنا بأقوال غاضبة كما وتدمع عيوننا مرة أو مرتين.

لأننا نحن وهم عشنا 36 سنة حميمية. حقاُ، حميمية عنيفة ومرة ومشوهة، لكنها حميمية. لأننا هم ونحن، لا الأردنيين ولا المصريين، وبالطبع ليس السويسريين، نعرف تماماً كيف يبدو الحاجز وكيف يدوي صوت السيارة المفخخة وما سيقوله عنا غداً بيني ألون والشيخ ياسين. لأننا منذ حرب الأيام الستة نلازم الفلسطينيين ملازمة السّجان لسجينه المكبل به بالأصفاد. السجان الذي يكبل يده بيد سجينه لساعة أو ساعتين هو أمر عادي، لكن السجّان الذي يكبل نفسه الى سجينه طوال 36 سنه فهو أيضاً ليس حرّاً. الاحتلال سلبنا حريتنا أيضاً.

ليس الهدف من هذا الاجتماع هو اعلان بداية شهر عسل بين الشعوب، بل العكس؛ لكي تُختزل الحميمية المشوهة تلك في نهاية المطاف الى صياغة وثيقة طلاق منصفة. طلاق مؤلم ومعقد لكنه يحل الأصفاد: هم يعيشون في بيتهم ونحن في بيتنا. ستتحول البلاد لا الى سجن ولا الى سرير زوجي، انما الى بيت مشترك لعائلتين. علاقة الأصفاد التي نشأت بين السجّان وسجينه ستتحول الى علاقة بين جيران يستعملون درجا مشتركا يؤدي الى بيوتهم.

حماقتكم وحماقتنا

نبيل قسيس، رئيس جامعة بير زيت سابقاً ووزير التخطيط في السلطة الفلسطينية، رجل خلوق ومنكفيء وحزين، هو الوحيد من بين المجموعة الفلسطينية الذي لا يسارع الى تبادل النكات واللسعات مع الاسرائيليين. قال لي ونحن على مقربة من غرف المراحيض: "حاول من فضلك أن تفهم ذلك؛ التنازل عن حق العودة للمدن والقرى التي ضاعت منا في سنة 48، هو بالنسبة لي تغيير هويتي". وأنا حقاً "أحاول تفهم ذلك": معنى هذه الكلمات أن هوية قسيس مشروطة بمحو هويتي.

فيما بعد، في قاعة الجلسات، يرفع قسيس صوته عالياً ويطالب شبه غاضب بأن تظهر كلمة "العودة" في صيغة الاتفاقية. مقابل ذلك يوافق هو وزملاؤه على أن ترفق بالكلمة بعض التحفظات. أبراهام بورغ أيضاً يرفع صوته وهو أيضاً غاضب: لنرى قسيس يتنازل عن جزء من هويته القومية كما أتنازل أنا ابراهام بورغ عن جزء من معتقداتي الدينية عندما أبدي استعداداً لوضع الأقصى تحت السيادة الفلسطينية. أنا أبدي ملاحظة من جانبي وأقول أن "العودة" بنظري هي شيفرة لتصفية اسرائيل واقامة دولتين فلسطينيتين على انقاضها. هناك عودة - ليس هناك اتفاق. زد على ذلك: سأكون شريكاً فقط في وثيقة تتضمن اعترافا بحق الشعب اليهودي القومي باقامة دولته.

تلك كانت واحدة من لحظات التأزم أثناء الاجتماع. في نهاية الأمر، لم تظهر تعابير "حق العودة" ولا "العودة" في الوثيقة. تتحدث الوثيقة عن حل شامل لمجمل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين خارج حدود دولة اسرائيل. بالاضافة لذلك، تعترف الوثيقة التي وقعنا عليها بشكل واضح بحق الشعب اليهودي بالحصول على دولته الى جانب دولة الشعب الفلسطيني. وكما هو معلوم لدي، لم نسمع أبداً تعبير "الشعب اليهودي" من أي شخصية فلسطينية تمثيلية وبالتأكيد لم نسمع أي تعبير عن اعتراف بالحقوق القومية للشعب اليهودي باقامة دولة مستقلة في البلاد.

في الثانية من بعد منتصف الليل وبعد فنجان القهوة الـ 15، أثناء الاستراحة ما بين جدل وصياغة وما بين تباحث ومناورة، قلت لعبد ربه ولبعض رفاقه: سيلزمنا يوماً إقامة نصب تذكاري مشترك للحماقة الفظيعة، حماقتكم وحماقتنا. ألم يكن بمقدوركم أن تصبحوا شعباً حُراً قبل 55 سنة وقبل خمس أو ست حروب وقبل العديد من القتلى – قتلاكم وقتلانا – لو وقعتم على وثيقة مشابهة سنة 48؟ أما نحن الاسرائيليين، فكان بمقدورنا ان نحيا آمنين بسلام لو عرضنا على الفلسطينيين سنة 67 ما تقترحه هذه الوثيقة الآن ولو لم يتملكنا ثمل المنتصرين المغرور بعد احتلالات حرب الأيام الستة.

عصا كبيرة ورأس صغير

كان طبيعياً أن نفترض أن يهب اليمين الصقري ضد هذه الوثيقة غاضباً مزمجراًليس بسبب مضمونها، إنما لوجودها بحد ذاته: من صمم كامل هويته وكل أيامه بالاعتماد على طريقة العيش والظهر الى الحائط، فلا عجب أن يفقد توازنه عندما يزيلون الحائط فجأة. من رتب العالم دائماً بالاعتماد على الاعتقاد السائد بأن ليس هناك ولن يكون هناك من نتحدث معه وليس هناك ولن يكون هناك ما نتحدث عنه، فهم لن يوافقوا أبداً، البحر هو نفس البحر والعرب نفس العرب- وطبيعي أن من يعيش في "مقطرة نفسية" كهذه، سيُجن جنونه إذا أريناه أن هناك طريقة أخرى: ثمة من نتحدث معه وثمة ما نتحدث عنه وهناك طريقة للحديث وان كان ثمنها لاسعا. لاسعا للطرفين.

لكن بدون تقسيم الأرض سيتحول الشعب اليهودي خلال سنوات قليلة الى أقلية في البلاد الممتدة من النهر الى البحر. من المحبذ فهم هذه الحقيقة. انها تبقي أمامنا ثلاث امكانيات: إما أن نحيا كأقلية في دولة عربية، وإما أن نفرض حكم الأقلية اليهودية بالقوة والقمع على الغالبية غير اليهودية، وبهذا نتحول الى دولة منبوذة وقبيحة، وإما أن نتنازل بطرق سلمية عن تحكمنا بمناطق فلسطينية.

اذا اخترنا الطريق غير الانتحاري - التنازل عن حكم شعب آخر - فسيتاح لنا الخيار: أن ننسحب بطريقة أحادية الجانب، بدون اتفاق (وحينها نستطيع الاحتفاظ ببعض الأراضي حول الضفة الغربية، لكننا لن نضع حداً للعنف والارهاب)، أو نقتسم البلاد بطريقة سلمية، بموجب اتفاقية شاملة، مع تراجع الفلسطينيين عن اية مطالب اضافية في المستقبل. تلك، وتلك فقط، هي الامكانيات الواردة أمامنا. هذه هي عملياً "خارطة الطريق" القومية التي على اسرائيل أن تحدد مسارها ضمن حددودها.

وماذا يقترح علينا اليمين الصقري (عدا ذم الشخصيات المبادرة للسلام)؟ انه يقترح علينا نفس الاقتراح الصديء المتآكل الذي قدمه لنا قبل عشر سنوات وقبل 20 سنة وقبل 50 سنة وحتى قبل 70 سنة: هيا بنا نأخذ مرة أخرى عصا أكبر ونضربهم مرة أخرى وبقوة أكبر الى أن يفعلوا ما نمليه عليهم. لم يتغير شيء ولم ينفع شيء لدى اليمين الصقري منذ الخمسينيات، عندما اعتاد مندوبو اليمين في الكنيست اقتراحه كل اسبوعين أو ثلاثة اسابيع كعلاج للمقاطعة العربية أو كرد على استنزاف يقع على الحدود، أن تبادر اسرائيل الى حرب. هناك ما يحبط في هذه الزيجة الثابتة، عصا كبيرة ورأس صغير. لم يتغير أي شيء في التقاليد العكرة لصيادي الخونة المندفعين بكلامهم لغسل كل من لا يفكر مثلهم ببئر من العار والقذع والتحريض المنفلت: من هم حقاً هؤلاء الذين يقيمون الدنيا ويقعدوها بسبب "المس بالمكانة السيادية للحكومة المنتخبة والشرعية"؟ هؤلاء هم نفس الأشخاص الذين سخروا أيما سخرية من أي شرعية لأي حكومة منتخبة في اسرائيل منذ أيام سبسطيه وحتى الآن، وعبروا عن سخريتهم تلك ليس عبر اتفاقيات ولقاءات، إنما عبر اقامة المستوطنات غير الشرعية وبالسطو على التلال وبمواجهات عنيفة مع الشرطة والجيش وبتحريض واضح (وناجح) لقتل رئيس حكومة وبتمرد عنيف ضد حكومة بيغن عند اخلاء "ياميت" وحتى بالدوس على حكومة شارون بأرجل بلطجية التلال.

منظر آخر من الشباك

ليس هناك أي معنى للهستيريا التي يثيرها معارضو الوثيقة: المبادرون يعرفون تماماً أن حكومة شارون هي حكومة اسرائيل القانونية وان مبادرتهم ليست سوى مناورة. الهدف من المناورة هو فقط فتح نافذة للرأي العام الفلسطيني والاسرائيلي. نافذة تطل على مشهد آخر. لا سيارات مفخخة بعد او عمليات استشهادية واحتلال وقمع وسلب، ولا حرب أبدية وكراهية ابدية، إنما حل مفصل وحذر لا يتخطى أي من المسائل الأساسية ومبدؤه: نحن ننهي الاحتلال وينهي الفلسطينيون حربهم ضد اسرائيل. نحن نتخلى عن تحقيق حلم أرض اسرائيل الكبرى وهم يتخلون عن تحقيق حلم فلسطين الكاملة. نحن نتنازل عن اجزاء محببة الى قلوبنا في اسرائيل وكذلك يفعلون هم.

مشكلة لاجئي 48، وهي جوهر مشكلة أمننا القومي، تجد حلاً كاملاً ومطلقاً خارج حدود اسرائيل وبمساعدة عالمية واسعة. اذا تحققت المبادرة، لن يبقى في الشرق الأوسط مخيم لاجئين واحد، وسيتم الغاء وكالة الغوث للاجئين، وسيتم الغاء مكانة ما يسمى "لاجيء فلسطيني". وفي الوثيقة يلتزم الطرف الفلسطيني بأن لا يقدم مطالب اضافية في المستقبل، لا في قضية اللاجئين أو الحدود ولا في أي قضية أخرى. ترسم الحدود الثابتة والواضحة والمتفق عليها بين الدولتين وتقام بينهما علاقات دبلوماسية.

بعد نهاية الاجتماع، وبعد التوقيع على وثيقة مبادرة جنيف، قال لنا أحد الفلسطينيين اننا ربما نرى في الأفق الآن نهاية حرب المائة سنة بين اليهود والفلسطينيين، لكن سيحل مكانها الآن نضال بين مؤيدي السلام والتسوية في الشعبين، وبين إئتلاف متعصب من المتطرفين على الجانبين. هذا النضال يصل الآن الى أوجه. لقد بدأ به شارون قبل اعلان مبادرة جنيف وهب لتأييده زعماء الجهاد وحماس، مستعملين نفس نعوته.

ماذا ينقص وثيقة مبادرة جنيف؟

ينقصها أسنان. ليست هي سوى 50 ورقة. لكن لو قبلها الرأي العام في الشعبين- فها هي تطوي في داخلها جميع برامج العمل الشاق المترتب على صنع السلام. تقريباً حتى آخر التفاصيل. إن أراد شارون وعرفات التمسك بهذه الوثيقة كقاعدة للاتفاق؟ لن يتجادل معهما كاتبو صيغة الوثيقة على حقوق الملكية الفكرية. هل اذا نهض شارون وأتى ببرنامج أفضل وأكثر تقدماً وأكثر قومية، سيقبله الطرف الآخر؟ أهلاً وسهلاً. ليأتي به وهو مبارك: على الرغم من أن شارون كما تعرفون شخصية ثقيلة الوزن، فيا أصدقائي، سنحمله على الأكف.

(يديعوت احرونوت – 17 تشرين)

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات