المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

كان ديان يرى ان الفلسطينيين ما داموا يعامَلون بلين من جانب سلطات الاحتلال الإسرائيلية، فسيكون من الممكن الاحتفاظ بالأمر الواقع في الضفة الغربية وقطاع غزة لأجيال مقبلة. كما ان ديان والمؤسسة العسكرية والسياسية الإسرائيلية بكاملها تقريباً كانا مقتنعين بأنه ليس الفلسطينيون فحسب بل والمصريون والسوريون كذلك لن يكونوا قادرين على تشكيل تهديد عسكري لإسرائيل لعقود مقبلة من الزمان.ظهَر رأي ديان في الجيوش العربية خلال زيارة له إلى فيتنام. هناك سأله الجنرال الأميركي وستمورلاند عن كيفية انتصاره في تلك الحرب، وكان جواب ديان: <<إذا أردت الانتصار فعليك أولاً أن تختار العرب ليكونوا أعداءك!>>، بل إنه قال لي بعد الحرب بأسابيع: <<ما هي الضفة الغربية بأكملها هذه؟ إنها مجرد زوج من تجمعات البلدات الصغيرة>>.

ربما ننسى أن كبار القادة السياسيين يعيشون حياة تختلف جداً عن حياتنا. فحراسهم يناورون بهم من خلال تنقلاتهم عبر إشعال المصابيح الحمراء، وغالباً ما يتنقلون بالمروحيات. نعم، ربما كانت الضفة الغربية تبدو للناظر إليها من المروحية مجرد مجموعة من البلدات والقرى البائسة. ومزاج ديان اصبح جلياً في مقابلة له مع >ديرشبيغل< الألمانية. فحينما سألوه كيف تأمل إسرائيل بتحقيق السلام، كان جوابه: <<بالبقاء ثابتين كالحديد في كل مكان نقف فيه الآن الى ان يصبح العرب مستعدين للتنازل>>.

سؤال: إذاً، فإن الملك حسين هو الوحيد المؤهل ليكون شريكاً لكم في المفاوضات، غير أنه ليس قوياً بما فيه الكفاية ليستطيع قبول شروطكم.

ديان: في هذه الحالة عليهم أن يعثروا لأنفسهم على ملك آخر.

سؤال: لكن الاردن قد لا يكون بلدا قويا بما يكفي لقبول السلام بشروط ديان.

ديان: في هذه الحالة عليهم أن يعثروا لأنفسهم على بلد آخر.

سؤال: في مثل هذه الظروف سيكون من الصعب، إذاً، الأمل بسلام قريب.

ديان: ذلك صحيح، ربما.

قبل حرب 1973، كان موقف ديان ازاء مصر يتمثل في انه من الافضل الاحتفاظ بشرم الشيخ ونصف شبه جزيرة سيناء بدون سلام مع مصر من السلام معها بدون الاحتفاظ بشرم الشيخ. غير ان موقف ديان تجاه مصر قد تغير بعد حرب 1973، وأصبح مستعداً للرحيل عن سيناء بكاملها، اما بالنسبة للضفة الغربية، وفي تجاهل كامل لكل الحقائق الديمغرافية، فقد ظل موقفه استعمارياً. وكان هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأميركي، قد أعرب عن شكواه من انه كلما سأل الإسرائيليين عن نواياهم لم يكن يحصل على جواب.

إن الحقيقة هي انه على الرغم من >لاءات الخرطوم الثلاث< كانت المفاوضات المباشرة مع الملك حسين قد بدأت مباشرة بعد حرب 1967، ومع حلول 1970 كان الملك حسين شخصياً هو من يتحدث مع الإسرائيليين. وحتى حينما كانت غولدا مائير تندب حظها علناً بالقول: >لو أن العرب يقبلون فقط أن يجلسوا معنا على الطاولة مثل أي كائنات بشرية محترمة< فقد كان ممثلوها يجتمعون سراً مع الملك حسين. بل ان الملك حسين قاد مروحيته الخاصة وذهب بنفسه إلى تل ابيب، وهناك رافقه موشي ديان في نزهة ليلية في أنحاء المدينة. لقد كان الملك حسين مستعداً للسلام مع إسرائيل، لو انسحبت من معظم الضفة الغربية ومن القدس الشرقية وأعادت الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية للأردن. كما كان مستعداً لتقديم تنازلات في الأرض لإسرائيل بموازاة السهل السحالي الضيق وتنازلات أخرى في القدس عند حائط البراق.

غير أن إسرائيل ما كانت لتصغي لذلك. فمنطقة بلدية القدس كانت قد توسعت حينها لتشمل ليس القدس الشرقية العربية فحسب، بل وأجزاء من الضفة الغربية، وأعلنت القدس عاصمة إسرائيل <الأبدية>. وإلى جانب منطقة القدس الكبرى التي استوطنها إسرائيليون بكثافة على أراض صودرت من أصحابها الفلسطينيين، اصرت إسرائيل أيضاً على تبني أحدث خطط ألون (الموسعة). ودعت هذه الخطة لضم كل وادي الأردن لإسرائيل من بحيرة طبرية وجنوباً حتى البحر الميت والمنطقة عالية الكثافة السكانية بين القدس والخليل والمنحدرات وسلسلة الجبال الشرقية والشمالية. وكان جواب الملك حسين لهم انهم إذا ارادوا الحصول على مثل هذه التنازلات الكبرى فعليهم الحصول عليها من منظمة التحرير الفلسطينية. وكان من المؤسف فعلاً انه لم يتم التوصل لاتفاق مع الفلسطينيين في الضفة الغربية أو مع الأردن في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.

إننا نتحدث الآن عن شيء مضى عليه ثلاثون عاماً قبل أن يتشدد الفلسطينيون نتيجة الإذلال المتزايد الذي تعرضوا له على يد الاحتلال والمصادرات الكبيرة لأراضيهم ليرتع فيها المستوطنون اليهود حصراً. حينها لم يكن لـ <حماس> و <حزب الله> وجود ومنظمة التحرير الفلسطينية لم يكن معترفا بها دولياً. بل ان <حماس> في الواقع ظهرت بغض النظر من جانب إسرائيل لتكون شكلاً معاكساً لمنظمة التحرير. كان بالإمكان تحويل القضية الفلسطينية لو أجري اتفاق سلام مع الأردن إلى ما كانت عليه قبل 1967: <مشكلة أردنية أساساً>.

إن هذا الاحجام عن التوصل لاتفاق سلام يبدو أمراً مأساوياً بالنظر إلى ان عدد المستوطنين كان قليلاً ـ أقل من 3000 ـ وهؤلاء ما كانوا قادرين سياسياً على اجهاض أية خطوة إسرائيلية في هذا الاتجاه كما يفعلون الآن. أما اليوم فهناك 200 ألف يهودي يستوطنون الضفة الغربية وقطاع غزة حيث تضاعف عددهم مند معاهدة أوسلو العام 1993 وبوجود 200 ألف آخرين في أراضي القدس التي كانت خاضعة قبل 1967 للأردن يصبح عددهم 400 ألف. والمشروع الاستيطاني يواصل نموه الآن. ولنتخيل الأثر الذي سيكون على العملية السلمية في ايرلندا الشمالية لو أن الحكومة البريطانية تواصل نقل الألوف من البروتستانت من اسكتلندا وتوطينهم في ايرلندا الشمالية على نفقة الحكومة على أراضٍ صادرتها من الكاثوليك الايرلنديين.

* الحماقة المأساوية

لقد كان الاحتلال الإسرائيلي مشروعاً للحصول على المال إلى حد كبير. فحتى انفجار الانتفاضة بعد عشرين عاماً من الاحتلال كانت نفقات الابقاء على الاحتلال اقل من عوائد الضرائب التي تفرضها إسرائيل على الفلسطينيين، إلى جانب تحويل الضفة وغزة إلى سوق حصرية بالقوة للبضائع والخدمات الإسرائيلية. ميكاييل بن يائير، النائب العام لإسرائيل في عهد حكومة اسحاق رابين، كتب مقالاً في <هآرتس> مؤخراً، قال فيه: <حرب الأيام الستة كانت مفروضة علينا، غير ان اليوم السابع للحرب، والذي بدأ يوم 12 حزيران 1967 ـ لا يزال مستمراً حتى اليوم وهو نتاج اخترناه نحن. لقد اخترنا متحمسين ان نكون مجتمعاً استعمارياً وان نتجاهل كل المعاهدات الدولية وأن نصادر الاراضي من أصحابها وأن نرسل بالمستوطنين من إسرائيل إلى الأراضي المحتلة وان نشارك في النهب وان نجد أعذاراً لكل هذا>.

هذه كلمات شديدة، غير انها تصف الحماقة المأساوية التي اصفها حينما أقول ان بن يائير لم يضمن مثل هذه الآراء في أي بيان قانوني حينما كان النائب العام، كما كان يستطيع ان يفعل قبل تسع سنوات من الآن. اليوم أصبح المستوطنون أقوى جماعة ضغط سياسية في إسرائيل. فطوال السنوات الماضية كانوا يحصلون على الدعم عبر معونات حكومية سخية جداً ومنح من الأراضي وإيجارات سكن منخفضة ووظائف حكومية وخصومات ضريبية وخدمات اجتماعية تفوق ما يحصل عليه اليهود داخل إسرائيل. وأصبحت المستوطنات الآن وكأنها ضواحٍ لإسرائيل فمعظم المستوطنين يذهبون يومياً الى وظائفهم في القدس وتل أبيب.

وباستثناء قلة قليلة، فإن المستوطنات لم تجعل إسرائيل اكثر >أمناً< كما كان يدعى بعض الأحيان، بل جعلها أقل أمناً. إذ وسع المستوطنون الخطوط الدفاعية، وشكلوا لها عبئاً كبيراً جداً لحماية مستوطنات مبعثرة داخل الأراضي الفلسطينية كثيفة السكان ممن يشعرون بغضب متزايد باضطراد لما يلاقونه من تحكم لا فكاك منه بحياتهم ومن حظر تجول ومن عنف اضافة للإذلال الذي يتعرضون له على يد مجندي واحتياطيي الجيش الأجلاف وغير المنضبطين.

المثال على ذلك وجود لواء مدرع بأكمله في مكان واحد طوال السنوات الماضية لمجرد حماية مستعمرة صغيرة يسكنها متطرفون دينيون في مدينة الخليل. وهؤلاء يرون ان <مملكة اليهود> اصبحت قريبة المنال ووضعوا يدهم بشكل غير قانوني في بداياتها على منزلين مهجورين لتتعاظم بعد ذلك.أما في غزة فهناك مستعمرات مزدهرة لا تبعد سوى مئات قليلة من الأمتار عن معسكرات اللاجئين التي يسكنها الآن جيل ثالث ورابع ولد في اللجوء. وفي بضع دقائق فقط يشعر الزائر بأنه انتقل من جنوب كاليفورنيا إلى بنغلاديش عبر حواجز من الأسلاك الشائكة وأبراج المراقبة والأنوار الكاشفة والمدافع الرشاشة وحواجز الطرقات المحصنة في مشهد غريب ومفزع.

* المستوطنات .. <الوطن>!

كما يستشيط الفلسطينيون غضباً، وهم يرون بساتين الزيتون تقتلع وتحرق بيد المستوطنين، وتجف تمديدات المياه لديهم، وتؤخذ مصادر مياههم وأراضيهم التي ورثوها أباً عن جد ليستخدمها مستوطنون مترفون يعيشون حول أحواض السباحة ويستهلكون خمسة أضعاف ما يستهلكه الفلسطيني ـ في المتوسط. وفيما يحتل المستوطنون 20 في المئة من الضفة الغربية، فإنهم، وعبر ما يسمى بالمجالس البلدية، يتحكمون بالسياسة التنموية والحضرية لحوالي 40 في المئة من مساحة الضفة الغربية تبعاً للأرقام التي نشرتها مؤخراً منظمة >بيت سيلم< الإسرائيلية لحقوق الانسان.

والمستوطنون اليوم ما عادوا بالنسبة لباقي الإسرائيليين غرباء أو ممارسين للسطو. فجزء كبير منهم أصبح مستوطناً لأسباب نفعية، مثل الحصول على مسكن أرخص في محيط طبيعي جميل وعلى مسيرة بسيطة بالسيارة من إسرائيل. ومنذ 25 عاماً حتى الآن يتلقى المستوطنون الاشادة من حكومات اسرائيل باعتبارهم ابطالا ومواطنين طيبين وصهاينة صالحين. والمشروع الاستيطاني، على الأقل في الضفة الغربية، أصبح منذ وقت طويل حجر الزاوية للصهيونية والهوية الوطنية الإسرائيلية. واليوم هناك جيل ثانٍ من المستوطنين لا يرون فرقاً بينهم وبين باقي الإسرائيليين في تل أبيب أو طبرية. ومنذ اندلاع الانتفاضة الأخيرة وظهور موجة التفجيرات الفلسطينية ما عاد هؤلاء يمثلون مدافعين عن فكرة استيطانية انما مدافعون عن <الوطن>.

في العام 1993 قابلت ياسر عرفات في تونس، فيما كانت محادثات أوسلو السرية جارية. حينها لم يلمح عرفات أبداً ولو بالمواربة لمعرفته بأي شيء عن هذه المحادثات، على الرغم من أن بعض أعوانه قد فعل ذلك. كما أعرب عرفات طويلاً عن شكواه من رابين، وسألته: <ما الذي تريد من رابين أن يفعله؟>، أجاب: <إنه ليس ديغول. ليكن على الأقل ديكليرك!>. هذا الشيء كان غير مقبول للإسرائيليين. ففي عهد ديغول انسحب كل المستوطنين الفرنسيين من الجزائر، وفي عهد ديكليرك سمح البيض بأن يصبحوا أقلية في جنوب أفريقيا كبرى تسيطر على أغلبية سوداء، حينها رفض عرفات توضيح ما يعنيه بقوله.

واليوم يدعي اليمين الإسرائيلي انه لا يمكن التوصل لتسوية مستدامة مع الفلسطينيين، لكن إن كان زعمهم هذا صحيحاً، حينها فسيكون لدينا كل الحق في التأسف على الرعونة الاستراتيجية التي اتصف بها توسيع إسرائيل لخطوطها الدفاعية لتتضمن عدداً كبيراً من المستوطنات اليهودية الضعيفة والمبعثرة والمعزولة غالباً في قلب أرض فلسطين كثيفة السكان. فبدلاً من تقليص الخلاف عمقته. إذ هناك اليوم 200 مستوطنة تقريباً في الضفة الغربية وقطاع غزة وأكثر من 200 ألف مستوطن يهودي في القدس الشرقية وهذا كله يشكل حساسيات متفجرة قادرة على إجهاض أي تسوية تاريخية محتملة. كم كان من الأسهل الآن الرحيل لو بقيت إسرائيل بشكل أو بآخر قريبة من خط 1967 (والذي هزمت انطلاقاً منه، في نهاية المطاف ثلاث دول عربية في ستة أيام)! بدلاً من ذلك بدأت حكومة شارون، بدوافع سياسية أصلاً، ببناء سور مرتفع على امتداد هذا الخط وأسوار أخرى لا حصر لها حول مستوطنة وكل بلدة فلسطينية.

وفي كل يوم ترسل بالدبابات والمروحيات الهجومية لحماية الطرقات المؤدية لكل مستوطنة. ومع ذلك تتعرض لخسائر بشرية عالية واستدعت مزيداً من الاحتياط وتنشر قواتاً ضخمة في القدس لمنع منفذي العمليات الانتحارية من الوصول الى أحياء اليهود فيها. وفي كثير من الأحوال تفشل هذه الاجراءات الأمنية المكثفة في منع الهجمات، خاصة وأن التشابك المكثف بين الطرفين وفشل الأعمال الانتقامية يجعل من احباط عزيمتهم أمراً ميئوساً منه.

* حل <الدولتين> لم يعد عملياً

لقد انهار تيار الوسط في إسرائيل وفلسطين على السواء. والحديث عن <حل بدولتين> قد لا يبدو عملياً الآن لضياع الثقة على الجانبين. فالمتشددون المطالبون بإسرائيل الكبرى والمتشددون المطالبون بفلسطين الكبرى ينجحون في احباط أي تقدم. وقد استخدمت وصف <الكبرى> بتعمد مرير. فكلنا نعرف الشرور التي سببتها مشاريع >الكبرى< هذه في اتحادات أخرى من العالم <صربيا الكبرى> و <بلغاريا الكبرى> و <كرواتيا الكبرى> و <اليونان الكبرى>.

وإسرائيل اليوم تبدو على الأغلب انها ستواصل سيطرتها الميدانية على ملايين الفلسطينيين. ولا تعرف إلى متى. ومن المحتمل ان <الحل> المنشود سيؤجل إلى الجيل التالي وربما بعده. إذ ما الذي يعنيه ارئيل شارون حين قال انه يهدف لتفكيك ما أسماه بـ <البنية التحتية للإرهاب>؟ إن هذه <البنية التحتية> الحقيقية ليست ورشاً أو مشاغل يتم فيها تحضير الأحزمة الناسفة والمسامير الفولاذية وصواريخ الهاون يدوية الصنع. إن البنية التحتية الحقيقية هي أكثر خطراً بكثير: إنها تتضمن في وقت واحد الرغبة المتزايدة عند شباب مقهور لتفجير أنفسهم إضافة للثقافة السياسية والدينية في 21 دولة عربية تمجد من يقدمون على هذه الأعمال باعتبارهم شهداء. إن هذه <البنية التحتية> متمددة وربما لا يكون لها مركز ولا تستطيع أعتى قوة جوية في العالم ان تهزمها. ففي أفغانستان استطاع الأميركيون وضع حد لحكومة طالبان، لكن ليس لـ <القاعدة> التي لا تزال موجودة.

إن السباق بين زعامات اليمين على قيادة >الليكود< يزيد من جنوحهم نحو مزيد من اليمين. فشارون قال إنه لن يفكك ولو مستوطنة واحدة. قد لا يكون مثل هذا الزعم يشكل أي موقف تفاوضي، لكن بالنسبة للحياة السياسية يمثل بقاء الزعامة لقادة يعتمدون على اليمين والتطرف الديني اليهودي. إذ بابتلاع الشيء الوحيد الذي تستطيع إسرائيل أن تقدمه للفلسطينيين مقابل السلام ـ وهو الأرض الفلسطينية ـ فإن هذا المشروع الاستيطاني سيثبت كما أخشاه انه سبب زوال إسرائيل. كما قد يؤدي أيضاً الى خيارين كلاهما مرعب: تطهير عرقي بالكامل ضد الفلسطينيين أو عنف وتفجيرات انتحارية، وربما حروب من دون توقف.

وربما كانت مشكلة إسرائيل هي التفسخ التدريجي على مدى السنين لنوعية القيادة الإسرائيلية. كما أن لنظامها الانتخابي المعيب علاقة كبيرة بهذا باعتباره لا يشجع على ظهور أغلبيات برلمانية واضحة. والمحاولات الأخيرة للمس الدستور زادت من حدة الخلاف السياسي. ففي أقل من عقد واحد اغتيل رئيس حكومة على يد متطرف يهودي وفشل ثلاثة رؤساء للحكومة في إكمال دورة حكمهم. وتواصل الحكومات الإسرائيلية الاعتماد على تشكيل ائتلافات غير متجانسة تعطي ميزة قوية لجماعات الضغط الدينية وغيرها. وهذا التزعزع الدائم في الحياة السياسية فتح الطريق أمام القذارات وعقد الخوف والديماغوجية. كما أن الافلاس الأخلاقي لحزب <العمل> جعل سيادة <الليكود> أمراً لا مفر منه بكل حلفائه من المتعصبين الدينيين والوطنيين وأشباه الفاشيست.

قد يجادل البعض أن فرص السلام الضائعة كان لها لو نجحت أن توفر الكثير من الدم المراق مجاناً، كما يمكن الجدل أيضاً بأن مثل هذا <السلام> كان ربما سيتضح لاحقاً أنه سلام وهمي، وليس أكثر من وقف إطلاق نار مؤقت مع عدو مصمم على القضاء على العدوان، مثلما كان مصير الدولة الصليبية، التي مسحت من وجه الأرض بعد سلسلة من الهدنات واتفاقيات الصلح. فالجهاد بالنسبة لهؤلاء سيتواصل ويتواصل. انني هنا لا أقول إنه سيتوقف لكن معاهدتي السلام مع مصر والأردن قد تجاوزتا العديد من الاختبارات الصعبة جداً، وهو ما يشير الى ان الصراع العربي ـ الإسرائيلي لن يجد له حلاً إلا بوصول الإسرائيليين والفلسطينيين لتسوية.

إن طبيعة وتفاصيل مثل هذه التسوية أصبحت معروفة منذ سنين: تقسيم الأرض التي تصارعت عليها حركتا استقلال وطني طوال عقد تقريباً. ومهرجان الدبلوماسية في العقد الماضي أثبت بوضوح عقمه. وما سميت عملية سلام أوسلو المرحلية تعرضت لانتهاك الجانبين؛ إذ بتأجيل أصعب المشكلات إلى المرحلة الأخيرة شجعت الطرفين على التحايل عليها. وحينما فشلت القوة ظهر الميل لاستخدام مزيد من القوة، وهو ما أدى كما نرى جميعنا إلى طريق مغلق. إن السعي وراء حدود آمنة ـ حتى ولو لم يكن يتضمن السيطرة على شعب من قبل آخر ـ قد اشتط فيه الإسرائيليون كثيراً. فلا يمكن لحدود أن تعتبر آمنة بالمطلق قبل أن تبدو غير آمنة بالمطلق بالنسبة للجانب الآخر وبالتالي تجعل الحرب اللاحقة حتمية.

إن المشروع الاستيطاني الواسع بعد العام 1967، إلى جانب كونه ظالماً بالجملة، كان مشروعاً يدخل ضمن هزيمة الذات والتدمير السياسي لها. وليام بيتس قالها قبل أكثر من قرن في ظرف مشابه عاشته ايرلندا: <لقد ربينا قلوبنا على الأحلام فأصبحت قلوبنا غليظة أمام الإنصاف>.

إن المشروع الاستيطاني لم يعزز الأمن، بل أضعفه. وربما يقود أيضاً، وهنا أرتعد للتفكير بذلك، لنتائج أكثر فظاظة بأشواط من تلك التي نشهدها اليوم.

عن <<نيويورك ريفيو أوف بوكس>>

المصطلحات المستخدمة:

هآرتس, أمنا, الليكود

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات