المشهد الإسرائيلي

ملحق أسبوعي يتضمن مقالات صحفية وتحليلات نقدية ومتابعات عن كثب لمستجدات المشهد الإسرائيلي.

حسب ما رأيناه منذ منتصف الأسبوع الفائت ولعدة أيام، يمكن توقّع خبر مجلجل بعد فترة: جهاز الأمن الاسرائيلي أقام وحدة جديدة في صفوفه وقد تلقّت تدريباتها في شركة إنتاج هوليوودية. وباتت تتقن كافة خبرات الاثارة وصناعتها بل واثارة الاثارة نفسها.


فجأة، في ليلة مخطط لأحداثها وتوقيتها بدقة إعلامية مثيرة لرفع الحواجب المتراوحة ما بين الاستهجان والسخط، قررت أذرع "ما" أن تقول أنها "اكتشفت" طرفًا ارهابيًا بين الجماهير العربية في اسرائيل. وكالعادة، لم يكن ذلك ليمر كما يجري الأمر في العادة: اعتقال فتحقيق فمحاكمة والى آخره، لأن المطلوب مسبقًا كان الغلاف أو الرزمة التي تحيط بالقصة وليس مضمونها الغامض الضبابي بل مشبوه الشبهات التي ترويها.

القصة، وهي قصة، كانت اعتقال عدد من قياديي ونشيطي الحركة الاسلامية، الثلاثاء الفائت. وقد أعدت بعض أجهزة الأمن الاسرائيلية المختلفة حملة كاملة متكاملة، قوامها مئات العناصر المسلحة المدججة الذين اقتحموا مدينة أم الفحم في الظلمة، واهتمت باستقدام الصحفيين والمصورين لتوثيق آخر تفاصيل الدراما التي تحوّلت الى الموضوع الصحفي الملتهب رقم واحد. أحد المصورين أخبرني كيف أنه شارك ورأى، ولخّص: حتى الآن لم أفهم الحاجة في كل ذلك. بعدها كتب أحدهم متسائلا: لماذا لم تستدع الشرطة المعتقلين ببساطة الى احدى محطات الشرطة؟ وقارئة كتبت في إحدى صفحات الردود: لقد أرادت أوساط معيّنة صرف نظر الجمهور عن الورطة الاقتصادية في البلاد واختارت تنفيذ ذلك عبر حملة تحريض على المواطنين العرب، ومن يدري، فبعد فترة قد يتهمون العرب بالمسؤولية عن الوضع الاقتصادي أيضًا!

الاتهامات التي توجهها المؤسسة الرسمية الى المعتقلين سميت "مالية، ولكنها ترتبط بالارهاب بهذا الشكل أو ذاك" كما قالت ضابطة في قسم التحقيقات المركزي في الشرطة الاسرائيلية. وتابعت أن هذا ما يصعّب تفسيرها للرأي العام! وساعدها في الترويج لذلك أحد المعلقين التلفزيونيين ليزيد من قتامة صورة تطوع عدد من الصحفيين بالعمل ناطقين بلسان السادة. ولكن لم تقدم الشرطة أو النيابة حتى الآن ولو مؤشرًا واحدًا على مزاعمها. وكما قال أحد الزملاء: في العادة يسارعون الى تسريب ورقة أو وثيقة يكتنفها الغموض حتى تكتمل الصورة (بل حتى تزداد غموضًا) ولكنهم هذة المرّة لم يفعلوا حتى هذا. ومما يثير الدهشة ان الشرطة وأجهزة الأمن الاسرائيلية تقول انها تتابع هذه القضية منذ سنتين، فكيف سكتت إذن لسنتين على تواصل ما تزعم أنه دعم للارهاب؟ فهم بسبب وبدون سبب يعتقلون، فمن سيصدق انهم انتظروا سنتين على قضية بهذا الحجم الضخم والوزن الثقيل، حسب أوصافهم؟ وهنا من غير الممكن عدم التفكير في التوقيت والسلوك المخطط لطنطنة المسألة وكأنه تم القبض على أسامة بن لادن وليس سواه؟

الاحتمالات ليست قليلة: فمن إشغال الرأي العام بفقاعة حادة اللون، الى بث رسالة ملغمة الى الرأي العام الدولي مفادها "اننا نتعرض لهجمة ارهابية من الداخل" وحتى تعميق صورة ام الفحم ومنطقتها العربية كخارجة عن القانون – يرتسم أمام الأذهان أحد السيناريوهات التي باتت معروفة. وفي كل مرة يعاد فيها انتاج حلقة جديدة يتوجب البحث عما يختفي خلفها. ولا نحتاج الى الاستدراك على نمط القول إنه "في حال لم تثبت الاتهامات فـ..." لأن الجانب القضائي الصرف شبه مغيّب أصلا وليس هو ما يتم التعرّض له هنا. ولو ظل الأمر مقصورًا على القضائي لما اكتسب كل هذا الاكتناز المتورم. هذه المسألة سياسية، جرى انتاجها بدوافع سياسية، والنتائج المرجوّة منها لدى مثيريها هي سياسية أيضًا.

هذا هو ما يفسر ردود الفعل بشكلها وبمضمونها، في مختلف الأوساط. وكلها تقع في خانة السياسة، فمثلا، سارع رئيس الائتلاف الحكومي في الكنيست الى اعتبار المعتقلين وتيارهم "سرطانًا". هكذا، لا أكثر ولا أقل. لغة من عالم الرموز الخبيثة، استعارة ومباشرة معًا. ومن الطرف الآخر اعتبرت عدة حركات وتنظيمات يهودية يسارية هذه الاعتقالات وما أحاطها محاولة عنصرية جديدة لنزع الشرعية عن المواطنين العرب، وحملة لئيمة مفتعلة لضرب قضايا أخرى أو اختلاق ما يشكّل خلافها عبر تحويل العرب جميعًا الى كبش فداء.

أما الجماهير العربية، صاحبة الشأن ومن تقف في هذه العاصفة بصفة هدف لاطلاق نيران التحريض، فقد أطلقت ردها فورًا وبلغة ومفردات واضحة مفادها أن القضية تتجاوز حديث الجنائيات والأموال، وتتعداه الى ما لا يزال ماثلا في ذاكرة هذه الجماهير: حملات التحريض المقصودة والتحريض المرافق لقضايا يتم عرضها بما يفوق حجمها وإطارها وما يمكن أصلا تحميلها إياه. وهنا، في مختلف ردود الأحزاب الفاعلة بين الجماهير العربية وشعارات المظاهرات التي شارك فيها نشيطو كل التيارات (وإن لم تبلغ الزخم الذي جرى توقعه لها)، برز الموقف السياسي الذي يرفض قراءة ما يجري بمساعدة القاموس الرسمي بل يؤكد أن نهج حكومة اليمين المتطرف الاسرائيلية لا يزال يقوم على ما لا يقل عن معاداة الجماهير العربية (المواطنين!). ومن اللافت هنا اعلان لجنة المتابعة لشؤون المواطنين العرب المؤلفة من كافة التيارات تبنيها للمظاهرة القطرية في أم الفحم، السبت، والتي كانت أعلنت عنها الحركة الاسلامية. وفيها شارك أيضًا ناشطات وناشطون يهود رفضًا لهذه السياسة الحكومية المكشوفة.

أخيرًا، صحيح أن القضية لا تزال غير واضحة من حيث جوانبها القانونية ولكنها واضحة تمامًا في بعدها السياسي. ومن الزائد القول، كما يعبر عن ذلك الانطباع الشعبي أيضًا، إن هذه المحطة جديدة لكن النهج غير جديد بالمرة.

(حيفا)

المصطلحات المستخدمة:

الكنيست

المشهد الإسرائيلي

أحدث المقالات